منذ بداية الحياة الإنسانية، اجتهد البشر لابتكار وسائل توفر لهم الحياة الكريمة ومواجهة أعباء الحياة عند المرض أو التقدم في السن والشيخوخة. وفي المجتمعات القديمة، ابتكرت أساليب مختلفة لضمان استمرار العيش الكريم، وبدأت المجتمعات الأوروبية منذ القرن السادس عشر في تطوير منظومات تعمل من أجل الضمان الاجتماعي للأفراد، وتشكلت جمعيات تضم عمالا وأجراء يعملون في مختلف القطاعات لمساعدة الأعضاء بعد رحلة العمل الطويلة في الحياة. صدر القانون الانكليزي “Poor Law” أو قانون الفقراء، في عام 1601 ليؤكد أهمية توفير الدولة للرعاية الاجتماعية للمواطنين. نص القانون على نظام ضريبي لتمويل عمليات الدعم المجتمعي.
عندما قدم المهاجرون من بريطانيا وعدد آخر من الأقطار الأوروبية إلى أميركا الشمالية، جلبوا معهم تقاليد الحماية الاجتماعية وأصدروا أنظمة وقوانين مشابهة للقانون الانكليزي. بقيت منظومة القيم الأميركية متوجسة من دعم الدولة للأفراد، ولكن التطورات السياسية والأزمات الاقتصادية فرضت التزامات على الدولة وعززت أهمية فرض ضرائب على الثروات والمداخيل لتوفير الأموال اللازمة لدعم معيشة أصحاب المداخيل المتواضعة والفقراء والمعوزين. لكن نظام التأمينات الاجتماعية في الولايات المتحدة “Social Security” لم يأخذ مساره بشكل واضح إلا في عام 1935 بعد تبعات الكساد العظيم في عام 1929.
بعد تأسيس مجلس التعاون الخليجي في 1981، قررت السلطات توحيد الأنظمة قدر الإمكان وتمكين كل مواطني هذه الدول من التمتع بالمميزات والعطاءات التي توفرها القوانين الحاكمة في هذه الدول
أدت أزمة الكساد إلى ارتفاع معدلات البطالة من كبار السن، وقدر في عام 1934 أن نصف كبار السن في الولايات المتحدة يفتقرون الى الدخل المناسب لمواجهة متطلبات الحياة. عندما اعتمد نظام التأمينات الاجتماعية في الولايات المتحدة في أواخر عام 1935، كانت هناك 34 دولة تملك أنظمة تقاعد وضمان اجتماعي. ولا شك أن بروز حركات يسارية راديكالية استثمرت في الفقراء والأزمات التي مرت بالدول الرأسمالية، دفع المشرعين والسلطات التنفيذية للإسراع في تبني قوانين تهدف الى ضمان مستويات معيشة ملائمة والحد من نفوذ المتطرفين.
أ.ف.ب.
سيدة قبالة مسجد حسن عناني في جدة، يناير 2020.
عملت دول الخليج في مسيرتها الحديثة على إنجاز قوانين للتقاعد، وقد تفاوتت هذه التطورات بين دولة وأخرى زمنياً. كذلك، شهدت هذه القوانين تعديلات عديدة منذ استقلال هذه الدول. لكن بعد قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام 1981، قررت السلطات الحاكمة من خلال المجلس توحيد الأنظمة قدر الإمكان وتمكين كل مواطني هذه الدول من التمتع بالميزات والعطاءات التي توفرها القوانين الحاكمة في هذه الدول.
كانت البداية في عام 1999 عندما دعا المجلس الأعلى لدول مجلس التعاون في دورته العشرين في الرياض الى وضع “نظام شامل ومناسب” للتأمينات الاجتماعية في كل دولة، “يغطي مواطني دول المجلس الذين يعملون خارج دولتهم أسوة بمواطني الدولة مقر العمل، أو إيجاد صندوق مشترك للتأمين الاجتماعي ليغطي العاملين من المواطنين بين دول المجلس”.
