إحباط متنامٍ من الاتحاد الأوروبي.. كيف نقرأ طلب تركيا الانضمام إلى “بريكس”؟

سعيًا إلى تعزيز نفوذها العالمي وإقامة علاقات جديدة بعيدًا عن حلفائها الغربيين الذين يرفضون طلب عضويتها داخل الاتحاد الأوروبي، واعتقادًا بأن مركز الثقل الجيوسياسي يتحول بعيدًا عن الاقتصادات المتقدمة، طلبت تركيا بشكل رسمي الانضمام إلى مجموعة “بريكس BRICS”، وهو التحالف الاقتصادي الذي يضم الدول الناشئة الكبرى ويهدف إلى تحدي الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، وهي الخطوة التي يُتوقع أن تفتح بابًا أمام تركيا للدخول في تحالفات اقتصادية جديدة قد تعكر صفو الغرب المستاء بالفعل من التحركات التركية الأخيرة.

أسباب الطلب التركي

يعاني الاقتصاد التركي منذ عقود، وذلك في ضوء ما شهدته تركيا من صراعات إقليمية ودولية على حدودها البرية والبحرية، مما أدى إلى تراجع ملحوظ في أداء الاقتصاد والليرة التركية، ولهذا أدركت تركيا أن الاقتصاد محرك أساسي ومهم للغاية في الداخل التركي والخارج. وعقب الانتخابات الأخيرة، كان ملف الاقتصاد من أبرز اهتمامات حزب العدالة والتنمية الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسط وعود بأن يصبح الاقتصاد التركي من أقوى الاقتصادات في العالم.

تدير تركيا علاقاتها الخارجية بين الغرب وكل من روسيا والصين بشكل يجعلها لا تنحاز إلى أي طرف على حساب الآخر، بالرغم من انتماء أنقرة للمعسكر الغربي تقليديًا بحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي، وسعيها الحثيث لعقود من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، هذا بجانب أن أوروبا تعتبر شريكها الأكبر على مستوى المعاملات التجارية، بالإضافة إلى موافقة تركيا بعد أشهر من المفاوضات على انضمام السويد وفنلندا إلى عضوية الناتو، فضلاً عن المساعي التركية الأخيرة للتقرب إلى المؤسسات الغربية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، للحصول على دعم مالي لمساندة الاقتصاد التركي.

ولكن رغم ذلك، نجد أن تركيا تسعى إلى تنويع حلفائها بعيدًا عن الغرب بالإعلان خلال قمة بريكس في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا عام 2018 عن رغبتها في الانضمام للمجموعة إلى جانب كل من روسيا والصين، المنافسين الأشرس للغرب خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والتكنولوجيا. وهذا التنوع في العلاقات على مستوى السياسة الخارجية دائمًا ما يثير الشكوك حول تركيا بأنها الحليف الذي “لا يمكن الاعتماد عليه” سواء في الشرق أو الغرب.

  • رفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي

منذ نهايات القرن الماضي، تحاول تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ووضعت الأمر كـ “هدف استراتيجي” هام للمستقبل التركي، بالرغم من كون أنقرة أهم الأعضاء في تحالف شمال الأطلسي الذي يُعتبر الجزء الأهم من منظومة الدفاع الأوروبية، ولكن مع إخفاقها في إحراز أي تقدم في ملف العضوية بسبب ما تطلق عليه أوروبا “أوجه القصور الديمقراطي في تركيا” وعدم الوفاء بمعايير “كوبنهاغن”، تنامى شعور أنقرة بالإحباط، الأمر الذي دفعها للسعي إلى إحياء تحالفات جديدة لتوسيع اقتصادها البالغ تريليون دولار تقريبًا، مع التأكيد في الوقت نفسه على الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها كعضو رئيسي في منظمة حلف شمال الأطلسي.

وبتتبع تصريحات المسؤولين الأوروبيين السابقين والحاليين، نجد أن هناك معارضة رسمية وشعبية لانضمام تركيا للمنظومة الأوروبية خصوصًا في فرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا واليونان. ويمكن رؤية ذلك بوضوح من خلال استخدام “الفيتو” في وجه أي تقدم في مسار المفاوضات. وربما تكمن الأسباب وراء الرفض الأوروبي لعضوية تركيا داخل الاتحاد الأوروبي في:

  • التحديات الاقتصادية والتي تتمثل في التقلبات الشديدة التي اتسم بها الاقتصاد التركي في معدلات النمو والتضخم، فبالرغم من تحقيق تركيا نموًا اقتصاديًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، إلا أن هناك مخاوف بشأن استدامة هذا النمو، فضلاً عن الفجوة الكبيرة بين الاقتصاد التركي واقتصادات الدول الأعضاء. مع العلم أن هناك دولاً تتشابه مع تركيا في الخصائص الاقتصادية، وربما تمتلك مؤشرات اقتصادية أضعف، مثل بلغاريا ورومانيا واليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا، ورغم ذلك تم قبول عضويتها بالاتحاد، وهو الأمر الذي جعل تركيا تشعر بأن أوروبا تمتلك معايير مزدوجة.
  • التباين في القيم والمبادئ: وفقًا لدراسة نشرتها منصة “إنترإيكونوميكس” تحت عنوان “تركيا والاتحاد الأوروبي.. القضايا والتحديات وسياسة الانضمام”، هناك سبب للرفض يتمحور حول الاختلاف الديني والثقافي بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وهو سبب يبني عليه الرافضون لانضمام تركيا مواقفهم، إذ يرون أنه من غير الممكن ترسيخ القيم الأوروبية الثقافية واستخدامها في مجتمع تركيا المسلم، وأن تركيا دولة “شرقية” لا تناسب أوروبا.
  • هذا بجانب الانتقادات التي تواجه تركيا بشأن تراجعها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الأقليات، بالإضافة إلى ضعف سيادة القانون وزيادة النفوذ السياسي وتقويض المؤسسات الدستورية، وكل هذا يثير قلقًا كبيرًا داخل الاتحاد الأوروبي.
  • الخلافات مع الاتحاد الأوروبي والناتو: وهذه الخلافات متعددة الاتجاهات وتدور حول محافظة تركيا على روابط وثيقة مع روسيا بعد تجدد غزوها لأوكرانيا في عام 2022، وخاصة بعد تصريحات الرئيس التركي بأنه يثق في الروس بقدر ثقته في الغرب، وهو ما تم تفسيره لاحقًا بأن تركيا لا تساوي بين التعامل مع الكرملين والموافقة على الإجراءات الروسية تجاه أوكرانيا، لكن أيضًا تركيا لا ترى في روسيا أي تهديد.

