ما بعد اغتيال شكر وهنية: تداعيات سياسة «حافة الهاوية» الإسرائيلية

  • مثَّلت عمليتا اغتيال القياديين في “حزب الله” فؤاد شكر، وحركة “حماس” إسماعيل هنية، تصعيداً إسرائيلياً نوعياً، ليس لأنهما استهدفتا شخصيتين نوعيتين ضمن “محور المقاومة” فحسب، بل لأن الاستهداف طال معقل “حزب الله”، كما طال عمق العاصمة الإيرانية طهران، الأمر الذي شكَّل اعتداءً على سيادة إيران ومسَّاً بهيبتها.
  • يبدو أن نتنياهو قد استند في القيام بالعمليتين إلى قوة موقفه في واشنطن، وبخاصة بعد خطابه في الكونغرس والدعم الذي حظي به من الحزب الجمهوري، لاسيما في ضوء احتمال عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في نوفمبر المقبل. 
  • مع أن سيناريو الحرب الواسعة بين إسرائيل و”محور المقاومة” الإيراني يظل وارِداً، إلا أن عدم رغبة إيران وحزب الله تحديداً في حرب واسعة مع إسرائيل، يُقلل من احتمالية هذا السيناريو. 
  • هناك حاجة لانخراط دبلوماسي دولي فوري وفاعل لخفض التصعيد بين إسرائيل و”جبهة المقاومة”، وضبط ردود أفعال الأطراف ضمن “حدود” لا تسمح بسيناريو الحرب الإقليمية، كما حصل في أزمة قصف القنصلية الإيرانية في دمشق. 

 

اتخذت إسرائيل في اليومين الأخيرين خطوة تصعيدية حين قامت في 30 يوليو باغتيال القائد العسكري في حزب الله اللبناني فؤاد شكر، بغارة جوية على بناية سكنية في حارة حريك بالضاحية الجنوبية أدت إلى وقوع قتلى وجرحى مدنيين أيضاً، وبعد بضعة ساعات فقط اُغتيلَ رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الفلسطينية، إسماعيل هنية، في مقر استضافته في طهران، بعد مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان.

 

ومع أن إسرائيل لم تعلن رسمياً عن مسؤوليتها عن اغتيال هنية، في حين تبنَّت عملية قتل شكر، إلا أن الشواهد كلها تُجمِع على أنها الجهة التي كانت وراءها. وبدا أن خطوة إسرائيل تلك، وهي أقرب إلى سياسة “حافة الهاوية”، تُنذِر بنقل التصعيد الحالي بين إسرائيل و”محور المقاومة”، بقيادة إيران، إلى مستوى حرب إقليمية شاملة.

 

دوافع نتنياهو وأهدافه

لم تُخْفِ إسرائيل أن استهدافها للقائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر (الملقب بالحاج محسن) جاء رداً على اتهامها حزب الله بالمسؤولية عن مقتل 12 طفلاً وجرح 30 آخرين في بلدة مجدل شمس الدرزية في الجولان المحتل. ومع أن حزب الله نفى مسؤوليته عن حادثة مجدل شمس، وادعى أن الصاروخ الذي سقط في ملعب كرة قدم بالبلدة كان من صواريخ منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي، إلا أن حكومة نتنياهو حملت الحزب المسؤولية، وتوعدته برد قاسٍ، باعتبار أن “حزب الله تجاوز الخط الأحمر”، بحسب تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت.

 

لقد كان جميع الأطراف يترقبون الرد الإسرائيلي، بمن فيهم حزب الله نفسه، ونشطت اتصالات دبلوماسية غربية تجاه لبنان لطمأنة الحزب بأن الضربة الإسرائيلية المتوقعة ستكون خارج بيروت والضاحية الجنوبية، كما هدفت هذه الاتصالات لإقناع حزب الله “بابتلاع” الضربة الإسرائيلية وفق مبدأ “ضربة بضربة”، علماً أن حزب الله أكد -وفق المصادر المقربة منه- أنه “سيردّ على الضربة بضربة موازية لها، وسيرد على استهداف أي منطقة مدنية بضرب منطقة مدنية داخل الكيان (الإسرائيلي)”. [1] وهذه الإجابة لحزب الله على الوسطاء تبدو متوافقةً مع قواعد الاشتباك التي فرضها الحزب منذ بداية الاشتباكات على الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية في الثامن من أكتوبر 2023.

