القطاع العام والخاص والتنمية

قرأنا فى دروس التربية الوطنية ونحن صغارا عن النظام الاقتصادى المصرى القائم على ركيزتين، هما القطاعان العام والخاص. كنت أواجه صعوبة فى فهم التعريف المدرسى للقطاعين العام والخاص، ففهمى المتواضع رأى فى هذا التعريف تناقضا مع الواقع. كان رأيى هو أنه من الأصوب لو أن عملية تبادل أسماء حدثت بين القطاعين؛ لأن ما يطلقون عليه القطاع العام هو فى الحقيقة قطاع خاص جدا،غير مفتوح لعموم الناس، فهو مملوك للدولة، والدولة عندنا كيان بعيد يحكم من قمة عالية، يديره بيروقراطيون يصعب النفاذ إلى صفوفهم، يتعاملون مع المواطنين باستعلاء وتعسف، تلخصها عبارات من نوعية «فوت علينا بكرة» و«شوف مصلحتك يا سيد»، و«ادفع وبعدين اتظلم»، وهى عبارات شاع استخدامها فى برامج إذاعية كلاسيكية محفورة فى الذاكرة مثل «همسة عتاب» و«كلمتين وبس». على العكس من ذلك فإن أى مواطن من عموم الناس يمكنه أن يؤسس مشروعا اقتصاديا مملوكا له بشكل خاص، بدءا بكشك صغير انتهاء بمصنع كبير، فهذا أمر متاح لعموم الناس بلا تمييز، وبلا عوائق تمنع الدخول إلى السوق أو الخروج منها، لذا فإن هذا هو ما يستحق فعلا أن نطلق عليه قطاعا عاما.

نجحت فى إقناع نفسى بالتعريف المدرسى للعام والخاص، وإن كنت مازلت أرى بعض الوجاهة فى الأفكار القديمة. دعك من مشكلة التعريفات، فالأهم من هذا هو أننا مازلنا مترددين فى اختيار القطاع الأنسب لتولى قيادة التنمية الاقتصادية فى بلادنا، فسياساتنا التنموية تتحرك كالبندول، مرة فى اتجاه العام ومرة فى اتجاه الخاص. فبعد طلعت حرب وبنك مصر جاءت التأميمات الاشتراكية، ليعقبها انفتاح اقتصادى، تلاه مرحلة الثورات وفيها تم تهميش القطاع الخاص ومحاصرته. إصدار وثيقة سياسة ملكية الدولة، والتأكيد المتكرر مؤخرا على تشجيع القطاع الخاص يشير إلى أن بندول السياسات يتجه ناحية القطاع الخاص، دون ضمانة تمنع تحوله للاتجاه الآخر فى وقت لاحق لو توافرت الظروف الملائمة، لهذا من الضرورى فتح نقاش جاد حول هذه القضية، لعلنا نصل إلى قناعات تحمينا من التقلب بين الآراء والسياسات.

التحقت الدولة بمسار التحديث والتنمية متأخرة كلما زاد دورها فى تنمية الاقتصاد وتوجيه المجتمع. الدولة فى ألمانيا لعبت دورا أكبر منها فى إنجلترا وأمريكا، وهى فى اليابان والصين وكوريا تلعب دورا أكبر من الدور الذى لعبته فى بلاد الغرب. الدور القيادى للدولة فى عملية التنمية فى بلادنا لا غنى عنه. لكن القيادة تختلف عن الملكية ولا تختزل فيها. ملكية الدولة هى طريق سهل للسيطرة، وهى أيضا الطريق الأسرع لإفشال الدولة وإحباط التنمية، ويكفينا نموذجا ما حدث للاتحاد السوفيتى، وما حدث أيضا لبلادنا بعد التأميمات. الدولة التنموية الناجحة تفرض قيادتها وهيمنتها دون التورط فى ملكية وسائل الإنتاج، إلا بشكل انتقالى وبشروط خاصة؛ هذه هى خبرة اليابان وكوريا وتايوان وسنغافورة وتركيا ودول كثيرة أخرى.

القطاع الخاص يسعى لتحقيق الربح، وليس من اهتماماته تحقيق التنمية. تحقيق الربح هو وظيفة القطاع الخاص، وتحقيق التنمية هو وظيفة الدولة، ومن الضرورى التمييز والفصل الصارم بين الوظيفتين. وظيفة الدولة هى صنع السياسات التى تؤدى إلى تحويل سعى المستثمرين الأفراد وراء الربح بصورة أنانية إلى تنمية لكل المجتمع والوطن والدولة. لا توجد يد خفية تحول أرباح المشروعات الخاصة إلى تنمية، لكن توجد دولة تعمل لصالح الرفاه والخير الجماعى للوطن.

تتعرض وظيفة الدولة التنموية للخطر عندما تسعى الدولة إلى الربح عبر امتلاك مشروعات اقتصادية ربحية بطبيعتها. عندما تسعى الدولة إلى الربح فإنها تتخلى عن دورها كسلطة العقل الوطنى الأعلى والأشمل، وتتحول إلى سلطة جماعة المصلحة الضيقة الدائرة فى فلك المشروع الربحى.

يرى أنصار القطاع العام أن القطاع الخاص لا يشغله سوى تحقيق الربح، بينما المصلحة العامة هى الحافز المحرك للقطاع العام. التفكير بهذه الطريقة يفترض وجود كيان مجرد يرسم السياسات ويأخذ القرارات فى القطاع العام، فى حين أن الحقيقة هى أن القرارات يأخذها بيروقراطيون أفراد يشغلون مناصب تخولهم التحدث باسم المصلحة العامة، ومنهم وزراء ووكلاء ومديرون ومستشارون لكل منهم أهداف وأولويات يحرص عليها عند رسم السياسات واتخاذ القرارات. الموظف العام الذى يستهدف المصلحة العامة وحدها هو كائن تخيلى غير موجود، فالموظف العام لديه مصالح خاصة تأخذ شكل الكسب المادى، والترقى، وتمديد الخدمة، وتخصيص مزيد من الموارد والسلطات والاختصاصات للهيئة التى يديرها، أما القرار النهائى الذى يتم اتخاذه باسم الإرادة والمصلحة العامة فيكون نتيجة لعملية مساومة بين لاعبين كثيرين، تضعف صلته بالمصلحة العامة المجردة. الربح هو الدافع الوحيد والصريح للقطاع الخاص، فيما أهداف القطاع العام متعددة، بعضها فقط صريح وواضح، فيما يتخفى بقيتها وراء شعارات المصلحة العامة.

هناك مخاطر قد تترتب على صنع السياسات العامة، والقاعدة هى أن هذه المخاطر تقل كلما ركزت القرارات الحكومية على صنع السياسات، بينما تزيد المخاطركلما اتجهت السياسات العامة لإنشاء المشروعات الاقتصادية، وفيها تتداخل دوافع الربح والمصلحة العامة بطريقة مربكة، فمن الأفضل الإبقاء على الدولة فى موقع صانع السياسات، والنأى بها عن إنشاء وإدارة المشروعات الاقتصادية ذات الأهداف الربحية. هناك إدارة عامة، هذا هو اختصاص الدولة، وهناك إدارة أعمال، وهذا هو اختصاص القطاع الخاص، ويجب على الدولة ألا تهمل الإدارة العامة لتنشغل بإدارة الأعمال.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/47458/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M