هل فقدت الولايات المتحدة بوصلة القيادة العالمية؟

تواجه الولايات المتحدة الكثير من التعقيدات في الفترة الأخيرة، سواء على المستوى الداخلي من انقسامات وصراعات واستقطاب حزبي غير مسبوق، أو على المستوى الخارجي من صعود قوى عالمية بديلة، أو زيادة الأزمات والقضايا الدولية التي وقفت واشنطن مكتوفة الأيدي أمامها حتى الآن. وفي هذا النسيج المعقد للسياسة العالمية، فإن السؤال حول ما إذا كانت الولايات المتحدة قد فقدت بوصلتها للزعامة العالمية هو سؤال في الوقت المناسب وحاسم. ومع تقدم القرن الحادي والعشرين، فإن الديناميكيات المتغيرة للعلاقات الدولية، والتحديات المحلية، وصعود القوى البديلة تجبرنا على تحليل وضع واتجاه الزعامة الأمريكية على الساحة العالمية.

السياق التاريخي للزعامة الأمريكية

لقد رسخت الولايات المتحدة نفسها كقوة عالمية مهيمنة، وهي المكانة التي تشكلت من خلال الأحداث التاريخية الرئيسية والتيارات الإيديولوجية والتغيرات الاجتماعية والسياسية. ويتطلب فهم هذا التطور فحص مبادئها التأسيسية وتوسعها والصراعات المهمة. يمكن إرجاع أصول الزعامة الأمريكية إلى الثورة الأمريكية (1775-1783)، التي أسست جمهورية متجذرة في مُثُل عصر التنوير للديمقراطية والحرية. وشهد القرن التاسع عشر توسعًا إقليميًا مدفوعًا بالإيمان بـ “القدر الواضح”؛ فكرة أن الولايات المتحدة مقدر لها نشر الديمقراطية في جميع أنحاء أمريكا الشمالية. وبالرغم من أن هذا أدى بشكل أغلب إلى تهجير الشعوب الأصلية، إلا أنه عزز هذا الشعور بالاستثنائية الأمريكية وأرسى الأساس للتأثير الدولي المستقبلي.

وتميزت الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر بكونها قوة صناعية، مما أدى إلى اتباع سياسة خارجية أكثر حزمًا، وتجسد ذلك في الحرب الإسبانية الأمريكية (1898)، والتي أدت إلى توسيع الأراضي الأمريكية ونفوذها خارج حدود القارة، حيث استحوذت على أراضٍ مثل بورتوريكو وجوام والفلبين. كما زادت الحرب العالمية الأولى من انخراط الولايات المتحدة في الشؤون العالمية، حتى مع انعزالية موقفها قبل الحرب، إلا أن انخراطها فيها فيما بعد ساهم بشكل كبير في فوز الحلفاء. وبعد الحرب، دافع الرئيس الأمريكي آنذاك “وودرو ويلسون” عن فكرة الأمن الجماعي، مؤكدًا على أهمية التعاون الدولي، وعلى الرغم من رفض مجلس الشيوخ الانضمام إلى عصبة الأمم، إلا أن هذا كان يعتبر من بدايات تمهيد الطريق للدور الأمريكي على الساحة الدولية، أيضًا ساهم دخول الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية، بعد الهجوم على بيرل هاربور في عام 1941، في انتصار الحلفاء بشكل أساسي.

وبعد الحرب، ساعدت الولايات المتحدة في إنشاء الأمم المتحدة ونظام “بريتون وودز”، مما أشار إلى التزامها بدور القيادة العالمية. وقد حددت الحرب الباردة اللاحقة السياسة الخارجية الأمريكية لعقود من الزمان حيث سعت إلى القضاء على الشيوعية من خلال التحالفات والتدخلات العسكرية. وأدى انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 إلى وضع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة، مما عزز من زعامتها في الشؤون الدولية. ومع ذلك، فقد أدخلت هذه الفترة أيضًا تحديات جديدة، بما في ذلك العولمة الاقتصادية وصعود القوى الناشئة مثل الصين.