وهناك خلاف آخر يتعلق باستمرار الإجراءات العقابية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على تركيا في عام 2019 بشأن استكشاف أنقرة للطاقة في شرق المتوسط، إذ تضمنت هذه الإجراءات، التي عكست وقوف بروكسل إلى جانب اليونان وقبرص الدولتين العضوين، تعليق بعض محادثات العضوية مع تركيا، ما أدى إلى إعاقة التجارة وعرقلة بعض الصفقات الدفاعية.

وقد أثار التدخل العسكري التركي في سوريا المزيد من التدهور في العلاقات مع بعض الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا، الأمر الذي زاد من وتيرة الاتهامات التركية للاتحاد الأوروبي باستمرار الدعم الأوروبي للتنظيمات التي تضعها أنقرة على لوائح الإرهاب، والتساهل مع الانفصاليين الأكراد، والحرية الممنوحة لهم بالتحرك عبر بلدان أعضاء الاتحاد الأوروبي.

وكذلك التوجهات التركية المعادية للغرب في ضوء الاتهامات التي ألقى بها الرئيس التركي على أوروبا والولايات المتحدة بأنهما لم تبذلا ما يكفي من الجهد لمحاولة كبح أو وقف الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة.

  • الإملاءات الأمريكية لتحسن العلاقات مع أنقرة

في الفترة الأخيرة، حاولت أنقرة تحسين العلاقات مع واشنطن بعد سنوات من التوترات، نتج عنها توقف المصالح التركية في واشنطن، وعلى رأسها صفقة طائرات إف-16 الأمريكية، ولكن مقابل الانفراجة في العلاقات، واجهت أنقرة شروطًا تتعلق بالموافقة على طلب عضوية السويد للناتو، وكذلك تقليص علاقات أنقرة مع موسكو وبكين، وبالتأكيد هذا يشمل العلاقات الاقتصادية.

ولكن كما ذكرنا، تحاول تركيا أن تكون منفتحة على جميع الأطراف دون انحياز، لذا نجد أن تركيا لم تخضع لبعض تلك الإملاءات، بدليل المساعي التركية للتعاون مع روسيا والصين في مجالات عدة، أبرزها الاستثمار في الطاقة والسيارات الكهربائية والبنية الأساسية والخدمات اللوجستية والاتصالات، ورفض أنقرة -حتى الآن- تطبيق العقوبات الغربية على روسيا بشكل كامل، وهو الأمر الذي قوبل بوضع أكثر من شركة تركية على قائمة العقوبات الأمريكية في سبتمبر 2023، وذلك لتزويد روسيا بمعدات متقدمة تستخدم في تصنيع السلاح الروسي، وكذلك تم الضغط بقوة من قبل واشنطن على النظام البنكي التركي.

ولكن تركيا رغم ذلك، وافقت على عضوية السويد في الناتو، ورفعت التعريفة الجمركية على السيارات المستوردة من الصين إلى 40%، وهو أمر عارضته وزارة التجارة الصينية، وكذلك قامت بخفض الصادرات التركية لروسيا بمقدار الثلث في الأشهر الأولى من 2024 مقارنة بنفس الفترة في 2023، كما سارعت تركيا إلى تحسين العلاقات مع إسرائيل- قبل حرب غزة- واليونان باعتبار ذلك مدخلاً مهماً لتحسين العلاقات مع واشنطن، وكذلك الاتفاق على إنشاء مصنع للطائرات المسيرة في أوكرانيا من خلال شركة “بايكار” التركية، وهي خطوة تُعتبر تحولاً مهمًا لسياسة التوازن التي كانت تتبعها تركيا في حرب أوكرانيا فيما يتعلق بدعم كييف.

  • تحالفات تركية جديدة خارج الغرب:

تأتي الخطوة التركية في ظل توجه أنقرة عبر سياستها الخارجية نحو تنويع الشراكات الاقتصادية وتوسيع النفوذ التركي في الأسواق العالمية وتحديدًا في الشرق، خاصة وأن تركيا تواجه بالفعل تحديات اقتصادية على المستويين الداخلي والخارجي، وربما استغلت الأطراف الفاعلة في الشرق كروسيا والصين توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة لشد الخيوط التركية بعيدًا عن الغرب نحو الشرق.

نجد هذا واضحًا من خلال العلاقات الأكثر توازناً بين موسكو وأنقرة، خاصة مع اشتباك الطرفين في الملف السوري والليبي وفي أذربيجان والحرب مع أرمينيا، الأمر الذي دفع روسيا لتعزيز ودعم طموحات تركيا للانضمام إلى مجموعة بريكس، واستئناف المفاوضات الأمنية مع دمشق للوقوف على ملف الأكراد الانفصاليين الذي يقلق أنقرة هناك، وغيرها من التسهيلات الروسية لصالح تركيا، على الرغم من أن هناك تصرفات تركية قد أثرت على العلاقات بموسكو في الفترة الأخيرة، كاستقبال تركيا الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، وإعراب أردوغان عن دعم أنقرة لانضمام كييف داخل الناتو، وهذا يعني المساس بالخط الأحمر الذي تضعه موسكو والذي أقامت بسببه هذه الحرب.