 

في السياق نفسه، ومع أن نتنياهو لم يتطرق في خطابه المتلفز في 31 يوليو، إلى عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، في طهران، إلا أن كل المؤشرات تَشي بأن إسرائيل هي من تقف وراء العملية، وبخاصة أنه في خطابه ألمح إلى العملية حين قال إن “إسرائيل وجّهت ضربات ساحقة لوكلاء إيران”.

 

ولا شك في أن كلا العمليتين تمثلان تصعيداً نوعياً من إسرائيل، ليس لأنهما استهدفتا شخصيتين نوعيتين ضمن “محور المقاومة” فحسب، بل لأن الاستهداف طال الضاحية الجنوبية، التي تمثل معقل حزب الله، والتي تندرج ضمن حسابات خاصة في قواعد الاشتباك بين الحزب وإسرائيل، كما طال عمق العاصمة الإيرانية طهران، الأمر الذي يمثل اعتداءً على سيادة إيران ومسَّاً بهيبتها.

 

يبدو أن نتنياهو سعى من وراء عمليتي بيروت وطهران إلى تعزيز صورته في الداخل الإسرائيلي (AFP)

 

وقبل التعرُّض للتداعيات المحتملة للخطوة التصعيدية الإسرائيلية، يتعين أولاً تسليط الضوء على دوافعها وأهدافها، والتي يمكن تلخيصها في الآتي:

 

أولاً، على الرغم من أن المسؤولين الإسرائيليين أشاروا إلى أن عملية اغتيال شكر جاءت رداً على حادثة “مجدل شمس”، فإنَّ العملية تهدف إلى ترميم قدرة الردع الإسرائيلية التي تضررت منذ الثامن من أكتوبر. كما أن تعمُّد إسرائيل استهداف الضاحية الجنوبية ينطوي على رسالة تهديد إلى حزب الله مفادها أن إسرائيل قادرة على الوصول إلى قيادات الحزب في عقر دارهم، ولا يوجد رادع أمامها في ذلك.

 

ثانياً، لا يمكن استبعاد أيضاً أن استهداف شكر تحديداً، الذي كان على قائمة الإرهاب الأمريكية ووضعت الولايات المتحدة جائزة على رأسه، جاء ليؤكد ما قاله نتنياهو في خطابه أمام الكونغرس من أن إسرائيل تحارب أعداء الولايات المتحدة، وأنها لا تدافع عن نفسها فقط بل تدافع عن الولايات المتحدة أيضاً.

 

ثالثاً، تقف خلف عملية اغتيال إسماعيل هنية، دوافع عدة، أهمها: ترهيب “حماس” وضرب معنوياتها من طريق استهداف أعلى قائد سياسي فيها؛ وتحقيق مصلحة نتنياهو في تقويض مفاوضات التوصل إلى صفقة تهدئة وتبادل المحتجزين والأسرى مع “حماس” وإدامة الحرب، وهو ما أكده في خطابه المشار إليه أعلاه حين قال إنه “لم ولن يخضع لأي ضغوط بشأن إيقاف الحرب في غزة”.

 

اندلاع حرب إقليمية لا يصب في مصلحة الإدارة الأمريكية الحالية التي تواجه سنة انتخابية حاسمة، لذا من المتوقع أن تبذل كل الجهود الممكنة لعدم انفلات الصراع بين إسرائيل والمحور الإيراني

 

رابعاً، يبدو أن نتنياهو سعى من وراء عمليتي الاغتيال لتحقيق مصلحة شخصية تتمثل في تعزيز صورته في الداخل الإسرائيلي بوصفه زعيماً سياسياً قادراً على حماية إسرائيل وضرب أعدائها ومَن يمس أمنها أينما كانوا، مما يعزز شعبيته ومكانته السياسية داخلياً.