مع دخول القرن الحادي والعشرين، واجهت الولايات المتحدة قضايا معقدة، بما في ذلك الإرهاب وتغير المناخ. وقد سلطت هجمات الحادي عشر من سبتمبر والاشتباكات العسكرية اللاحقة الضوء على التهديدات متعددة الأوجه للأمن الوطني والعالمي بالنسبة لواشنطن. وفي حين تواصل الولايات المتحدة ممارسة نفوذ كبير، يتعين على قيادتها أن تتكيف مع المشهد العالمي المتغير الذي يتسم بالحاجة إلى التعاون متعدد الأطراف، حيث واجهت هذه الزعامة تحديات كبيرة في السنوات الأخيرة. فبالرغم من أن نهاية الحرب الباردة بشرت بعالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة، إلا أن صعود التعددية القطبية، مع اكتساب دول مثل الصين وروسيا والهند نفوذًا كبيرًا، أدى إلى تعقيد الدور الأمريكي، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت بطيئة في التكيف مع هذه التغييرات، مما أدى إلى تراجع ملحوظ في فعالية قيادتها.

وأحد أهم العوامل التي تساهم في تراجع وضع الولايات المتحدة كقائد عالمي هو الاستقطاب المتزايد داخل حدودها. فقد شهدت السنوات الأخيرة تصاعد التعصب الحزبي، الأمر الذي يعقد قدرة الحكومة الأمريكية على تقديم جبهة موحدة بشأن القضايا الدولية. وهذا الصراع له آثار كبيرة على السياسة الخارجية، مما يؤدي إلى رسائل غير متسقة وافتقار إلى رؤية استراتيجية طويلة الأجل. وعلاوة على ذلك، فإن قضايا مثل التفاوت الاقتصادي، والتوترات العرقية، والتحديات التي تواجه المعايير الديمقراطية تعوق بشكل أكبر قدرة الولايات المتحدة على القيادة، وهي فكرة القدوة. حيث أن القيم الأساسية التي تدافع عنها الولايات المتحدة على المستوى الدولي تكافح في الحفاظ على تنفيذها في الداخل، وهو ما يثير تساؤلات حول شرعية قيادتها.

صعود القوى البديلة

إن ظهور الصين كقوة عظمى عالمية يمثل التحدي الأكثر أهمية للزعامة الأمريكية. إن مبادرة الحزام والطريق الصينية، وسياساتها الخارجية الحازمة في بحر الصين الجنوبي، ونفوذها المتزايد في المؤسسات الدولية، تشير إلى تحول في توازن القوى العالمي. إن البلدان في جميع أنحاء العالم تعيد تقييم تحالفاتها وشراكاتها، وغالبًا ما تختار العلاقات البراجماتية مع بكين بدلًا من النظام التقليدي الذي تقوده الولايات المتحدة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تأكيد روسيا، وخاصة في مناطق مثل أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، قد اختبر نفوذ الولايات المتحدة. ومع قيام الدول بوزن مصالحها في عالم متعدد الأقطاب، ينشأ السؤال: هل تستطيع الولايات المتحدة تكييف استراتيجياتها للحفاظ على مكانتها كزعيمة عالمية؟

إن عصر ما بعد الحرب الباردة، الذي اتسم ذات يوم بالأحادية القطبية الأمريكية، يشهد تحولًا ملحوظًا في توازن القوى العالمي. إن ظهور القوى البديلة، وخاصة الصين وروسيا، يشكل تحديًا للموقف الأمريكي الراسخ كزعيم بارز للعالم. فإن أحد التحديات الأكثر أهمية التي تواجه الزعامة العالمية للولايات المتحدة هو النمو الاقتصادي السريع والتنمية في الصين. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، تحولت الصين من مجتمع زراعي معزول نسبيًا إلى قوة اقتصادية عالمية. وكان صعودها الاقتصادي مدفوعًا بمجموعة من العوامل، بما في ذلك قوة عاملة كبيرة وماهرة، ومناخ استثماري مواتٍ، وتركيز استراتيجي على الصناعات الرئيسية، خاصة الصناعات التكنولوجية. ومع استمرار اقتصاد الصين في التوسع، فإنها تكتسب نفوذًا أكبر في المؤسسات والمنتديات الدولية، مما يشكل تحديًا للهيمنة التقليدية للولايات المتحدة.