 وقد يكون الانضمام إلى “بريكس” هو نقطة الانطلاق نحو تحالفات أوسع في عالم متعدد الأقطاب، فقد أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر من مرة عن اهتمامه بتطوير العلاقات التركية مع عدد من المنظمات البديلة التي لا يهيمن عليها الغرب على أساس الربح المتبادل، ففي سبتمبر 2022، أعلن عن رغبة بلاده في الانضمام إلى “منظمة شنغهاي للتعاون”، وهي منظمة حكومية دولية تجمع الدول الأعضاء الآسيوية وتعزز التعاون العسكري والاستخباراتي والمبادرات الاقتصادية الإقليمية، تأسست بواسطة روسيا والصين باعتبارها بديلاً لحلف شمال الأطلسي، وقد تتقدم تركيا أيضًا بطلب لإقامة شراكة موسعة قائمة على الحوار مع رابطة دول جنوب شرق آسيا.

وربما حرصت تركيا على استخدام ورقة التقارب الروسي الصيني من أجل الحصول على امتيازات أكبر من الغرب، وكذلك من أجل دفع موسكو وبكين لتقديم امتيازات لأنقرة دون أن تطلب ذلك صراحةً. ولكن في النهاية، إذا تعقد الوضع الاقتصادي التركي، سيتعين عليها التخلي عن هذا النهج المتوازن واختيار الجبهة التي تفضل الوقوف إلى جانبها.

  • زيادة الثقل الدبلوماسي

ترى أنقرة في الانضمام فرصة لاكتساب مساحات تأثير وزيادة ثقلها السياسي عبر الحضور في منتدى يمثل دول الجنوب العالمي. ولكن في ظل عدم وجود شروط ومعايير محددة لقبول الأعضاء في التحالف الاقتصادي، ومع الحديث عن توسع التحالف واستقبال المزيد من طلبات الانضمام من الدول المختلفة، نجد أن التناغم بين تركيا والدول الأعضاء قد يكون أقل تجانسًا، وهذا قد يحد من قدرة تركيا على التأثير داخل التحالف، مع الأخذ في الاعتبار أن تركيا ستبقى دائمًا على التزامها وعلاقتها بالغرب، وبالتالي فسيكون هناك حذر تركي من دعم أي سياسات من قبل الصين وروسيا، حتى لا تتأثر علاقاتها الاقتصادية والأمنية بالغرب، وهذا النهج يتسق كثيرًا مع مواقف دول موجودة بالفعل داخل بريكس، كالهند والبرازيل..

“فرصة وتهديد” أبرز ردود الأفعال على الانضمام التركي لبريكس

إن دخول دولة عضو في الناتو، التي تعتبر روسيا والصين تهديدًا، قد يكون له آثار إيجابية وسلبية في كلا المعسكرين، فقد انقسمت ردود الأفعال بين توقعات بأن تتعزز مجموعة بريكس بعضوية حليف في الناتو، الأمر الذي قد يعكر صفو الانسجام في التحالف الغربي بما في ذلك حلفاؤها في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وذلك من خلال إجهاد العلاقات التركية بالغرب وزيادة التوترات القائمة بالفعل عبر تعزيز التحالفات السياسية التركية بين الدول المهددة للغرب بشأن القضايا الدولية، والإسهام التركي في إدارة التنافسات الإقليمية لتلك الدول.

بينما قللت ردود أفعال أخرى من أهمية الانضمام، كون أن البريكس ليست منظمة شاملة ومؤسسية كالاتحاد الأوروبي، ولا تشمل آليات سياسية واقتصادية ودفاعية، ولا توجد بها معايير وشروط محددة للانضمام إليها، وبالتالي لا توجد مشكلة تتعلق بأن تبحث دولة ما عن مصالحها الاقتصادية عبر تنوع العلاقات.

أما عن ردود أفعال أعضاء البريكس بطلب تركيا رسمياً للانضمام، فقد رحبت موسكو بطلب تركيا، معلنة أن سيكون الأمر مطروحًا على جدول أعمال قمة المجموعة المقبلة، التي ستُعقد في قازان بروسيا في أكتوبر القادم، وأنه سيتم مناقشة توسيع التحالف بعد رغبة دول عدة بجانب تركيا الانضمام مثل ماليزيا وتايلاند وأذربيجان التي تعتبر حليف تركيا الوثيق، وذلك بعد أن شهد مطلع هذا العام انضمام خمسة دول وهي: مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران وإثيوبيا.

أما الصين، فترى أن انضمام تركيا المحتمل إلى بريكس سيزيد لا شك من مكانة المجموعة، ولكن المراقبين يرون أن هناك مخاوف تتعلق باحتمالية تراجع تركيا عن الانضمام في أي وقت، نظرًا للضغوطات التي قد تمارس على أنقرة، أو احتمالية التغير في أجندة السياسة الخارجية التركية التي تعكس طموحات استراتيجية متنوعة، مستشهدة بالموقف الأرجنتيني، حين قامت بالتراجع عن الانضمام بعد أن كان من المفترض أن تصبح عضوًا رسميًا في بريكس عام 2024، لكنها ألغت الطلب بعد الانتخابات وتولي الرئيس الحالي “خافيير مايلي” السلطة، نظرًا للتغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية للأرجنتين.

فوائد الانضمام اقتصادياً

ما يميز تجمع “بريكس” عن غيره من باقي التكتلات العالمية، هو أن دوله لا تشترك في النطاق الجغرافي، بل تنتشر في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية، وبالتالي فهي لا تشترك في التراث الثقافي والتاريخي ولا الهيكل الإنتاجي، وإنما تشترك في كونها دولًا نامية وناشئة، تسعى لتحسين الوضع والثقل العالمي للدول النامية، وهو الهدف الرئيسي لتأسيس التكتل.

