كيف تؤثر نتائج الانتخابات الأمريكية على الأمن الأوروبي؟

مع انسحاب الرئيس الأمريكي جو بايدن من سباق الانتخابات الرئاسية، ودعمه نائبته كامالا هاريس في منافسة الرئيس السابق دونالد ترامب، ازدادت مخاوف الدول الأوروبية التي ترى في ترامب مصدر تهديد كان يمكن تجنبه حال استمرار بايدن أو الحزب الديمقراطي بشكل عام في الرئاسة الأمريكية لفترة قادمة.

هل يزال صعود ترامب مجرد احتمالاً واردًا؟

سبق فترة الترشح للانتخابات الرئاسية الأمريكية حالة استياء عند أغلب الأمريكيين من إدارة بايدن وقدرته على التعامل مع عدد من القضايا، وفي مقدمتها الأزمات الدولية والسياسة الاقتصادية، لا سيما مع اشتعال صراعين، أحدهما في أوروبا والآخر في الشرق الأوسط واللذان كانا مستقرين خلال إدارة ترامب. فضلاً عن عدم ثقة المواطنين في قدرة بايدن على اتخاذ قرارات حكيمة بشأن سياسة الهجرة أو التعامل بفعالية مع الصين، وهي نقاط ساهمت جميعها في التنامي النسبي المبدئي لشعبية ترامب مقارنة بشعبية بايدن، منذ إعلان ترشحهما، لا سيما مع بناء ترامب لجزء كبير من حملته الانتخابية على فشل إدارة بايدن في التعامل مع مختلف الملفات التي نجحت إدارته السابقة في التعامل معها. وكان السباق الرئاسي الأمريكي قد بدأت صورته في الوضوح خلال الأسابيع الماضية والتي شهدت انتقادًا واسعًا لبايدن ومطالبته بالانسحاب، لا سيما مع شك الأمريكيين حول سلامته الذهنية والصحية بشكل عام والتي كانت محورًا رئيسًا يستندون إليه.

وعندما تشبث بايدن ببقائه في السباق الرئاسي، مؤكدًا أنه قادر على تولي أمور البلاد لفترة رئاسية قادمة، ازداد القلق، وخاصة بين الديمقراطيين الذين استشعروا خطورة الوضع على استمرارية حزبهم في الرئاسة، مما أدى إلى تنامي التوترات الداخلية بينهم. وبينما كانوا في البداية يسعون إلى محاولة إقناعه بالانسحاب مع دعمه علانية، تصاعدت الفوضى داخل الحزب مؤدية بهم إلى مطالبته علانية بالانسحاب.

نجد أن ترقب الولايات المتحدة لصعود ترامب ربما كان أكثر من كونه احتمالاً، وتتالت الأسباب التي تصب في النهاية في شعبيته المتصاعدة بشكل كبير في الفترة السابقة والتي ارتفعت لا سيما بعد حدثين مهمين. يأتي أولهما محاولة اغتيال ترامب التي استطاع الجمهوريون استغلالها لصالحهم عن طريق إلقاء اللوم على حملات الدعاية السلبية التي لجأت إليها إدارة بايدن وانتقاد ترامب، مما خلق بذلك “بيئة سامة” أدت بشاب ينتمي إلى الجمهوريين أنفسهم إلى محاولة اغتياله. ثانيًا، أتت المناظرة الأولى بين الرئيسين والتي شهدت أداء بايدن الضعيف الذي ساهم في تراجع شعبيته وتنامي القلق إزاء قدرته ليس فقط على منافسة ترامب بل أيضًا على إدارة البلاد، إن فاز.

ولكن مع الميل الأمريكي الحالي للجمهوريين والضغط المتتالي على بايدن، انتهى الأمر بانسحابه من السباق الانتخابي، مؤيدًا ترشح نائبته كامالا هاريس لتحل محله في مواجهة ترامب، وهو ما كان من شأنه أن يحسن وضع الجمهوريين نسبيًا، لاسيما لكونه غير متوقع أن تختلف سياستها عن سياسة بايدن، علمًا بأنها كانت عاملاً مؤثرًا في القرارات التي كان يتخذها بايدن.