بالإضافة إلى قوتها الاقتصادية، تعمل الصين أيضًا على تطوير سياسة خارجية أكثر حزمًا. تستثمر الصين بكثافة في مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء العالم، مثل مبادرة الحزام والطريق، بالإضافة إلى توسيع قدراتها العسكرية. يرى الكثيرون أن هذه الإجراءات تشكل تحديًا للهيمنة الأمريكية، لأنها تظهر ثقة الصين وطموحها المتزايد على الساحة العالمية، وقدرتها الكبيرة على تحقيق هذا الطموح.

روسيا، وهي قوة بديلة رئيسية أخرى، تتحدى أيضًا القيادة الأمريكية. فعلى الرغم من مواجهة العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية في أعقاب ضمها لشبه جزيرة القرم، فقد حافظت روسيا على مكانتها كقوة نووية وفاعل عسكري مهم. وقد أظهر تدخلها في سوريا، فضلًا عن دعمها للحركات الانفصالية في أوكرانيا، استعدادها لاستخدام القوة الصارمة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية. إن صعود الصين وروسيا لا يتحدى القيادة العالمية للولايات المتحدة فحسب، بل يعيد تشكيل النظام الدولي أيضًا. إن النظام التقليدي القائم على القواعد، والذي كان مدعومًا بهيمنة الولايات المتحدة، موضع تساؤل بشكل متزايد. وتدعو هذه القوى البديلة إلى عالم أكثر تعددًا للأقطاب، حيث يتم توزيع القوة بشكل أكثر توازنًا وصنع القرار الدولي أكثر شمولاً.

القضايا العالمية وفجوات القيادة

إن أحد التحديات الأكثر أهمية التي تواجه الزعامة العالمية للولايات المتحدة هو الاستقطاب المتزايد في السياسة الداخلية الأمريكية. وقد جعل هذا الاستقطاب من الصعب على الولايات المتحدة تطوير وتنفيذ سياسات خارجية متماسكة، حيث أدى الانقسام الحزبي إلى الجمود في الكونجرس، مما جعل من الصعب التصديق على الاتفاقيات الدولية أو تخصيص الموارد اللازمة لمعالجة التحديات العالمية. وقد أدى هذا الخلل الداخلي إلى تآكل مصداقية الولايات المتحدة كشريك موثوق به وأضعف قدرتها على القيادة بالقدوة.

كما واجهت الولايات المتحدة انتقادات بسبب قيادتها للقضايا العالمية الرئيسية، مثل تغير المناخ وحقوق الإنسان. على الرغم من كونها من الدول الموقعة على اتفاقية باريس، كانت الولايات المتحدة بطيئة في تنفيذ السياسات الرامية إلى الحد من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري العالمي، وما زالت إلى الآن لم تتخذ خطوات فعالة حقيقية. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت الولايات المتحدة لانتقادات بسبب سجلها في مجال حقوق الإنسان، وخاصة فيما يتعلق بمعاملتها للمهاجرين والأقليات. لقد قوضت هذه الفجوات القيادية السلطة الأخلاقية للولايات المتحدة وجعلت محاولاتها للدفاع عن حقوق الإنسان وحماية البيئة على الساحة العالمية محل شك.

ولا يمكن اعتبار ملف الأزمات العالمية مختلفًا عن ملفَي التغير المناخي وحقوق الإنسان، بل من الممكن اعتباره المهدد الأكبر لدور واشنطن القيادي على الساحة العالمية، فدَورُها غير الحاسم بالمرة في الحروب والتوترات التي ازدادت في الفترة الأخيرة أظهر التراجع الكبير للقدرة الأمريكية على القيادة، بل ويعتبر البعض أن جزءًا أساسيًا من أسباب احتقان وزيادة التوترات والأزمات العالمية هو تراخي الولايات المتحدة في القيام بدور القيادة وتراجع كفاءتها بشكل واضح.