وبالتالي يمكن القول إن هذا التحالف يضع نفسه كبديل للمؤسسات التي يهيمن عليها الغرب مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ورغم حداثة عهده، وصغر عدد أعضائه مقارنة بنظرائه من التكتلات الاقتصادية، إلا أنه أصبح اليوم أحد أهم التكتلات الاقتصادية في العالم؛ فالحجم الاقتصادي الحالي لدول البريكس بلغ 45 تريليون دولار بما يعادل 35.43% من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد العالمي مقارنة بـ 29% من إجمالي الناتج المحلي لدول G7، بعدد سكان يقرب من 46% من سكان العالم، كما تنتج مجموعة البريكس حوالي 42% من إنتاج النفط العالمي و35% من إجمالي استهلاك النفط، وقد قدم بنك التنمية الجديد، الذي تأسس في إطار مجموعة البريكس في عام 2014 حوالي 32.8 مليار دولار في شكل قروض لمشاريع البنية التحتية حتى عام 2023 بإجمالي 96 مشروع معتمد.

ووفق ما سبق، فإن الانضمام التركي لهذا التحالف من شأنه أن يلقي بظلال إيجابية على المستوى الاقتصادي للبلاد، فمنذ تشكيل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحكومته الجديدة في يونيو الماضي، تم وضع خطة اقتصادية جديدة للاقتصاد التركي تقوم على أسس السوق الحرة ورفع أسعار الفائدة، وبالتالي، فإن من شأن العضوية التركية في بريكس أن توفر لها القدرة على الوصول إلى التمويل من خلال بنك التنمية، وتعزيز قدراتها الاقتصادية عبر التعاون مع أكبر اقتصادات العالم الناشئة والدول الأعضاء وجذب الاستثمارات إلى قطاعاتها المتنامية، كما سيزيد من قدرتها على الإنتاج، كما سيتيح لها الدور الأكبر في تعزيز مكانتها على الساحة الدولية وإمكانية تشكيل السياسيات الاقتصادية العالمية.

فالناتج المحلي الإجمالي لتركيا يبلغ حالياً 1.1 تريليون دولار بنسبة 3.1%، من الناتج الإجمالي العالمي، بعدد سكان يصل إلى 85.4 مليون نسمة، وهذا من شأنه أن يزيد من ثقل المجموعة اقتصاديًا ليصل ناتجها الإجمالي المحلي إلى 38.53% من الاقتصاد العالمي، هذا بجانب استفادة المجموعة من قطاع التصنيع القوي في البلاد، وعدد السكان الكبير وخاصة فئة الشباب، وبالطبع من موقعها الاستراتيجي عند مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.

على الجانب الآخر، هناك رأي اقتصادي متشائم حول إمكانية استفادة تركيا اقتصاديًا من الانضمام، إذ يؤكد هذا الرأي أن الانضمام لبريكس سيتسبب في تراجع الاقتصاد التركي، فبالنظر إلى الميزان التجاري لتركيا مع الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبي مقارنة بالميزان التجاري التركي مع الصين وروسيا، سنجد أن الأخير يعد خاسراً لصالح التجارة التركية مع أوروبا من حيث الصادرات، ففي يوليو 2024، كانت ألمانيا هي الدولة الأكبر للصادرات بمليار و 752 مليون دولار، وتبعتها المملكة المتحدة بمليار و 604 مليون دولار، والولايات المتحدة الأمريكية بمليار و 441 مليون دولار، والعراق بمليار و 59 مليون دولار، وإيطاليا بمليار و 29 مليون دولار.

وكون أن الاقتصاد التركي يعاني بالفعل حاليًا، فهذا يعني أنه قد لا يقدم للتحالف ما يرجوه من اقتصاد قوي يحقق أهدافه. وحتى إذا كان الهدف هو إلغاء التجارة بالدولار الأمريكي، فإن المستفيد الأكبر هو روسيا والصين لا تركيا، لأنهما دولتان مصدرتان أكثر من كونهما مستوردتين للمنتجات والبضائع التركية، ولكن تركيا ستستفيد فقط من الخصم الخاص بالنفط الروسي أو القمح، فوفقًا للإحصائيات الأخيرة في يوليو 2024، كانت الصين هي الدولة الأولى في واردات تركيا بقيمة 4 مليارات و155 مليون دولار، تلتها روسيا بقيمة 3 مليارات و773 مليون دولار، وألمانيا بقيمة 2 مليار و535 مليون دولار، وإيطاليا بقيمة 1 مليار و407 مليون دولار، والولايات المتحدة الأمريكية بقيمة 1 مليار و400 مليون دولار.

ومجمل القول، تحاول تركيا الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي من خلال تحقيق التوازن الوسطي بين قوى الشرق والغرب. وقد يعمل طلب تركيا للانضمام إلى بريكس على استفزاز بروكسل لإعادة النظر في إحياء المفاوضات بين أوروبا وتركيا حول عضوية الاتحاد الأوروبي. وقد تزداد الضغوط على تركيا بطلب دول الناتو الاختيار بين التحالف وبريكس. وحال تراجع أنقرة، ستثبت للشرق بأنها حليف لا يمكن الوثوق بقراراته المتقلبة. ولهذا يبقى الانضمام التركي لبريكس مسألة معقدة، ولكن إذا تم، فقد يثير تحديات جديدة في العلاقات الدولية خاصة مع الغرب والناتو.