 

خامساً، مع أن مسؤولاً إسرائيلياً صرَّح بعد الضربة الجوية على الضاحية الجنوبية أن رد إسرائيل انتهى وأنها غير معنية بتوسيع الحرب مع حزب الله، إلا أن ثمة تحليلات ترى أن نتنياهو هدف من وراء توجيه الضربتين إلى الضاحية الجنوبية وطهران إلى جرّ إيران وحزب الله وبقية جبهة “المقاومة” إلى حرب إقليمية واسعة، ما يعني توريط الولايات المتحدة في هذه الحرب، باعتبار أنها ملتزمة بالدفاع عن إسرائيل، وهذا ما أكده وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عقب اغتيال شكر حين قال إن بلاده “ستُدافع عن إسرائيل إذا تعرّضت لهجوم من حزب الله رداً على الضربة الإسرائيلية”. وهذا السيناريو يُحقِّق لنتنياهو مصلحة شخصية بإطالة عمر حكومته، فضلاً عن مصالح سياسية تتعلق بحسم المواجهة مع إيران، وربما القضاء على قدراتها النووية بمساعدة أمريكية. في حين ذهب آخرون إلى أن نتنياهو ربما قصد من العملتين إظهار الصلابة أمام الجمهور الإسرائيلي والخروج بصورة نصر لإنهاء الحرب في غزة من موقع قوة.

 

وتجدر الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي موقف الولايات المتحدة من الخطوة التصعيدية الإسرائيلية، فمع أن وزارة الخارجية الأمريكية نفت مشاركة الولايات المتحدة في التخطيط لتنفيذ عملية اغتيال فؤاد شكر، كما نفت اطلاعها على عملية اغتيال هنية أو مشاركتها فيها، إلا أنه لا يُتصوَّر أن إسرائيل ستقوم بالعمليتين من دون موافقة واشنطن، أو على الأقل إخطارها بهما. ومهما يكن الأمر، فإنه يبدو أن نتنياهو قد استند في القيام بالعمليتين إلى قوة موقفه في واشنطن، وبخاصة بعد خطابه في الكونغرس والدعم الذي حظي به من الحزب الجمهوري، لاسيما في ضوء احتمال عودة ترمب إلى البيت الأبيض، في نوفمبر المقبل.

 

إيران، وإن كانت مضطرة للرد على اغتيال زعيم حركة حماس في عاصمتها، إلا أنها غير معنية بفتح حرب واسعة مع إسرائيل (AFP)

 

التداعيات الإقليمية ورد “جبهة المقاومة”

ما من شك في أن الحكومة الإسرائيلية حين أَذَنت بالعمليتين في الضاحية الجنوبية وطهران، كانت تدرك عواقب مثل هذه الخطوة التصعيدية، ومنها اندلاع حرب إقليمية واسعة، وهذا ما أوضحه نتنياهو في كلمته المشار إليها أعلاه حين قال إن “إسرائيل تتأهب لجميع الاحتمالات”، ومحذراً الإسرائيليين من أن “الأيام المقبلة ستكون صعبة”، إذ يبدو أن إسرائيل أخذت في حسبانها أن تواجه “انتقاماً مشتركاً ينطلق من الأراضي الإيرانية واللبنانية وربما اليمنية”، بحسب ما نقلاته هيئة البث الإسرائيلية.

 

وعليه، ما احتمالات أن يتجه “محور المقاومة” إلى فتح كل الجبهات (الإيرانية واللبنانية والعراقية واليمنية) مع إسرائيل؟

 

مع أن سيناريو الحرب الواسعة التي تشمل فتح كل جبهات “محور المقاومة” يظل محتملاً، إلا أنه لا يمكن غض الطرف عن محدد مهم يُقلل من احتمالية هذا السيناريو، وهو عدم رغبة إيران وحزب الله تحديداً في الحرب الواسعة مع إسرائيل، وهذا الأمر لم يكن جلياً في تصريحات المسؤولين الإيرانيين ومسؤولي حزب الله فقط، بل أيضاً في سلوكهما في الصراع منذ هجوم “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر، وأوضح دليل على هذا الأمر الرد الإيراني على استهداف إسرائيل لقنصليتها في دمشق، إذ على الرغم من توعُّد المسؤولين الإيرانيين إسرائيل، وعلى  رأسهم القائد الأعلى علي خامنئي الذي أكد أن إسرائيل “ستندم”، وأنها ستتلقى “صفعة” لمهاجمتها القنصلية الإيرانية في مطلع أبريل الماضي، فإنّ رد إيران الذي استهدف قاعدة جوية في 13 أبريل بدا “ضعيفاً”، وكان واضحاً أن إيران لم ترغب في استفزاز إسرائيل ودفعها إلى رد قوي بما يؤدي إلى فتح جبهة حرب بينهما.