ويُلاحظ هذا التراجع بشكل واضح في حالات مثل الحرب بين روسيا وأوكرانيا، حيث كانت الولايات المتحدة على رأس الدول التي اتخذت موقفًا مضادًا لروسيا وقادت موجات تطبيق العقوبات عليها، مع التأكيد على استمرار دعم أوكرانيا سواء ماديًا أو عسكريًا حتى تنتصر على روسيا، إلا أن هذا التوجه لم يأتِ بثمار حقيقية، فبالرغم من أن هذا الدعم نتج عنه قدرة أوكرانيا على الصمود إلى الآن أمام روسيا، لكن لم يُمكنها من الانتصار في الحرب، ولا حتى تهدئة الصراع أو الوصول إلى طاولة المفاوضات، حيث نرى أن مدة الحرب تستمر في التمدد مع حوالي سنتين ونصف على بداية الحرب دون التوصل إلى أي شكل واقعي لإنهاء هذا الصراع، الذي ألقى بظلاله وآثاره السلبية على العالم كله.

هذا بالإضافة إلى الحرب على غزة، التي اندلعت منذ ما يقرب من عام، والتي لم يتم التوصل لأي شكل لنهاية مستدامة للصراع فيها، بالرغم من تدخل واشنطن بشكل مباشر في محاولات حل الأزمة وإيقاف الصراع، سواء عن طريق الوساطة في المفاوضات أو وضع مقترح لوقت القتال ولليوم التالي بعد الحرب، إلا أنها لم تستطع إلى الآن تنفيذه بشكل فعال أو التوصل لشكل يرضي طرفي الصراع. وليس هذا فحسب بل أظهرت هذه الحرب، والتي تهدد بتوسيع نطاقها في أي وقت، عدم قدرة الولايات المتحدة على التأثير على إسرائيل، بالرغم من كونها الحليف الأول لها والخادم الأساسي لمصالحها في المنطقة، إلا أن هذا الصراع أظهر بشكل واضح أكثر من أي وقت مضى أن إسرائيل تفعل ما يحلو لها بغض النظر عن الرؤية الأمريكية سواء للتصرفات أو الخطوات المتخذة أو حتى شكل التنفيذ.

وبالرغم من الجدل الدولي حول تأثير الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة على هذا الدور، إلا أن كلا المرشحين لم يقدما رؤية واضحة للتعامل مع معضلة القيادة العالمية، خاصة وأن الناخبين الأمريكيين يهتمون بالقضايا الداخلية بشكل أكبر بكثير من القضايا الدولية. وحتى لو امتلك أي من المرشحين رؤية للتعامل مع هذه الأزمات، سيظل الكونجرس عائقًا أمام تنفيذ هذه الرؤية بسبب زيادة الاستقطاب الحزبي، الذي سيزداد بكل تأكيد بعد الانتخابات أيا كانت نتيجتها.

وختامًا، في حين تواجه الولايات المتحدة تحديات كبيرة قد تشير إلى فقدان بوصلتها للقيادة العالمية، فإن إمكانية استعادة الولايات المتحدة لدورها القيادي تعتمد على معالجة الانقسامات الداخلية في المقام الأول لقدرة تشكيل جبهة واحدة على الساحة الدولية، وإعادة تأكيد الالتزامات بالتحديات العالمية وتقديم حلول فعالة، وإعادة تعريف نهجها في التعامل مع العلاقات الدولية في عصر جديد، حيث لا مهرب من تطور وتغير شكل السياسة العالمية، فبدلًا من محاولات رفض تعددية الأقطاب التي ولدت صراعات لم تستطع واشنطن التعامل معها، من الممكن أن يكون لها دور ريادي في شكل جديد لعالم متعدد الأقطاب حتى تحافظ على دورها القيادي عن طريق استيعاب تطور قوى الدول الأخرى بدلًا من الدخول في صراع معها، ومن خلال القيام بذلك، لا يمكنها فقط التعامل مع تعقيدات عالم متعدد الأقطاب، بل وأيضًا تقديم رؤية متجددة لما يعنيه أن تكون قائدًا في الساحة العالمية.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82369/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M