سعيًا إلى تعزيز نفوذها العالمي وإقامة علاقات جديدة بعيدًا عن حلفائها الغربيين الذين يرفضون طلب عضويتها داخل الاتحاد الأوروبي، واعتقادًا بأن مركز الثقل الجيوسياسي يتحول بعيدًا عن الاقتصادات المتقدمة، طلبت تركيا بشكل رسمي الانضمام إلى مجموعة “بريكس BRICS”، وهو التحالف الاقتصادي الذي يضم الدول الناشئة الكبرى ويهدف إلى تحدي الهيمنة الغربية على الاقتصاد العالمي، وهي الخطوة التي يُتوقع أن تفتح بابًا أمام تركيا للدخول في تحالفات اقتصادية جديدة قد تعكر صفو الغرب المستاء بالفعل من التحركات التركية الأخيرة.

أسباب الطلب التركي

يعاني الاقتصاد التركي منذ عقود، وذلك في ضوء ما شهدته تركيا من صراعات إقليمية ودولية على حدودها البرية والبحرية، مما أدى إلى تراجع ملحوظ في أداء الاقتصاد والليرة التركية، ولهذا أدركت تركيا أن الاقتصاد محرك أساسي ومهم للغاية في الداخل التركي والخارج. وعقب الانتخابات الأخيرة، كان ملف الاقتصاد من أبرز اهتمامات حزب العدالة والتنمية الذي يقوده الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسط وعود بأن يصبح الاقتصاد التركي من أقوى الاقتصادات في العالم.

تدير تركيا علاقاتها الخارجية بين الغرب وكل من روسيا والصين بشكل يجعلها لا تنحاز إلى أي طرف على حساب الآخر، بالرغم من انتماء أنقرة للمعسكر الغربي تقليديًا بحكم عضويتها في حلف شمال الأطلسي، وسعيها الحثيث لعقود من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، هذا بجانب أن أوروبا تعتبر شريكها الأكبر على مستوى المعاملات التجارية، بالإضافة إلى موافقة تركيا بعد أشهر من المفاوضات على انضمام السويد وفنلندا إلى عضوية الناتو، فضلاً عن المساعي التركية الأخيرة للتقرب إلى المؤسسات الغربية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، للحصول على دعم مالي لمساندة الاقتصاد التركي.

ولكن رغم ذلك، نجد أن تركيا تسعى إلى تنويع حلفائها بعيدًا عن الغرب بالإعلان خلال قمة بريكس في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا عام 2018 عن رغبتها في الانضمام للمجموعة إلى جانب كل من روسيا والصين، المنافسين الأشرس للغرب خاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والتكنولوجيا. وهذا التنوع في العلاقات على مستوى السياسة الخارجية دائمًا ما يثير الشكوك حول تركيا بأنها الحليف الذي “لا يمكن الاعتماد عليه” سواء في الشرق أو الغرب.

  • رفض عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي

منذ نهايات القرن الماضي، تحاول تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي ووضعت الأمر كـ “هدف استراتيجي” هام للمستقبل التركي، بالرغم من كون أنقرة أهم الأعضاء في تحالف شمال الأطلسي الذي يُعتبر الجزء الأهم من منظومة الدفاع الأوروبية، ولكن مع إخفاقها في إحراز أي تقدم في ملف العضوية بسبب ما تطلق عليه أوروبا “أوجه القصور الديمقراطي في تركيا” وعدم الوفاء بمعايير “كوبنهاغن”، تنامى شعور أنقرة بالإحباط، الأمر الذي دفعها للسعي إلى إحياء تحالفات جديدة لتوسيع اقتصادها البالغ تريليون دولار تقريبًا، مع التأكيد في الوقت نفسه على الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها كعضو رئيسي في منظمة حلف شمال الأطلسي.

وبتتبع تصريحات المسؤولين الأوروبيين السابقين والحاليين، نجد أن هناك معارضة رسمية وشعبية لانضمام تركيا للمنظومة الأوروبية خصوصًا في فرنسا وألمانيا وهولندا والنمسا واليونان. ويمكن رؤية ذلك بوضوح من خلال استخدام “الفيتو” في وجه أي تقدم في مسار المفاوضات. وربما تكمن الأسباب وراء الرفض الأوروبي لعضوية تركيا داخل الاتحاد الأوروبي في:

  • التحديات الاقتصادية والتي تتمثل في التقلبات الشديدة التي اتسم بها الاقتصاد التركي في معدلات النمو والتضخم، فبالرغم من تحقيق تركيا نموًا اقتصاديًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة، إلا أن هناك مخاوف بشأن استدامة هذا النمو، فضلاً عن الفجوة الكبيرة بين الاقتصاد التركي واقتصادات الدول الأعضاء. مع العلم أن هناك دولاً تتشابه مع تركيا في الخصائص الاقتصادية، وربما تمتلك مؤشرات اقتصادية أضعف، مثل بلغاريا ورومانيا واليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا، ورغم ذلك تم قبول عضويتها بالاتحاد، وهو الأمر الذي جعل تركيا تشعر بأن أوروبا تمتلك معايير مزدوجة.
  • التباين في القيم والمبادئ: وفقًا لدراسة نشرتها منصة “إنترإيكونوميكس” تحت عنوان “تركيا والاتحاد الأوروبي.. القضايا والتحديات وسياسة الانضمام”، هناك سبب للرفض يتمحور حول الاختلاف الديني والثقافي بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وهو سبب يبني عليه الرافضون لانضمام تركيا مواقفهم، إذ يرون أنه من غير الممكن ترسيخ القيم الأوروبية الثقافية واستخدامها في مجتمع تركيا المسلم، وأن تركيا دولة “شرقية” لا تناسب أوروبا.
  • هذا بجانب الانتقادات التي تواجه تركيا بشأن تراجعها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الأقليات، بالإضافة إلى ضعف سيادة القانون وزيادة النفوذ السياسي وتقويض المؤسسات الدستورية، وكل هذا يثير قلقًا كبيرًا داخل الاتحاد الأوروبي.
  • الخلافات مع الاتحاد الأوروبي والناتو: وهذه الخلافات متعددة الاتجاهات وتدور حول محافظة تركيا على روابط وثيقة مع روسيا بعد تجدد غزوها لأوكرانيا في عام 2022، وخاصة بعد تصريحات الرئيس التركي بأنه يثق في الروس بقدر ثقته في الغرب، وهو ما تم تفسيره لاحقًا بأن تركيا لا تساوي بين التعامل مع الكرملين والموافقة على الإجراءات الروسية تجاه أوكرانيا، لكن أيضًا تركيا لا ترى في روسيا أي تهديد.

