«نهاية اللعبة» في قطاع غزة: رؤية نتنياهو لليوم التالي للحرب وتحدياتها

  • لمنع تكرار ما حصل في 7 أكتوبر، يرغب بنيامين نتنياهو في نقل نموذج الضفة الغربية إلى قطاع غزة، أي فرض السيطرة الأمنية على القطاع وعلى كامل حدوده، مع ترك تسيير حياة السكان لإدارة فلسطينية أقرب إلى السلطة البلدية، أي بمعنى آخر إعادة احتلال قطاع غزة. 
  • على رغم مراهنة نتنياهو على عودة ترمب إلى البيت الأبيض للدفع برؤيته لليوم التالي، فإن هذه الرؤية تواجه تحديات رئيسة، لا تقتصر فحسب على قدرة “حماس” على البقاء والرفض المصري والعربي وحتى الدولي لمثل هذه الخطة، بل تشمل أيضاً تحفُّظ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على البقاء في غزة.
  • المؤشر الأهم لمدى قدرة نتنياهو على المضي في تصوره لـ “نهاية اللعبة” في قطاع غزة، سيظل مرتبطاً بمدى قدرته على الصمود في وجه الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية لعدم إبرام صفقة التهدئة مع “حماس”. 

 

بات واضحاً أن مفاوضات التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة وتبادل المحتجزين الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين، التي كانت تَتردد في الأيام الأخيرة بين القاهرة والدوحة، تُعاني التعثُّر، وبات واضحاً أكثر للمراقبين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتعمَّد وضع العصي في دواليب المفاوضات، عبر فرض شروط جديدة على أجندة المفاوضات، وبخاصة فيما يتعلق بقضية الوجود الإسرائيلي في محور صلاح الدين/فيلادلفيا ومعبر رفح، ومحور نتساريم الذي يفصل شمال القطاع عن جنوبه.

 

ومع هذا الغموض الذي يكتنف مستقبل المفاوضات والحرب في غزة، يُطرَح سؤال مركزي وهو: ما نهاية اللعبة End Game؟ ففي نهاية المطاف سيُسدل الستار على أي حرب، وسيسكت صوت المدافع، ومن ثم سيكون لازماً التعاطي مع الوضع الذي سيصير إليه القطاع (أو سيُدفع إليه) حين تتوقف العمليات العسكرية. هذا الوضع هو ما كان يُشار إليه منذ الأشهر الأولى من اندلاع الحرب بـ”اليوم التالي” The Day After.

 

نتنياهو و”نهاية اللعبة” في غزة

طبقاً للكثير من التحليلات، ومنها إسرائيلية، فإنّ نتنياهو يتعمد عرقلة صفقة التهدئة في قطاع غزة وإطالة أمد الحرب حتى موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، أملاً في عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وهو يستغل عدم قدرة إدارة بايدن (أو لِنَقُل عدم رغبتها) في الضغط عليه في المفاوضات في هذه الفترة لحسابات انتخابية أمريكية. والتساؤل الذي يُثار في هذا الشأن هو ما إذا كان هذا المسعى لنتنياهو ينطلق من أهداف مصلحية وسياسية خاصة به فحسب، من قبيل تأخير استحقاق مساءلته عن الإخفاق في “7 أكتوبر” أو حتى محاكمته في ملفات الفساد المعروضة أمام القضاء أو الحرص على استمرار حكومته ومنعها من التفكك، أم أن الأمر أكبر من ذلك، وأن مساعي نتنياهو تلك تنبع من أهداف استراتيجية تتعلق برؤيته لمستقبل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.

 

حدد نتنياهو أهداف الحرب مع بدء انطلاقتها بالقضاء على قدرات حركة “حماس” العسكرية والحكومية، والتأكد من أن غزة لن تشكل بعد الآن تهديداً لإسرائيل، وإطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين. هذه هي الأهداف المعلنة، لكنْ فيما يبدو كانت توجد أهداف ضمنية تتمثل بتدمير قطاع غزة بحيث يضطر سكانه إلى النزوح عنه، وأيضاً تدفيع فلسطينيّي القطاع الثمن بما يدفعهم إلى نبذ المقاومة.