السعودية والتأمينات الاجتماعية
وصدر المرسوم الملكي الرقم 22 في 15 نوفمبر/تتشرين الثاني 1969 ليحدد أنظمة التأمينات الاجتماعية في السعودية. لكن هذا القانون خضع لتعديلات عديدة لاحقة. هناك أنظمة التأمينات للعاملين في السلك العسكري، وفي القطاع العام والقطاع الخاص. ويستحق المعاش التقاعدي لكل من بلغ الستين أو تجاوزها أو توقف عن مزاولة العمل. كما حدد أن تكون مدة الاشتراك لا تقل عن 120 شهراً. وقد صدر آخر مرسوم ملكي في شأن التأمينات الاجتماعية في يوليو/تموز 2024.
إقرأ أيضا: نفط الخليج ومطبات المستقبل
حدد القانون سنا موحدة للتقاعد للرجل والمرأة بستين عاماً، ويمكن إحالة الموظف أو العامل إلى التقاعد بعد بلوغ الستين إلا في الحالات التي يقرر فيها مجلس الوزراء مدة فترة العمل حتى سن الخامسة والستين. هناك ميزات عديدة في القانون يمكن الاستفادة منها بما يؤدي إلى تحسين قيمة المعاش التقاعدي، كما أن القانون يؤكد أحقية الزوجة أو الزوج والأبناء في الحصول على الراتب التقاعدي في حال وفاة المتقاعد المستفيد.
يعتبر نظام التأمينات الاجتماعية في الكويت من الأنظمة المتميزة ويوفر عطاء جزيلا للمستفيدين منه. يمكن للرجال التقاعد في سن الـ 55 عاما، وللإناث في سن الـ 50
اعتمد نظام المعاشات التقاعدية في الكويت في الأول من يناير/كانون الثاني 1955. صدر لاحقاً القانون رقم 3 لسنة 1960 الذي طبق منذ الأول من أبريل/نيسان 1960. شمل القانون موظفي الحكومة المدنيين والعسكريين ثم صدر القانون رقم 27 لسنة 1961 ليحدد الحقوق التقاعدية للعسكريين بشكل مستقل. لكن النظام المتكامل للتأمينات الاجتماعية اعتمد بموجب المرسوم 61 لسنة 1976، حيث قامت الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية وأوكلت اليها مهام تقديم الخدمات التأمينية والاجتماعية المستدامة.
سن التقاعد في الكويت
يستفيد من هذه الخدمات كل مواطن عامل في مختلف القطاعات الاقتصادية، أكان قطاعا عاما أم قطاعا خاصا أم سلكا عسكريا. يعتبر نظام التأمينات الاجتماعية في الكويت من الأنظمة المتميزة ويوفر عطاء جزيلاً للمستفيدين منه. يمكن النظام المواطن من الذكور من التقاعد في سن الـ55 عاماً، كما يوفر للمرأة تقاعدا مبكراً في سن الـ50 عاماً.
يضاف إلى ذلك، أن النظام يمكن أيا من العاملين من طلب التقاعد بعد مضي 30 عاماً في الخدمة. كذلك، هناك ترتيبات لورثة المتقاعد للحصول على الراتب التقاعدي للمتوفي. خلال السنوات الأخيرة، أضيفت ميزات للمتقاعدين أهمها، توفير نظام رعاية صحية، أطلق عليه “عافية”، يمكن المتقاعدين من الاستفادة من الخدمات الطبية والعلاجية في مستشفيات القطاع الخاص. ويعتمد هذا النظام على دفع الدولة تكاليف التأمين الصحي لتغطية الخدمات التي تتوفر للمتقاعدين. يكلف هذا النظام الدولة ما يزيد على 300 مليون دينار (مليار دولار) سنوياً.
التأمينات والتحديات الديمغرافية
تعتبر الشعوب الخليجية من الشعوب الشابة، حيث يمثل الذين تقل أعمارهم عن الثلاثين عاماً نحو 70 في المئة من المواطنين على أقل تقدير في مختلف دول الخليج. لكن تحسن مستويات المعيشة وتوفر الرعاية الصحية الجيدة أديا إلى ارتفاع معدلات العمر الذي بلغ في الوقت الحاضر ما يتراوح بين 78 و80 عاماً، وقد يصل عمر المرأة إلى ما يقارب 82 عاماً.
