ظاهرة “الذئاب المنفردة” وخطورتها على أوروبا

أُلغيت حفلات المغنية الأمريكية “تايلور سويفت” الثلاث المقررة في فيينا بالنمسا، بعد اكتشاف وإحباط مخطط هجوم إرهابي يستهدف رواد هذه الحفلات. وألقت السلطات النمساوية القبض على شخصين يشتبه في تخطيطهما لهجوم على حدث عام في المدينة، وأظهرت اعترافات المشتبه بهم، وبعض منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي أنهم مستوحون من تنظيمي الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، وأنهم كانوا يهدفون إلى استهداف الحشد الكبير الذي سيتجمع لحضور حفلات “تايلور سويفت”، سواء داخل أو خارج استاد “إرنست هابل” الذي كان من المقرر عقد الحفلات فيه، ومع اقتراب هذه الاعتقالات من مواعيد العروض المقررة أُثيرت بعض المخاوف من تنفيذ مخطط مشابه مما أدى لإلغاء الحفلات، وهو ما أثار بدوره تساؤلات حول مدى خطورة ظاهرة “الذئاب المنفردة” على أوروبا في الفترة الأخيرة، وتأثرها بالأزمات العالمية.

مفهوم “الذئاب المنفردة”

 “الذئاب المنفردة” هو مصطلح يُستخدم لوصف أشخاص يرتكبون أعمال عنف، عادة ما تكون إرهابية، بشكل منفرد ومستقل وبدون توجيهات مباشرة من مجموعة إرهابية منظمة. ولكن على الرغم من استقلالية هذه الأعمال، إلا أنها غالبًا ما تكون متأثرة بأفكار وأيديولوجيات هذه المجموعات. ويميز “الذئب المنفرد” بعض الخصائص، أولها الاستقلالية، حيث يقوم بتنفيذ العمليات بشكل فردي دون تنسيق مع خلايا إرهابية أخرى، وهو ما ينقلنا إلى ثاني الخصائص وهي التأثر بالأيديولوجيات، حيث أن الدافع الأساسي لتصرفات “الذئاب المنفردة” هو التأثر بالأفكار المتطرفة أو أيديولوجيات مجموعة معينة معينة، مثل التطرف الديني أو حتى القومي في بعض الأحيان، والتي تدفعهم لارتكاب أعمال عنف. أيضًا مما يميز “الذئاب المنفردة”، الدوافع المتعددة، حيث يمكن أن تكون دوافعهم نفسية أو اجتماعية أو سياسية، وقد تشمل أيضًا الرغبة في الانتقام أو الشهرة أو تحقيق هدف أيديولوجي.

ويُعد تأثير وسائل الإعلام من الأسباب الرئيسية لتطور وانتشار هذه الظاهرة، فمع تطور وسائل الإعلام، أصبح من السهل على الأفراد الوصول إلى المواد التحريضية والتواصل مع أفكار متطرفة. كما ساهمت شبكات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في تسهيل عملية التجنيد والتخطيط للهجمات، مما جعل من السهل على الأفراد الانضمام إلى شبكات متطرفة دون الحاجة إلى السفر أو الاجتماع بشكل مباشر. ولا يمكن تجاهل تأثير الحروب في الشرق الأوسط مثل الحرب في العراق وسوريا وليبيا بالإضافة إلى الحرب حاليًا في غزة، فقد لعبت دورًا هامًا في زيادة أعداد الذئاب المنفردة في أوروبا، خاصة في ظل زيادة الهجرة من بعض الدول غير المستقرة أمنيًا في الشرق الأوسط وإفريقيا.

تتعدد دوافع “الذئاب المنفردة”، فعلى سبيل المثال الشعور بالإقصاء يُعتبر من الدوافع الرئيسية، فغالبًا ما يشعر هؤلاء الأشخاص بالإقصاء والتهميش في المجتمعات التي يعيشون فيها، مما يدفعهم إلى البحث عن هوية جديدة في الجماعات المتطرفة. الرغبة في الانتقام أيضًا تكون من الدوافع وراء هجمات “الذئاب المنفردة”، سواء الرغبة في الانتقام من المجتمع ككل أو فئات معينة من المجتمع أو حتى من الحكومات. بالإضافة إلى ذلك، فغالبًا ما يكون للذئاب المنفردة معتقدات أيديولوجية متطرفة، مثل التطرف الديني أو السياسي، وهو ما يسهل تحفيزهم لتنفيذ أعمال عنف.