ويتضح عدم وجود تباين ملحوظ بين استطلاعات الرأي الأخيرة في مختلف الولايات بين هاريس وترامب، إلا أن الجمهوريين لا يزالون متقدمين على الديمقراطيين، حتى بعد انسحاب بايدن، وهو ما قد يشير إلى ميل الناخب الأمريكي للجمهوريين أكثر من كونه يفضل أي شخص عدا بايدن.

ويمكن تفسير هذا التقدم أو الميل من خلال رؤية الأمريكيين لأهمية عودة ترامب ليس فقط كمنقذ للولايات المتحدة من السياسات المنتقدة لبايدن ولكن أيضًا كمنقذ للعالم، أي أن ترامب يعد قادرًا بشخصيته المندفعة والخشنة على إخماد النيران المتقدة في أوروبا والشرق الأوسط، فضلاً عن موازنة الأوضاع بشكل أفضل مع الصين وإيران. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من تقدم بايدن في بعض النقاط الاقتصادية من ناحية، نجد أنه من ناحية أخرى يميل الشعب إلى الحكم على الوضع الاقتصادي من خلال النظر في المعايير الملموسة مثل الفرق بين التضخم والأجور والذي أظهر فيه تقدم ترامب بشكل ملحوظ على بايدن الذي شهدت فترة رئاسته معدل تضخم كبيرًا. هذا وشهد عهد ترامب ارتفاعًا في الأجور لما يقرب من ضعف معدل التضخم، بينما في عهد بايدن بالكاد واكبت الأجور القفزة البالغة في معدل التضخم، وهو ما ساهم في استياء الشعب بشأن الشق الاقتصادي.

من جهة أخرى، وبينما كان عدم انسحاب بايدن السيناريو المفضل للجمهوريين لكونه يحسم بشكل كبير موقفهم من الانتخابات، نجد كامالا هاريس تأتي لتعيق هذا السيناريو، وهو ما وصفه الجمهوريون بـ “الانقلاب”، وبعد أقل من ساعة من إعلان بايدن، كانت حملة ترامب تملأ قنواتها على وسائل التواصل الاجتماعي بمقاطع من تصريحات هاريس السابقة التي قد تؤدي إلى نفور بعض الناخبين.

وفي هذا السياق، نجد أن هاريس لا تزال تحتاج إلى تخطي النقاط السلبية التي تعوق تفوقها على ترامب في نوفمبر ٢٠٢٤. هذا حيث كانت هاريس جزءًا لا يتجزأ من سياسات بايدن المُنتقدة والتي من المتوقع أن تسير على النهج ذاته، والتي، إن فازت في هذه الانتخابات، من المُمكن أن يتوقع الشعب تكرار الوضع الذي كان عليه مع بايدن، ربما مع بعض التغييرات الطفيفة، لا سيما في ظل ظروف تُصاغ على نهج وصول بايدن لرئاسة الولايات المتحدة بعدما كان نائبًا لأوباما، وفي ظل أنه لم يكن الخيار الأول للعديد من الناشطين الديمقراطيين المُتحمسين، وهو الحال الراهن مع هاريس التي لاقت الدعم فقط لكون حزبها يحاول تعزيز صورة وحدته أمام الناخب الأمريكي.

 ذلك بالإضافة إلى أن بايدن ينظر إليه على أنه أضعف من أوباما، وهو الحال مع هاريس التي يراها عدد من الناخبين أضعف من بايدن، خاصة لكونها امرأة، ويتضح أن الولايات المتحدة لا تزال تعاني من عدم استيعاب رئاسة امرأة للبلاد، بالأخص في دولة لم تحكمها امرأة قط حتى الآن. ولكن، على الرغم من ذلك، لا تزال هاريس تتمتع بميزة واضحة على بايدن وهي عمرها، فهي أصغر منه بأكثر من عقدين من الزمان، وأصغر من ترامب ذاته بنحو 18 عامًا، وهو ما قد يعطي أملاً للناخب الأمريكي في إمكانية تحسينها للوضع الذي كانت عليه الولايات المتحدة في عهد بايدن.