وهناك خلاف آخر يتعلق باستمرار الإجراءات العقابية التي فرضها الاتحاد الأوروبي على تركيا في عام 2019 بشأن استكشاف أنقرة للطاقة في شرق المتوسط، إذ تضمنت هذه الإجراءات، التي عكست وقوف بروكسل إلى جانب اليونان وقبرص الدولتين العضوين، تعليق بعض محادثات العضوية مع تركيا، ما أدى إلى إعاقة التجارة وعرقلة بعض الصفقات الدفاعية.

وقد أثار التدخل العسكري التركي في سوريا المزيد من التدهور في العلاقات مع بعض الدول الأوروبية، وخاصة ألمانيا وفرنسا، الأمر الذي زاد من وتيرة الاتهامات التركية للاتحاد الأوروبي باستمرار الدعم الأوروبي للتنظيمات التي تضعها أنقرة على لوائح الإرهاب، والتساهل مع الانفصاليين الأكراد، والحرية الممنوحة لهم بالتحرك عبر بلدان أعضاء الاتحاد الأوروبي.

وكذلك التوجهات التركية المعادية للغرب في ضوء الاتهامات التي ألقى بها الرئيس التركي على أوروبا والولايات المتحدة بأنهما لم تبذلا ما يكفي من الجهد لمحاولة كبح أو وقف الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين في غزة.

  • الإملاءات الأمريكية لتحسن العلاقات مع أنقرة

في الفترة الأخيرة، حاولت أنقرة تحسين العلاقات مع واشنطن بعد سنوات من التوترات، نتج عنها توقف المصالح التركية في واشنطن، وعلى رأسها صفقة طائرات إف-16 الأمريكية، ولكن مقابل الانفراجة في العلاقات، واجهت أنقرة شروطًا تتعلق بالموافقة على طلب عضوية السويد للناتو، وكذلك تقليص علاقات أنقرة مع موسكو وبكين، وبالتأكيد هذا يشمل العلاقات الاقتصادية.

ولكن كما ذكرنا، تحاول تركيا أن تكون منفتحة على جميع الأطراف دون انحياز، لذا نجد أن تركيا لم تخضع لبعض تلك الإملاءات، بدليل المساعي التركية للتعاون مع روسيا والصين في مجالات عدة، أبرزها الاستثمار في الطاقة والسيارات الكهربائية والبنية الأساسية والخدمات اللوجستية والاتصالات، ورفض أنقرة -حتى الآن- تطبيق العقوبات الغربية على روسيا بشكل كامل، وهو الأمر الذي قوبل بوضع أكثر من شركة تركية على قائمة العقوبات الأمريكية في سبتمبر 2023، وذلك لتزويد روسيا بمعدات متقدمة تستخدم في تصنيع السلاح الروسي، وكذلك تم الضغط بقوة من قبل واشنطن على النظام البنكي التركي.

ولكن تركيا رغم ذلك، وافقت على عضوية السويد في الناتو، ورفعت التعريفة الجمركية على السيارات المستوردة من الصين إلى 40%، وهو أمر عارضته وزارة التجارة الصينية، وكذلك قامت بخفض الصادرات التركية لروسيا بمقدار الثلث في الأشهر الأولى من 2024 مقارنة بنفس الفترة في 2023، كما سارعت تركيا إلى تحسين العلاقات مع إسرائيل- قبل حرب غزة- واليونان باعتبار ذلك مدخلاً مهماً لتحسين العلاقات مع واشنطن، وكذلك الاتفاق على إنشاء مصنع للطائرات المسيرة في أوكرانيا من خلال شركة “بايكار” التركية، وهي خطوة تُعتبر تحولاً مهمًا لسياسة التوازن التي كانت تتبعها تركيا في حرب أوكرانيا فيما يتعلق بدعم كييف.

  • تحالفات تركية جديدة خارج الغرب:

تأتي الخطوة التركية في ظل توجه أنقرة عبر سياستها الخارجية نحو تنويع الشراكات الاقتصادية وتوسيع النفوذ التركي في الأسواق العالمية وتحديدًا في الشرق، خاصة وأن تركيا تواجه بالفعل تحديات اقتصادية على المستويين الداخلي والخارجي، وربما استغلت الأطراف الفاعلة في الشرق كروسيا والصين توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة لشد الخيوط التركية بعيدًا عن الغرب نحو الشرق.

نجد هذا واضحًا من خلال العلاقات الأكثر توازناً بين موسكو وأنقرة، خاصة مع اشتباك الطرفين في الملف السوري والليبي وفي أذربيجان والحرب مع أرمينيا، الأمر الذي دفع روسيا لتعزيز ودعم طموحات تركيا للانضمام إلى مجموعة بريكس، واستئناف المفاوضات الأمنية مع دمشق للوقوف على ملف الأكراد الانفصاليين الذي يقلق أنقرة هناك، وغيرها من التسهيلات الروسية لصالح تركيا، على الرغم من أن هناك تصرفات تركية قد أثرت على العلاقات بموسكو في الفترة الأخيرة، كاستقبال تركيا الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي”، وإعراب أردوغان عن دعم أنقرة لانضمام كييف داخل الناتو، وهذا يعني المساس بالخط الأحمر الذي تضعه موسكو والذي أقامت بسببه هذه الحرب.