أيضًا من أكبر المشاكل التي تشكلها تلك الظاهرة هي أن تتبع هؤلاء الأفراد يكون في غاية الصعوبة، فمن الصعب التنبؤ بالأشخاص الذين من الممكن أن ينجذبوا لهذه الأفكار شديدة التطرف، هذا بالإضافة إلى أن التخطيط والتنفيذ لمثل هذه العمليات يكون فرديًا بشكل تام بدون التواصل أو أخذ التعليمات من أي أفراد أو منظمات، وهو ما يجعل فرص معرفة الأجهزة الأمنية لهذه المخططات ضئيلة للغاية. وحتى محاولات التصدي لهذه الظاهرة عن طريق القوى الناعمة غير مجدية إلى الآن، خاصة وأن التنوع الشديد في فئات معظم المجتمعات الأوروبية، يجعل من المستحيل إرضاء جميع هذه الفئات، فما يرضي فئة يغضب فئة أخرى، وهناك أشكال للتطرف في كل الفئات بدون استثناء، مما يجعل خطورة ظاهرة “الذئاب المنفردة” موجودة في كافة فئات المجتمعات الأوروبية في حال تهيأت لها الظروف المناسبة.

تطور ظاهرة “الذئاب المنفردة” في أوروبا

إن مفهوم “الذئاب المنفردة” موجود منذ عقود من الزمان، لكن اكتسب المصطلح شعبية في أواخر التسعينيات، وقد غذى استخدام الإنترنت صعود إرهاب “الذئاب المنفردة”. يتم التركيز في وسائل الإعلام على “الذئاب المنفردة” من المتطرفين الإسلاميين، إلا أنهم يأتون من خلفيات أيديولوجية مختلفة، حيث استخدم المتطرفون اليمينيون والانفصاليون ومناهضو الإجهاض استراتيجية “الذئب المنفرد”. وهناك قلق متزايد بشأن هجمات الذئب المنفرد المتطرفة اليمينية، كما كان الحال في قضية “أندرس بيرينج بريفيك” في النرويج، في عام 2011 حيث كان يمتلك أفكارًا متطرفة ضد الإسلام وسماح الدول الأوروبية بزيادة أعداد المهاجرين، مما دفعه لاقتحام تجمع لحزب العمال الحاكم وفتح النار، مما أسفر عن قتل ما لا يقل عن 85 شابًا.

لكن هذا لا ينفي تزايد تجنيد المنظمات الإرهابية لمن يصلحون أن يكونوا ذئابًا منفردة، حيث شهدت السنوات الأخيرة زيادة في هجمات “الذئاب المنفردة” في أوروبا، حتى بعد هزيمة داعش في العراق وسوريا، حيث تشجع الجماعات المتطرفة مثل القاعدة وداعش الأفراد على تنفيذ هجمات نيابة عنها. وتحول تنظيم القاعدة إلى الترويج لهجمات “الذئاب المنفردة” ردًا على حالته الضعيفة، وأصبحت حاليًا هذه الهجمات بديلاً للعمليات المنظمة.

وحتى قبل هزيمة داعش في العراق وسوريا، كان هناك الكثير من العمليات المشابهة في أوروبا، فعلى سبيل المثال عانت فرنسا من هذه الهجمات بشكل كبير في عام 2015، حيث كانت البداية في الهجوم على صحيفة “شارلي إبدو” الساخرة الفرنسية، في يناير 2015، كرد فعل على نشر الرسومات المسيئة للدين الإسلامي، هذا بالإضافة إلى هجمات باريس في نوفمبر من نفس العام، حيث اقتحمت مجموعة مسلحين مسرح “باتاكلان” وأطلقوا النار بشكل عشوائي، واحتجزوا الباقين كرهائن، ولم تداهم الشرطة الفرنسية المسرح وتنهي عملية الاحتجاز، إلا بعد تفجير ثلاثة من المسلحين لأنفسهم، وأسفرت هذه العملية عن مقتل حوالي 130 شخص، وكانت هذه العملية بمثابة نقطة تحول، حيث أظهرت قدرة ظاهرة “الذئاب المنفردة” المدمرة.

ردًا على التهديد المتزايد، نفذت الدول الأوروبية تدابير مختلفة لمكافحة الإرهاب، بما في ذلك زيادة تبادل المعلومات الاستخباراتية وتعزيز المراقبة والمشاركة المجتمعية. ومع ذلك، وبالرغم من أنه لم يتم تنفيذ عمليات بنفس قوة هجمات باريس في عام 2015 حتى الآن، إلا أن السنوات اللاحقة شهدت سلسلة من هجمات “الذئاب المنفردة” في مختلف أنحاء أوروبا، استهدفت أهدافًا سهلة مختلفة مثل وسائل النقل العام والأماكن العامة وأماكن العبادة. وقد أبرزت هذه الهجمات ضعف المجتمعات المفتوحة وصعوبة الحماية من الأفراد الذين تحركهم أيديولوجيات متطرفة.