وبينما تحاول هاريس أن تتغلب على هذه النظرة السلبية في محاولاتها للظهور كطرف أقوى من ترامب بل وبايدن أيضًا، لم تسنح لها الفرصة لإثبات جدارتها لتولي المنصب الذي من المرجح أن تكون هي المرشحة الرسمية له، ولكنها، على أقل تقدير، استطاعت الظهور كامرأة قوية قادرة على الرد على ترامب، وهو ما لم ينجح فيه بايدن مؤخرًا.

ومع محاولات هاريس لحشد الناخبين، حوّل ترامب حملته لانتقادها، سيرًا على النهج الذي بدأ به حملته الانتخابية ضد بايدن. وعليه، فمن المرجح أن تستمر اتهامات الجمهوريين لهاريس في كونها جزءًا من عملية التستر على تدهور صحة بايدن، مع اعتقادهم أن الناخب الأمريكي ربما يكون قد فقد الثقة في الديمقراطيين والصحافة الذين فشلوا في تسليط الضوء على نقاط ضعف بايدن في وقت أقرب.

كما يتوقع أن يستمر ترامب في مهاجمة سجل هاريس في كاليفورنيا، حيث عملت كمدعية عامة قبل انتخابها لمجلس الشيوخ. وإن لم تتغلب كامالا هاريس على هذه الانتقادات، بل وتوجه السلاح ذاته ضد ترامب، كان من المتوقع أن تضعف قاعدتها الشعبية التي، وفقًا لاستطلاعات الرأي، لا تزال على المحك. ولكن، على الرغم من هجوم الجمهوريين على هاريس والسياسة التي تتبعها، نجد تقدم هاريس في استطلاعات الرأي الأخيرة والتي شهدت شعبيتها ارتفاعًا كبيرًا، منذ انضمامها إلى استطلاعات الرأي الرئاسية.

أين تقف أوروبا؟

كانت أوروبا تميل بشكل أكبر إلى إعادة انتخاب بايدن لكونها تخشى عودة ترامب الذي يهدد مصالحها على وجه العموم وأمنها على وجه الخصوص، بسبب سياسته غير المتوقعة والمبنية على خلفية رجل أعمال أكثر من كونه رئيسًا للبلاد. وعليه، كانت الحجة التي دفعت كل الأحزاب الرئيسية في أوروبا إلى دعم ترشيح بايدن للمرة الثانية هي أنه سيجلب القدرة على التنبؤ، حيث كان يُنظر إلى الرئيس الحالي باعتباره شخصية موثوقة، وكان يُنظر إلى منافسه باعتباره خطرًا أمنيًا. هذا وتعد خلفية ترامب مقلقة لأنها تميل لاتخاذ القرارات بناء على حسابات مادية، وهو ما يجعل ترامب يسعى إلى المكسب والعائد من توجهات سياسته الخارجية، وهو ما يجعل العلاقات عبر الأطلسي على المحك ومبنية على حدود مكاسب وخسارة الولايات المتحدة.

ولم تأتِ هذه النظرة في ضوء توقعات بل حقائق حدثت خلال فترة رئاسته السابقة التي رأت الولايات المتحدة تتجه نحو إلغاء الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والمتعددة الأطراف لصالح ترتيبات أحادية الجانب، تُجرى بين دولة وأخرى، وتشكل حجر الزاوية في أجندة سياسة ترامب “أمريكا أولاً”.