 

يرى كثيرون أن نتنياهو يتعمد عرقلة صفقة التهدئة وإطالة أمد الحرب في قطاع غزة، لتحقيق أهداف مصلحية وسياسية خاصة به (AFP)

 

من الواضح أن نتنياهو لم ينجح في تحقيق كل أهداف الحرب المعلنة، وأهمها القضاء على حركة “حماس”. وحتى مع تدمير إسرائيل لبُنى حكومة حماس فإن الحركة لا تزال تحتفظ ببعض القدرة على ملء الفراغ في المناطق التي تنسحب منها إسرائيل، بل إنها أفشلت الجهود الإسرائيلية لتصعيد أطراف أهلية لإدارة بعض المناطق في شمال القطاع. وهذا الأمر هو -فيما يبدو- ما دفع بالناطق بلسان الجيش الإسرائيلي دانيال هغاري إلى التصريح بأن القضاء على “حماس” “غير ممكن“.

 

وقد وجّهت قيادات عسكرية إسرائيلية ومحللون وحتى مسؤولون أمريكيون، انتقاداً لحكومة نتنياهو بأنها شنّت الحرب على قطاع غزة دون أن تكون لديها “استراتيجية خروج” Exit Strategy، وهو المفهوم لموازي لما يسمى “اليوم التالي”. بل إن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، هرتسي هليفي، حذّر من “تآكل الإنجازات العسكرية” للحرب في قطاع غزة في ظل “غياب استراتيجية لليوم التالي” في غزة. ولكن، هل حقاً لم يكن لدى نتنياهو رؤية واضحة لليوم التالي في غزة، أم أنه كان يتعمَّد الغموض في رؤيته والكشف التدريجي عنها لإدراكه المعارضة التي قد تُواجهها هذه الرؤية في الداخل والخارج؟

 

في أول رؤية رسمية لليوم التالي قدَّمها نتنياهو في فبراير الماضي، والتي أعاد التأكيد على عناصرها الرئيسة في خطابه أمام الكونغرس في 24 يوليو، تم التركيز على الحفاظ على السيطرة الأمنية على القطاع، وإقامة إدارة مدنية محلية يُديرها فلسطينيون لا يسعون إلى تدمير إسرائيل، ونزع السلاح والتطرف من غزة. وانطلاقاً من هذه الرؤية يمكن استنتاج أن نتنياهو يرغب في نقل نموذج الضفة الغربية إلى قطاع غزة، أي فرض السيطرة الأمنية على القطاع وعلى كامل حدوده، ومنها حدوده البرية الوحيدة مع العالم الخارجي، أي مع مصر، مع ترك تسيير حياة السكان لإدارة فلسطينية أقرب إلى السلطة البلدية، أي بمعنى آخر إعادة احتلال لقطاع غزة. وهذا الأمر بنظر نتنياهو هو الكفيل بتحقيق هدف عدم تكرار أحداث “7 أكتوبر”، كما أنه يتوافق مع استراتيجيته لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين، والتي ترتكز على رفض قيام دولة فلسطينية؛ فوفقاً لرؤيته لا توجد إلا دولة واحدة من النهر إلى البحر، هي الدولة اليهودية، كما ظهر في خريطة “الشرق الأوسط الجديد” التي رفعها خلال خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 23 سبتمبر 2023.