إلى أي مدى تصل خطورة “الذئاب المنفردة”؟

نجحت الشرطة النمساوية في إحباط مخطط الهجوم على حفلات “تايلور سويفت”، وهو ما يمكن اعتباره تقدمًا، إلا أن نجاح الشرطة في تتبع التخطيط وإحباط العملية قبل أيام من تنفيذها جاء نتيجة لنشر المقبوض عليه منشورات تشير إلى دعمه لتنظيم داعش، مما دفع الشرطة وأجهزة الاستخبارات لتتبعه وبالتالي معرفة مخططاته والقبض عليه، وأظهرت التحقيقات تعاونه مع شخص آخر، تم القبض عليه أيضًا، وتأثر كلاهما بأيديولوجيات تنظيمي داعش والقاعدة. وهو إن دل على شيء فهو يدل على أنه لولا المنشورات المؤيدة لداعش وأيديولوجياته، لكان من المرجح أن تتم العملية الإرهابية بنجاح.

ولا تعد مثل هذه الحوادث جديدة في النمسا، ففي الثاني من نوفمبر 2020 تم تنفيذ واحدة من أحدث عمليات “الذئاب المنفردة”، حيث أطلق شاب، يبلغ من العمر 20 عامًا، النار على أربعة أشخاص وأصاب 23 آخرين بجروح خطيرة في وسط مدينة فيينا. وتمكنت الشرطة من تصفية المهاجم وألقت القبض على 15 شخصًا وأجرت 18 عملية تفتيش للمنازل. وعملت السلطات مع نظيراتها في سويسرا وألمانيا ودول أخرى لتحديد هوية شركاء المهاجم واعتقالهم. وبالرغم من أن الشرطة لم تتحقق من صحة ادعاء داعش بالمسؤولية عن الحادث، إلا أن المسؤولين النمساويين أشاروا إلى أن المسلح كان قد أدين سابقًا بمحاولة السفر إلى سوريا للانضمام إلى داعش.

أثار هذا الوضع الكثير من المخاوف حول مدى خطورة “الذئاب المنفردة” خاصة في أوروبا، وأثار أيضًا بعض التساؤلات حول ما إذا كانت خطورته ستزداد، أو ما إذا سيتطور الوضع ليصل إلى تواجد حقيقي للإرهاب المنظم في أوروبا. وبالرغم من أنها مخاوف قد تبدو منطقية في البداية إلا أنها سيناريوهات غير مرجحة، فمن جانب السلطات الأوروبية فهنالك تقدم ملحوظ في أشكال التصدي لمثل هذه العمليات، بالرغم من صعوبة هذا، وفي نفس الوقت فإن هذه الإجراءات التأمينية تؤكد قدرة الدول الأوروبية على التصدي لأي شكل من أشكال الإرهاب المنظم، ومنع تكوينه من الأساس. وبالإضافة إلى ذلك فإن تأثير منظمات مثل داعش والقاعدة ضعف بدرجة لا يستهان بها، فبالرغم من اعتمادهم على فكرة “الذئاب المنفردة” إلا أن هذا لا يعني زيادة قوتهم، بل يعني أنهم لا يمتلكون أي أدوات أخرى.

ومن الزاوية الأخرى فإن تطور القدرات الأمنية الأوروبية ومحاولات الحد من الهجرة لا يعنيان الانتهاء من تهديد حدوث عمليات تندرج تحت مظلة “الذئاب المنفردة”، حيث يظل تتبع المخططات والتحركات الفردية في غاية الصعوبة، خاصة في المجتمعات الأوروبية المفتوحة، هذا بالإضافة إلى أن الوضع العالمي الحالي يحفز على هذه التوجهات بشكل أكبر، سواء استمرار الحرب والمجازر في غزة أو الصراع الغربي مع إيران، وأيضًا الحرب الروسية الأوكرانية، وغيرها مما يحرض على التطرف في الكثير من الاتجاهات الدينية والسياسية والاجتماعية.

وختامًا، إن خطورة “الذئاب المنفردة” ما زالت قائمة، وتكمن في صعوبة التعامل معها أمنيًا من جانب، وفي زيادة انتشار التطرف في كافة الاتجاهات على المستوى العالمي مؤخرًا من جانب آخر. ولكن بالنظر للوضع بشكل مجرد فإن هذه الخطورة لا تتعدى استمرار هذه الظاهرة وتكرار بعض العمليات من فترة لأخرى، ولا يشير الوضع الحالي أيضًا إلى أي احتمالات قوية لتواجد الإرهاب المنظم في الدول الأوروبية، أو حتى انتشار ظاهرة “الذئاب المنفردة” بشكل غير مسبوق. ولكن هذا لا يعني التعامل مع المسألة بأي درجة من درجات التهاون، ولا يجب التعامل معها أمنيًا فقط ولكن من اللازم أيضًا أن يستفيق العالم من النوبة الاستقطابية التي أصابته في الفترة الأخيرة والتي ينتج عنها الكثير من الصراعات والتطرف، وهو ما يعتبر التهديد الأكبر ليس لأوروبا فقط بل للعالم كله، حيث أنه يهدد بظهور وانتشار كل أشكال الصراع والعنف وليس الإرهاب فقط.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82210/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M