وعند النظر بشكل أكثر تدقيقًا، يتضح أن فترة رئاسة ترامب الماضية أظهرت عداءً علنيًا للاتحاد الأوروبي، والذي من شأنه أن يحمل شقًا من المنافسة، هو ما يبدو أن ترامب سعى لتجنبه. كما أن الشق الاقتصادي لا يزال قائمًا، وهو ما دفعه لتهديد أوروبا مرارًا وتكرارًا بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي “الناتو” بحجة أن توفير الدفاع العسكري لأوروبا الغربية مكلف للغاية، ولا تزال هذه الحجة عامل ضغط على أعضاء “الناتو”، والتي من خلالها لا تزال هناك شائعات حول نواياه في القيام بذلك إذا فاز في الانتخابات المقبلة، ما لم تلعب أوروبا “بشكل نزيه”، أي تساهم ماديًا مساهمة ترضي حسابات ترامب.

ومن المرجح أن تتوقع أوروبا ألا يظل هذا مجرد تهديد، خاصةً مع تجربتها السابقة معه والتي شهدت انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وعادت إليها في فترة رئاسة بايدن الذي كان يحاول من خلالها توطيد علاقاته وتعاونه مع القارة العجوز. فضلاً عن إعلان ترامب، في خضم جائحة كورونا، أن الولايات المتحدة ستنسحب من منظمة الصحة العالمية، التي اتهمها بإعفاء الصين من المسؤولية عن الوباء، والذي عالجه بايدن عندما أعاد انضمام الولايات المتحدة إليها في عام ٢٠٢١.

وغير أن مخاوف أوروبا من ترامب لا تستند فقط على تجربتهم السابقة معه، بل يرون أنه لا يزال يسير على النهج نفسه في توجهات حملته الانتخابية، فلا يزال ترامب يروج لأجندة “أميركا أولاً” التي تشكك في التجارة الحرة والتحالفات مع دول أخرى، مثل حلف شمال الأطلسي، وهو ما يزيد من قلق أوروبا، حيث أن فترته الرئاسية السابقة أتت في وضع دولي غير مشتعل مثلما هو عليه الآن، وهو ما جعل مخاوفهم بشأن انسحاب الولايات المتحدة من حلف “الناتو” ليست بالقدر المقلق الذي قد تكون عليه إن عاد ترامب هذه المرة، ويعود ذلك إلى اشتعال الأحداث على حدودهم بين روسيا وأوكرانيا.

كما يريد ترامب أيضًا التراجع عن التزامات الدفاع الأمريكية، مما يثير الشكوك حول المساعدات المقدمة لأوكرانيا في حربها مع روسيا. ومن المرجح أن يكون بوتين في حالة ترقب لعودة ترامب التي قد تسنح له بفرصة في الحصول على مكاسب أكبر في المفاوضات على حساب أوكرانيا. وتتزايد التوترات بشأن عودة ترامب لا سيما بعد اختياره لجيه دي فانس ليكون نائبه، مما يعطي رسائل غير مباشرة حول توجهات سياساته إن عاد إلى السلطة، لا سيما لكون جي دي فانس هو من أشد منتقدي إرسال الدعم إلى أوكرانيا وتحمل تصريحاته انتقادات شديدة لحلفائهم الأوروبيين، وعليه، لكونه على الأرجح غير مهتم بأن يكون حليفًا جيدًا لأوروبا، يضع ترشيحه حدًا لآمال بعض حلفاء أمريكا في أن ترامب قد يخفف من موقفه في السياسة الخارجية إذا أعيد انتخابه.