هناك تكاليف واضحة لأنظمة التقاعد، وبحسب التقديرات الاكتوارية المتبعة في مؤسسات التأمينات الاجتماعية، يحتمل وقوع هذه المؤسسات في العجز خلال السنوات أو العقود المقبلة
إذاً، هناك تكاليف واضحة لأنظمة التقاعد، وبحسب التقديرات الاكتوارية المتبعة في مؤسسات التأمينات الاجتماعية، يمكن أن يحدث عجز لدى هذه المؤسسات في السنوات أو العقود المقبلة. بطبيعة الحال تزود الحكومات هذه المؤسسات الأموال اللازمة لمواجهة استحقاقات المتقاعدين، كما أن المؤسسات ذاتها توظف أموالها في أصول مسعّرة وإيداعات في الأسواق والنظام المصرفي العالمي من أجل تحقيق عوائد تمكنها من أداء إلتزاماتها. حققت العديد من مؤسسات التقاعد أو التأمينات الاجتماعية أرباحا من استثماراتها المحلية والدولية على الرغم من تقلبات الأسواق المالية التي تفرض على مؤسسات التقاعد الحرص والحذر وعدم الولوج في استثمارات ذات أخطار مرتفعة.
أهمية التحوط إذا ما تراجعت إيرادات النفط
ما يبدو ضرورياً، هو مراجعة الأنظمة وترشيدها حيث لا يمكن ضمان ديمومة تدفق العوائد والأموال في العقود المقبلة، وقد تواجه الحكومات الخليجية مشاكل في دعم مؤسسات التأمينات إذا ما تراجعت إيرادات النفط. أهم التعديلات المطلوبة هو تعديل سن التقاعد ورفعه من مستواه الحالي إلى ما يزيد على 65 عاماً للذكور والإناث، وترشيد الميزات الأخرى أو تعميم عطاءات لا ترفع التكاليف بشكل غير محتمل. المتغيرات الديمغرافية في دول الخليج وفي دول العالم كافة، عدلت المعطيات، حيث لم يعد يعتبر من بلغ الستين كبيراً في السن، وهناك إمكانات للعطاء لدى الكثيرين ممن تجاوزوا سن السبعين عاماً.
أيضا، يمكن أن توفير الرعاية الصحية للمتقاعدين من طريق بناء مستشفيات خاصة تتعامل مع الأمراض والأوضاع الصحية التي قد يمر بها عدد كبير من هؤلاء المتقاعدين. عموما، فإن الاستفادة من تجارب الآخرين، خصوصاً أنظمة التقاعد في الدول الاسكندينافية، يمكن أن تؤدي إلى صياغة أنظمة رشيدة وتوفي بحقوق المتقاعدين من دون مواجهة أعباء ماليـــة متزايــدة.
ليس خافيا أن أعداد المتقاعدين في تزايد مستمر، فمثلاً في السعودية، بلغ عددهم في السنة الجارية نحو 350 ألفاً وهم يتزايدون سنوياً بما يقارب الـ30 ألفاً. أما في الكويت فقد بلغ عددهم 169 ألفا، وفي الإمارات نحو 20 ألفا وفي قطر 15 ألف متقاعد. أما في عمان، فهناك 78,500 متقاعد، وفي البحرين يبلغ عدد المتقاعدين 35 ألفا. تتزايد أعداد هؤلاء المتقاعدين بمعدلات نمو سنوية متسارعة وكذلك تزداد أعداد المؤمن عليهم لدى مؤسسات التأمينات الاجتماعية، مما يشير إلى رغبة الكثير من العاملين بالتقاعد المبكر، ويؤكد بالتالي ارتفاع الالتزامات المستحقة على مؤسسات التقاعد.
المصدر : https://www.majalla.com/node/322056/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%AA%D8%B1%D8%B4%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC-%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A%D8%AC%D9%8A-%D9%84%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84