 

اقرأ أيضاً لـ «هاني سليمان»:

 

تتحفظ قيادات أمنية/عسكرية وسياسية إسرائيلية على فكرة فرض السيطرة على قطاع غزة، بسبب العبء الاقتصادي والعسكري، فضلاً عن السياسي، لمثل هذا السيناريو، كما أن رفض إعادة الاحتلال الإسرائيلي للقطاع كانت إحدى الّلاءات التي رفعتها الإدارة الأمريكية بعد الحرب. لذا، لتحقيق رؤيته يبدو أن نتنياهو يراهن على عاملين: فوز ترمب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، واستمرار حكومته حتى موعد الانتخابات الإسرائيلية المقررة في أكتوبر 2026. ومع ذلك، لا يمكن إغفال التحديات الكبيرة التي تواجه نتنياهو في هذا الصدد، وأبرزها التحدي المرتبط بالقدرة على فرض الأمن والاستقرار داخل القطاع، ومنع “حماس” من ترميم قوتها، والتحدي الذي لا يقل عنه خطورة وهو التعامل مع الاحتياجات الإنسانية لنحو 2.3 مليون نسمة في غزة، إلى جانب التعامل مع تحدي إعادة الإعمار للبنية التحتية للقطاع التي تَدمر نحو 67% بالمئة منها وفق تقرير لوكالة الأونروا، فضلاً عن تدمير أكثر من 70% من مساكن غزة. وضمن هذا السياق، يمكن فهم خطوة الجيش الإسرائيلي الأخيرة باستحداث منصب “رئيس الجهود الإنسانية-المدنية في القطاع”، بما يشبه منصب رئيس الإدارة المدنية التابعة للسلطة الإسرائيلية في الضفة الغربية.

 

يرغب نتنياهو في نقل نموذج الضفة الغربية إلى قطاع غزة، أي فرض السيطرة الأمنية على القطاع وعلى كامل حدوده (AFP)

 

الفاعلون الآخرون و”نهاية اللعبة”

مع أن الحكومة الإسرائيلية هي اللاعب الأكثر تأثيراً في مسار الحرب وصياغة اليوم التالي للقطاع، إلا أنها ليست الطرف الوحيد في اللعبة، فهناك أطراف أخرى مؤثرة، ويمكن لحاصل تأثيرها أن يوازن التأثير الإسرائيلي.

 

أول هذه الأطراف هو “حماس”، فعلى الرغم من إضعاف قدراتها العسكرية والسلطوية فإنها تبقى طرفاً لا يمكن تجاهله، سواء فيما يتعلق بالأوضاع على الأرض أو حتى فيما يتعلق بتحديد مستقبل القطاع. وإذا نجحت “حماس” وبقية الفصائل في تدفيع إسرائيل كلفةً بشرية لبقاء قواتها داخل القطاع، وتعطيل خططها لفرض سلطة مدنية في القطاع، فستكون أقرب إلى تكرار سيناريو عام 2005، حينما اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك آرييل شارون إلى سحب القوات الإسرائيلية وتفكيك المستوطنات في القطاع.

 

مع ذلك، ولتعويق خطط نتنياهو، لا يمكن لحماس الاستناد إلى جهودها وحدها، فنتيجة للكلفة الكبيرة الناجمة عن عملية “طوفان الأقصى”، وللرفض الإسرائيلي والعربي والدولي لعودة حكم “حماس” إلى القطاع، فإن الحركة بحاجة إلى رافعة فلسطينية تحظى بالإجماع والشرعية للحفاظ على دور لها في القطاع، ويبدو أنها ترى هذه الرافعة في تشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة لإدارة غزة ما بعد الحرب، وفق ما اتفقت عليه مع حركة فتح وبقية الفصائل الفلسطينية في “إعلان بيجين” في 23 يوليو، إلا أن السلطة الوطنية الفلسطينية بقيادة محمود عباس لا ترغب في إعادة تعويم “حماس” في القطاع، لذا يُتوقع ألا تذهب إلى تشكيل مثل هذه الحكومة، وأن تحاول إعادة القطاع تحت سلطتها، المباشرة أو غير المباشرة، على الرغم من الصعوبات التي تقف أمام مثل هذا السيناريو.

