بعد أن صوت الناخبون البريطانيون بفارق ضئيل لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016، اتسمت البيئة السياسية البريطانية بالاضطراب والارتباك، ففي خريف عام 2022 شهدت البلاد تغيير ثلاثة رؤساء وزراء خلال شهرين، ما يعني أن الاضطرابات والارتباكات سادت المشهد السياسي، ولم يكن التعايش مستقراً ازاء البريكست، لكن في عام 2019، كان بوريس جونسون، قادرا على إعادة فرض النظام من جهة، واحلال التعايش مع البريكست من جهة اخرى.
ولكن ريشي سوناك الذي وجد نفسه في منصب رئيس الوزراء، نجح ايضاً في استعادة قدر ضئيل من النظام، لكنه واجه مشاكل عديدة في المجال العام، والتي كان العديد منها من صنع حزبه المحافظ، وهذا ادى إلى فوز ساحق لحزب العمال في انتخابات يوليو الماضي التي افرزت تولي كير ستارمر رئاسة الحكومة البريطانية الجديدة.
ان اسباب خسارة المحافظين واستمرار الاضطرابات، كانت بسبب ان السياسة البريطانية تهيمن عليها المناقشات الانقسامية حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي منذ الاستفتاء، اذ أدى فشل تيريزا ماي في تقديم صفقة مقبولة لجناح (خروج بريطانيا الصعب) في حزب المحافظين إلى استقالتها في عام 2019. وبعد خلافتها مع الحزب، تمكن بوريس جونسون من الوفاء بوعده بإعادة التفاوض على اتفاقية الانسحاب بشكل انتقالي للمملكة المتحدة مع الاتحاد الأوروبي، وقد منحه انتصاره الحاسم اللاحق في الانتخابات البرلمانية في كانون الأول 2019، والذي بني جزئياً على نجاحه في جذب الناخبين التقليديين لحزب العمال، الأغلبية الوافرة التي يحتاجها لإتمام صفقته.
ولكن عندما بدأ التأثير الأولي لتلك الصفقة، دفعت جائحة كوفيد-19 خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى التراجع، في حين أخفت أيضاً بعض عواقبها الاقتصادية. وتعرض جونسون لانتقادات بسبب استجابته الأولية للجائحة وقيودها، لكنه استفاد في نهاية المطاف من استعداده للمخاطرة عندما أتت تحركاته السريعة لتأمين اللقاحات بثمارها. وبعد النجاة من مشاكل متعددة بشأن تعامله مع الجائحة، أطاحت به فضيحة ذات صلة بالجائحة عرفت بفضيحة بارتي غيت في تموز 2022 ادت الى استقالته.
وما تلا ذلك كان غير مسبوق من حيث قِصَر فترة تولي خليفته لمنصبه، ليز تراس بعد ان اقترحت ميزانية دفعت أسواق السندات والعملات إلى حالة من الاضطراب المالي، وفي خضم ردود الفعل العنيفة، أُجبرت على الاستقالة بعد 44 يوما فقط من توليها منصبها، وسلمت رئاسة الوزراء ــوالتحديات المتعددة التي تواجهها البلادــ إلى ريشي سوناك، هذه الفوضى أطلقتها ليز تراس واثرت على السباق الانتخابي لحزب المحافظين الذي خسره الحزب قبل اقل شهرين.
كانت الفوضى التي خلفها حزب المحافظين منذ البريكست بمثابة نعمة لحزب العمال، الذي كافح تحت قيادة ستارمر لإلحاق ضرر دائم بجونسون ومن خلفه، ومنذ فوز حزب العمال في انتخابات تموز الماضي، حاول ستارمر إيجاد توازن بين التحرك السريع لتنفيذ أجندته وإدارة التوقعات الشعبية، نظرا للتحديات المالية والحوكمة التي ورثها بعد 14 عاما من حكم حزب المحافظين. وفي الوقت نفسه، يبقى مستقبل المملكة المتحدة غير مؤكد، والافتقار إلى الوضوح له آثار عالمية ستظهر لاحقاً.
كانت لندن حريصة على التفاوض على صفقات تجارية بعد خروج بريطانيا، بدءاً من الولايات المتحدة، للتأكد من عدم انقطاع الصادرات الحيوية؛ لكن نفوذها للقيام بذلك قد تضاءل بشكل خطير، وفي الوقت ذاته، أثبتت الصفقة التي تفاوض عليها جونسون بشأن علاقة تجارية دائمة مع الاتحاد الأوروبي، والتي دخلت حيز التنفيذ في الأول من كانون الثاني 2021، أنها مدمرة لتجارة المملكة المتحدة مع شركائها السابقين في الاتحاد الأوروبي كما توقع المنتقدون في حينها وحتى بعض المؤيدين.
وبعيدا عن التجارة، تظل الأسئلة قائمة حول مدى النفوذ الذي يمكن أن تتمتع به بريطانيا كقوى كبرى عالمياً في عالم يتسم بشكل متزايد بالمنافسة الجيوسياسية بين القوى العظمى بعد البريكست ووصول حزب العمال للسلطة.
في الحقيقة ان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والسياسة البريطانية المضطربة والتحولات السياسية الحاصلة الان تثير عدة تساؤلات عن مستقبل البريكست وحول ما سيحدث بعد ذلك؟، لان الانكليز منقسمون ازاء بريكست، والحزبين كذلك وهنالك تردد ازاء الخروج من الاتحاد الاوربي سياسياً وشعبياً، وما يعبر عن هذا التردد هو قيام وزيرة الشؤون الأوروبية السابقة في فرنسا عام ٢٠١٩ ناتالي لوازو باطلاق اسم بريكست على قطتها وحينما سألت عن ذلك اجابت إنها اختارت هذا الاسم للقطة “لأنها توقظني كل صباح بموائها القوي والمتكرر لأنها تريد الخروج، ولكنني عندما أفتح لها الباب، تبقى في الوسط، مترددة، ثم تقدحني بنظرة ساخطة عندما أضعها في الخارج”. وهذا التردد والانقسام هو واقع حال البريطانيين والذي سيكون بيضة القبان التي ستحدد مستقبل بريطانيا سياسياً واقتصادياً، وسيبقى علامة فارقة في استدامة الانقسامات والصراعات في المملكة.
من المؤكد الان ان ستارمر سيحاول الخروج من هذا المأزق، من خلال مقاربة وسطية، فهو لن يذهب لاستفتاء آخر على الخروج من الاتحاد الاوربي، لكنه سيعمل على تحسين العلاقات الاقتصادية والمالية والسياسية مع الاتحاد الأوروبي بعد توليه منصبه، ما سيدفع حزب المحافظين بعد هزيمته الانتخابية وهو بالمعارضة محاولة استعادة موقعة وسيكون البريكست وتداعياته محور هذا التنافس والصراع بين الحزبين في المرحلة الحالية والقادمة، الذي من خلاله سيحدد ما هو نوع الدور العالمي الذي ستلعبه المملكة المتحدة في المستقبل.
المصدر : https://www.mcsr.net/news918