من زاوية أخرى، نجد أن ترامب كان يُعد الطرف الأكثر خطرًا عندما كان بايدن على الطرف الآخر من الحسبة. ولكن مع انسحاب بايدن وظهور نائبته هاريس في المعادلة، فإنها تأتي بمخاطر أخرى تترك أوروبا في موقف متأرجح في تفضيلاته، فمن جهة، يدركون الخطر الذي قد يأتي من عودة ترامب، وخصوصًا مع اختياره لجيه دي فانس ليكون نائبه، ومن جهة أخرى، لا تزال هاريس علامة استفهام كبيرة، لا سيما مع الموقع الذي يعزل الولايات المتحدة جغرافيًا عن الصراعات في شرق أوروبا والشرق الأوسط، وهي الصراعات التي لن يشعر بعواقب التصعيد فيها بشكل مباشر أكثر من أوروبا، أي أنها الطرف الذي سيكون أكثر تأثرًا بتداعياتها.

هذا ويُعد فرق السن بين هاريس، من ناحية، وبايدن وترامب من ناحية أخرى، عاملاً مؤثرًا في التعامل مع الصراعات التي من شأنها أن تؤثر على الأمن الأوروبي. فعلى سبيل المثال، نجد موقف ترامب من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني محسومًا، ومن جهة بايدن، نجد أنه، وعلى الرغم من تمرد اليساريين في حزبه على سياسته، استطاع أن يحافظ على إمداد حليفهم الأكثر أهمية في الشرق الأوسط بالأسلحة والدعم على المستوى الدولي.

ولكن على العكس من ذلك، من المرجح أن تتبنى هاريس موقفًا تستسلم فيه للجناح اليساري وتتخذ مسارًا متعاطفًا مع الفلسطينيين، لا سيما وأنها لا تأتي من الجيل الذي لا يزال يعاني من عقدة الذنب المزمنة منذ الهولوكوست، على العكس من بايدن وترامب، كما أنها في تصريحاتها العامة، ركزت بشكل أكبر على معاناة الفلسطينيين في غزة وأظهرت المزيد من التعاطف معها.

هذا وتظهر بعض التقارير الإعلامية التي نفتها إدارة بايدن أنها هي التي دفعت البيت الأبيض للتعبير عن المزيد من القلق بشأن الأزمة الإنسانية. وعليه، فإن هذا الموقف من شأنه أن يشكل خطرًا على أوروبا، ليس فقط فيما يتعلق بزيادة معدلات الهجرة واللاجئين من الشرق الأوسط، ولكن تتبع أوروبا بشكل كبير السياسة الخارجية الأمريكية كونها حليف لها. وبالتالي، فإن التوترات المتزايدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من شأنها أن تشجع إيران وأذرعها على زيادة عدوانها، والذي لن يكون أثره على الولايات المتحدة فحسب، بل على أوروبا أيضًا التابعة لها.

هذا وبينما تُعد هاريس جزءًا لا يتجزأ من سياسات بايدن بما فيها السياسة الخارجية، وبينما يُتوقع أن تستمر هاريس في السير على خطى هذه السياسة الخارجية، خاصةً مع دعمها العلني لأوكرانيا، يُجادل البعض بأن هاريس تتماشى مع بعض معتقدات ترامب فيما يخص العلاقات عبر الأطلسي، أي تُشكل المخاوف ذاتها على الأوروبيين. وعليه، على العكس من بايدن الذي يتمتع بخلفية عبر أطلسية، تفتقر هاريس إلى هذا الارتباط القوي، وفي هذا الصدد، تُعد هاريس خطرًا يُضاهي خطر ترامب.

يتشابه هاريس وترامب في الميل إلى النظر نحو المحيط الهادئ، ما يجعل من المعقول توقع احتمالية توجيه هاريس لسياستها الخارجية بشكل أكبر على المحيط الهادي مقارنة بالمحيط الأطلسي، ما يعود على أوروبا بتأثير يتشابه مع تأثير ترامب. ولكن، حتى وإن تبنت هاريس هذه السياسة، يمكننا أن نرى أن ترامب يتمتع بقنوات تواصل مع بوتين وإن أراد إنهاء الحرب، فمن المرجح أن يسعى للضغط على أوكرانيا بدلاً من الضغط على روسيا، وهو على الأغلب نقيض المسار الذي قد تتخذه هاريس. ولكن، مثل هذه الخطوة التي قد يتخذها ترامب تشير إلى كونه لم يدرك أن الاستسلام لبوتين بشأن أوكرانيا من شأنه أن يضعف الولايات المتحدة بشدة في مواجهة مع الصين.