 

وثاني الأطراف المؤثرة هو مصر، فلاعتبارات تتصل بالأمن القومي لا يُتوقع أن تتسامح مصر مع خطط الحكومة الإسرائيلية لإعادة احتلال القطاع، وما الرفض المصري، في مفاوضات القاهرة الجارية، لبقاء القوات الإسرائيلية في محور فيلادلفيا ومعبر رفح، إلا مؤشر على محددات السياسة المصرية تجاه القطاع. وصحيح أن مصر حالياً تواجه تحديات جيوسياسية واقتصادية تُضعِف من قوتها الإقليمية، إلا أن إسرائيل لا يمكنها تجاهل شواغل مصر الأمنية والجيوسياسية فيما يخص مستقبل قطاع غزة.

 

أما الطرف الثالث المهم فهو الإدارة الأمريكية المقبلة. وهنا، حتى إن لم تخرج كامالا هاريس –في حال فوزها في الانتخابات- عن حدود سياسة بايدن تجاه حرب غزة والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فإن هذه السياسة لا تدعم خطط نتنياهو للبقاء الدائم في قطاع غزة، وانطلاقاً من استراتيجيتها الكبرى لمنطقة الشرق الأوسط سيكون من مصلحة الإدارة الديمقراطية الجديدة وقف الحرب وتبريد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي في الحد الأدنى من طريق عدم تحويل قطاع غزة إلى “ضفة غربية أخرى”. أما في حال وصول ترمب إلى سدة الرئاسة، فصحيح أن ذلك -على الأغلب- سيصبّ في مصلحة خطط نتنياهو، وبخاصة في ظل ترجيح أن يُعيد ترمب طرح خطته لعام 2020 المسماة “السلام من أجل الازدهار“، إلا أن احتلال القطاع، بما يَعنيه من تبدّد “حل الدولتين”، سيخلق عقبات حقيقة أمام مساعي ترمب المتوقعة لتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية من طريق تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وعليه، هل يُتصور أن تقبل السعودية بالتطبيع، والدول الخليجية بصفة عامة بالمشاركة في إعادة إعمار القطاع، من دون وضع مسار موثوق يقود إلى تطبيق حل الدولتين، كما كانت “السداسية العربية” تُصر في خلال اجتماعاتها مع بلينكن.

 

يراهن نتنياهو على فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، لتمرير رؤيته حول مستقبل غزة (AFP)

 

استنتاجات

يَظهَر أن نتنياهو يرغب في إطالة أمد الحرب في غزة لتحقيق رؤيته لليوم التالي في غزة، التي ترتكز على نسخ نموذج “الضفة الغربية”، أي “الاحتلال القليل التكلفة”، من طريق ترك إدارة الشأن اليومي للفلسطينيين، مع فرض السيطرة الأمنية والتحكم بحدود القطاع، والقيام بعمليات أمنية “جراحية” حين تقتضي الحاجة إلى ذلك، كما يحدث في العملية العسكرية، المسماة “مخيمات الصيف”، التي تشنها إسرائيل حالياً على مدن شمال الضفة الغربية ومخيماتها.

 

وعلى رغم مراهنة نتنياهو على عودة ترمب إلى البيت الأبيض للدفع برؤيته لليوم التالي، فإن هذه الرؤية تواجه تحديات رئيسة، لا تقتصر فحسب على قدرة “حماس” على البقاء والرفض المصري والعربي وحتى الدولي لمثل هذه الخطة، بل تشمل أيضاً تحفُّظ المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على البقاء في غزة. ويبقى المؤشر الأهم لمدى قدرة نتنياهو على المضي في “نهاية اللعبة” وفق رؤيته، هو مدى قدرته على الصمود في وجه الضغوط الداخلية والإقليمية والدولية لعدم إبرام صفقة التهدئة مع “حماس”.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/nihayat-alluba-fi-qitae-gaza

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M