 وقد يكون الانضمام إلى “بريكس” هو نقطة الانطلاق نحو تحالفات أوسع في عالم متعدد الأقطاب، فقد أعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر من مرة عن اهتمامه بتطوير العلاقات التركية مع عدد من المنظمات البديلة التي لا يهيمن عليها الغرب على أساس الربح المتبادل، ففي سبتمبر 2022، أعلن عن رغبة بلاده في الانضمام إلى “منظمة شنغهاي للتعاون”، وهي منظمة حكومية دولية تجمع الدول الأعضاء الآسيوية وتعزز التعاون العسكري والاستخباراتي والمبادرات الاقتصادية الإقليمية، تأسست بواسطة روسيا والصين باعتبارها بديلاً لحلف شمال الأطلسي، وقد تتقدم تركيا أيضًا بطلب لإقامة شراكة موسعة قائمة على الحوار مع رابطة دول جنوب شرق آسيا.

وربما حرصت تركيا على استخدام ورقة التقارب الروسي الصيني من أجل الحصول على امتيازات أكبر من الغرب، وكذلك من أجل دفع موسكو وبكين لتقديم امتيازات لأنقرة دون أن تطلب ذلك صراحةً. ولكن في النهاية، إذا تعقد الوضع الاقتصادي التركي، سيتعين عليها التخلي عن هذا النهج المتوازن واختيار الجبهة التي تفضل الوقوف إلى جانبها.

  • زيادة الثقل الدبلوماسي

ترى أنقرة في الانضمام فرصة لاكتساب مساحات تأثير وزيادة ثقلها السياسي عبر الحضور في منتدى يمثل دول الجنوب العالمي. ولكن في ظل عدم وجود شروط ومعايير محددة لقبول الأعضاء في التحالف الاقتصادي، ومع الحديث عن توسع التحالف واستقبال المزيد من طلبات الانضمام من الدول المختلفة، نجد أن التناغم بين تركيا والدول الأعضاء قد يكون أقل تجانسًا، وهذا قد يحد من قدرة تركيا على التأثير داخل التحالف، مع الأخذ في الاعتبار أن تركيا ستبقى دائمًا على التزامها وعلاقتها بالغرب، وبالتالي فسيكون هناك حذر تركي من دعم أي سياسات من قبل الصين وروسيا، حتى لا تتأثر علاقاتها الاقتصادية والأمنية بالغرب، وهذا النهج يتسق كثيرًا مع مواقف دول موجودة بالفعل داخل بريكس، كالهند والبرازيل..

“فرصة وتهديد” أبرز ردود الأفعال على الانضمام التركي لبريكس

إن دخول دولة عضو في الناتو، التي تعتبر روسيا والصين تهديدًا، قد يكون له آثار إيجابية وسلبية في كلا المعسكرين، فقد انقسمت ردود الأفعال بين توقعات بأن تتعزز مجموعة بريكس بعضوية حليف في الناتو، الأمر الذي قد يعكر صفو الانسجام في التحالف الغربي بما في ذلك حلفاؤها في حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي، وذلك من خلال إجهاد العلاقات التركية بالغرب وزيادة التوترات القائمة بالفعل عبر تعزيز التحالفات السياسية التركية بين الدول المهددة للغرب بشأن القضايا الدولية، والإسهام التركي في إدارة التنافسات الإقليمية لتلك الدول.

بينما قللت ردود أفعال أخرى من أهمية الانضمام، كون أن البريكس ليست منظمة شاملة ومؤسسية كالاتحاد الأوروبي، ولا تشمل آليات سياسية واقتصادية ودفاعية، ولا توجد بها معايير وشروط محددة للانضمام إليها، وبالتالي لا توجد مشكلة تتعلق بأن تبحث دولة ما عن مصالحها الاقتصادية عبر تنوع العلاقات.

أما عن ردود أفعال أعضاء البريكس بطلب تركيا رسمياً للانضمام، فقد رحبت موسكو بطلب تركيا، معلنة أن سيكون الأمر مطروحًا على جدول أعمال قمة المجموعة المقبلة، التي ستُعقد في قازان بروسيا في أكتوبر القادم، وأنه سيتم مناقشة توسيع التحالف بعد رغبة دول عدة بجانب تركيا الانضمام مثل ماليزيا وتايلاند وأذربيجان التي تعتبر حليف تركيا الوثيق، وذلك بعد أن شهد مطلع هذا العام انضمام خمسة دول وهي: مصر والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وإيران وإثيوبيا.

أما الصين، فترى أن انضمام تركيا المحتمل إلى بريكس سيزيد لا شك من مكانة المجموعة، ولكن المراقبين يرون أن هناك مخاوف تتعلق باحتمالية تراجع تركيا عن الانضمام في أي وقت، نظرًا للضغوطات التي قد تمارس على أنقرة، أو احتمالية التغير في أجندة السياسة الخارجية التركية التي تعكس طموحات استراتيجية متنوعة، مستشهدة بالموقف الأرجنتيني، حين قامت بالتراجع عن الانضمام بعد أن كان من المفترض أن تصبح عضوًا رسميًا في بريكس عام 2024، لكنها ألغت الطلب بعد الانتخابات وتولي الرئيس الحالي “خافيير مايلي” السلطة، نظرًا للتغيرات التي طرأت على السياسة الخارجية للأرجنتين.