 

ومع أن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية نقلت عن ثلاثة مسؤولين إيرانيين قولهم إن خامنئي أمر بضرب إسرائيل مباشرة بعد اغتيال هنية، إلا أن الصحيفة أوردت في الوقت نفسه عن هذه المصادر الإيرانية قولهم إن “القادة العسكريين الإيرانيين يدرسون هجوماً قد يشمل أهدافاً عسكرية في محيط تل أبيب وحيفا، لكنهم سيحرصون على تجنُّب الضربات على الأهداف المدنية”. ويتضح من هذا الاستدراك أن إيران، وإن كانت مضطرة للرد على “الصفعة” الإسرائيلية، إلا أنها غير معنية بفتح حرب مع إسرائيل من طريق استهداف منشآت مدنية. وما يُعزز هذا الرأي تصريح محمد رضا عارف، النائب الأول للرئيس الإيراني الجديد، بعد مقتل هنية مباشرة، حيث قال إن “طهران ليست لديها نية لتصعيد الصراع في الشرق الأوسط”.

 

ويبدو أن هذا المُحدِّد هو الذي جعل حكومة نتنياهو أكثر اندفاعاً نحو التصعيد، فمع تأكيدها أنها مستعدة لكل الاحتمالات، إلا أنها -فيما يبدو- ترجح عدم ذهاب إيران ووكلائها إلى ما قد يؤدي إلى انفلات حدود الصراع بينهما. ويبدو أن الإدارة الأمريكية تشارك إسرائيل التقدير نفسه، فقد اعتبر جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، أن اغتيال شكر وهنية “لا يساعدان” في احتواء التوترات الإقليمية، لكنه نفى وجود مؤشرات على تصعيد وشيك في الشرق الأوسط. وكان وزير الدفاع الأمريكي أوستن قد أدلى بالتصريح نفسه بعد مقتل شكر.

 

وما قد يَسنُد هذا التقدير، عاملان:

 

الأول، أن أغلب التوقعات تشير إلى أن الرد، سواء كان إيرانياً صرفاً أو مشتركاً ومنسَّقاً بين الجبهات الإيرانية والعراقية واللبنانية واليمنية، سيقتصر على أهداف عسكرية ويتجنَّب التعرُّض لأهداف مدنية، بحسب ما أكده المسؤولون الإيرانيون الذين نقلت عنهم صحيفة “نيويورك تايمز”.

 

الثاني، أن اندلاع حرب إقليمية لا يصب في مصلحة الإدارة الأمريكية الحالية التي تواجه سنة انتخابية، لذا فمن المتوقع أن تبذل كل الجهود الممكنة لعدم انفلات الصراع، ولدى الإدارة قنوات تواصل غير مباشرة مع طهران، فضلاً عن إمكانيات الضغط على إسرائيل، التي تضمن ذلك الهدف. ومع ذلك، لا يمكن الجزم بألا يتدحرج الرد والرد المضاد -بغير قصد أو بحسابات خاطئة- إلى حرب إقليمية واسعة.

 

استنتاجات

لا شك في أن خطوة إسرائيل باستهداف قائد عسكري كبير في حزب الله في الضاحية الجنوبية، وزعيم “حماس” في طهران، ستضطر إيران وحزب الله، وربما بقية الوكلاء، إلى الرد بالمثل، الأمر الذي قد يقود المنطقة إلى دوامة من التصعيد هائلة، وربما الانزلاق إلى حرب إقليمية واسعة، الأمر الذي لن يؤدي إلى تهديد الأمن الإقليمي فحسب، بل أيضاً المصالح الاقتصادية العالمية. ومن ثم فإن هناك حاجة لانخراط دبلوماسي فوري وفاعل، بقيادة الولايات المتحدة، لخفض التصعيد بين إسرائيل و”جبهة المقاومة”، وضبط الرد ورد الفعل ضمن “حدود” لا تسمح بسيناريو الحرب الإقليمية، كما حصل في أزمة قصف القنصلية الإيرانية في دمشق والرد الإيراني والرد الإسرائيلي المضاد في شهر أبريل الماضي. كما يتعين على جهود الدبلوماسية الدولية والإقليمية ألا تكتفي بخفض التصعيد، بل بتحويل هذا التهديد إلى فرصة من طريق الدفع سريعاً باتفاق التهدئة وتبادل المحتجزين والأسرى بين “حماس” وإسرائيل في غزة، الأمر الذي سيسهم في تهدئة باقي ساحات الصراع في الإقليم، ولو إلى حين.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/ma-baad-aightial-shukr-wahaniya-tadaeiat-siasat-hafat-alhawya-al-iisrayilia

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M