فوائد الانضمام اقتصادياً

ما يميز تجمع “بريكس” عن غيره من باقي التكتلات العالمية، هو أن دوله لا تشترك في النطاق الجغرافي، بل تنتشر في قارات آسيا وإفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية، وبالتالي فهي لا تشترك في التراث الثقافي والتاريخي ولا الهيكل الإنتاجي، وإنما تشترك في كونها دولًا نامية وناشئة، تسعى لتحسين الوضع والثقل العالمي للدول النامية، وهو الهدف الرئيسي لتأسيس التكتل.

وبالتالي يمكن القول إن هذا التحالف يضع نفسه كبديل للمؤسسات التي يهيمن عليها الغرب مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ورغم حداثة عهده، وصغر عدد أعضائه مقارنة بنظرائه من التكتلات الاقتصادية، إلا أنه أصبح اليوم أحد أهم التكتلات الاقتصادية في العالم؛ فالحجم الاقتصادي الحالي لدول البريكس بلغ 45 تريليون دولار بما يعادل 35.43% من الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد العالمي مقارنة بـ 29% من إجمالي الناتج المحلي لدول G7، بعدد سكان يقرب من 46% من سكان العالم، كما تنتج مجموعة البريكس حوالي 42% من إنتاج النفط العالمي و35% من إجمالي استهلاك النفط، وقد قدم بنك التنمية الجديد، الذي تأسس في إطار مجموعة البريكس في عام 2014 حوالي 32.8 مليار دولار في شكل قروض لمشاريع البنية التحتية حتى عام 2023 بإجمالي 96 مشروع معتمد.

ووفق ما سبق، فإن الانضمام التركي لهذا التحالف من شأنه أن يلقي بظلال إيجابية على المستوى الاقتصادي للبلاد، فمنذ تشكيل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لحكومته الجديدة في يونيو الماضي، تم وضع خطة اقتصادية جديدة للاقتصاد التركي تقوم على أسس السوق الحرة ورفع أسعار الفائدة، وبالتالي، فإن من شأن العضوية التركية في بريكس أن توفر لها القدرة على الوصول إلى التمويل من خلال بنك التنمية، وتعزيز قدراتها الاقتصادية عبر التعاون مع أكبر اقتصادات العالم الناشئة والدول الأعضاء وجذب الاستثمارات إلى قطاعاتها المتنامية، كما سيزيد من قدرتها على الإنتاج، كما سيتيح لها الدور الأكبر في تعزيز مكانتها على الساحة الدولية وإمكانية تشكيل السياسيات الاقتصادية العالمية.

فالناتج المحلي الإجمالي لتركيا يبلغ حالياً 1.1 تريليون دولار بنسبة 3.1%، من الناتج الإجمالي العالمي، بعدد سكان يصل إلى 85.4 مليون نسمة، وهذا من شأنه أن يزيد من ثقل المجموعة اقتصاديًا ليصل ناتجها الإجمالي المحلي إلى 38.53% من الاقتصاد العالمي، هذا بجانب استفادة المجموعة من قطاع التصنيع القوي في البلاد، وعدد السكان الكبير وخاصة فئة الشباب، وبالطبع من موقعها الاستراتيجي عند مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.

على الجانب الآخر، هناك رأي اقتصادي متشائم حول إمكانية استفادة تركيا اقتصاديًا من الانضمام، إذ يؤكد هذا الرأي أن الانضمام لبريكس سيتسبب في تراجع الاقتصاد التركي، فبالنظر إلى الميزان التجاري لتركيا مع الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبي مقارنة بالميزان التجاري التركي مع الصين وروسيا، سنجد أن الأخير يعد خاسراً لصالح التجارة التركية مع أوروبا من حيث الصادرات، ففي يوليو 2024، كانت ألمانيا هي الدولة الأكبر للصادرات بمليار و 752 مليون دولار، وتبعتها المملكة المتحدة بمليار و 604 مليون دولار، والولايات المتحدة الأمريكية بمليار و 441 مليون دولار، والعراق بمليار و 59 مليون دولار، وإيطاليا بمليار و 29 مليون دولار.

وكون أن الاقتصاد التركي يعاني بالفعل حاليًا، فهذا يعني أنه قد لا يقدم للتحالف ما يرجوه من اقتصاد قوي يحقق أهدافه. وحتى إذا كان الهدف هو إلغاء التجارة بالدولار الأمريكي، فإن المستفيد الأكبر هو روسيا والصين لا تركيا، لأنهما دولتان مصدرتان أكثر من كونهما مستوردتين للمنتجات والبضائع التركية، ولكن تركيا ستستفيد فقط من الخصم الخاص بالنفط الروسي أو القمح، فوفقًا للإحصائيات الأخيرة في يوليو 2024، كانت الصين هي الدولة الأولى في واردات تركيا بقيمة 4 مليارات و155 مليون دولار، تلتها روسيا بقيمة 3 مليارات و773 مليون دولار، وألمانيا بقيمة 2 مليار و535 مليون دولار، وإيطاليا بقيمة 1 مليار و407 مليون دولار، والولايات المتحدة الأمريكية بقيمة 1 مليار و400 مليون دولار.

ومجمل القول، تحاول تركيا الحفاظ على استقلالها الاستراتيجي من خلال تحقيق التوازن الوسطي بين قوى الشرق والغرب. وقد يعمل طلب تركيا للانضمام إلى بريكس على استفزاز بروكسل لإعادة النظر في إحياء المفاوضات بين أوروبا وتركيا حول عضوية الاتحاد الأوروبي. وقد تزداد الضغوط على تركيا بطلب دول الناتو الاختيار بين التحالف وبريكس. وحال تراجع أنقرة، ستثبت للشرق بأنها حليف لا يمكن الوثوق بقراراته المتقلبة. ولهذا يبقى الانضمام التركي لبريكس مسألة معقدة، ولكن إذا تم، فقد يثير تحديات جديدة في العلاقات الدولية خاصة مع الغرب والناتو.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82378/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M