يتضح أن ترشح هاريس للرئاسة لا يجب فعليًا أن يُعتبر بمثابة بطاقة للخروج من سجن ترامب المحتمل، وذلك لأنه لا يجب أن نغفل عن تحول أساسي في غياب بايدن وهو أنه أيًا كانت نتيجة الانتخابات الأمريكية، هذا الأخير يمكن اعتباره آخر أطلسي متعصب في البيت الأبيض، وقد تم تحديد بوصلته الشخصية منذ انتخابه لأول مرة لعضوية مجلس الشيوخ في عام ١٩٧٢، من خلال تحالف الحرب الباردة مع أوروبا، وكان الالتزام عاطفيًا واستراتيجيًاء وعليه، وإن كانت هاريس تتبع سياسة بايدن عينها، ليس من المتوقع أن تحمل قدر صرامته.

كما أنه وإن رغبت هاريس في مواصلة نهج ترامب للسياسة الخارجية، ستتعرض لحالة الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة بين تيارين متناقضين؛ الأول يميل نحو الانعزالية التقليدية التي تقول إن أمريكا يجب أن تتخلى عن أي شيء يشبه دور القيادة العالمية؛ والثاني يقول إن العدو هو الصين ويجب ترك الأوروبيين لرعاية أنفسهم. وما قد يجعل الأمر أكثر صعوبة هو أن هذه الآراء لا تقتصر فقط على اليمين الشعبوي، حيث يوجد الكثير من الديمقراطيين الذين يتساءلون عما إذا كانت الولايات المتحدة يجب أن تتجه إلى الانعزالية وتبني نهجًا أضيق للمصلحة الوطنية.

صعود اليمين المتطرف في أوروبا.. هل يتيح قنوات جديدة للتواصل؟

رغم مخاوف الأوروبيين بشأن عودة ترامب أو بشأن تعديل هاريس لبعض سياسات بايدن التي كانت مرضية ومعقولة للأوروبيين، إلا أن الجو الأوروبي الحالي يشهد بعض التغيرات الهيكلية التي شهدتها القارة العجوز مع صعود اليمين “المتطرف” على المستوى فوق الوطني خلال الانتخابات الأوروبية التي انعقدت هذا العام، بل وأيضًا على المستويات الوطنية في عدد من الدول. ومع كون ترامب يمينيًا يميل إلى الشق المتشدد من اليمينيين، يبدو أنه قد يجد مسارًا خاصًا للتواصل مع أوروبا إثر هذا التغير. وقد يأتي هذا المسار من فتح قنوات تواصل جديدة يكون منبعها بعض النقاط المشتركة بين اليمينيين في أوروبا والجمهوريين في الولايات المتحدة، والتي طرحت مؤخرًا على طاولة النقاش الأوروبي إثر نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة.

في هذا الصدد، نجد أن اليمينيين في أوروبا يتفقون مع الجمهوريين في العديد من النقاط، والتي تشمل الصرامة التي يجب أن تكون عليها سياسات الهجرة وإجهاض حق اللجوء، والحرب في أوكرانيا وقضايا التوسع، سواء كنا نتحدث عن حلف شمال الأطلسي “الناتو” أو الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى الحرب في غزة، وغيرها من النقاط. وعليه، ومع صعود اليمين المتطرف في أوروبا، يمكننا أن نتوقع سياسات هجرة أكثر صرامة فضلاً عن إضعاف الصفقة الخضراء الأوروبية بشكل أكبر، كما يمكننا أن نتوقع حماسًا أقل لحماية حقوق الأقليات ولمعاقبة الحكومات غير الليبرالية داخل الاتحاد الأوروبي.

هذا إلى جانب “الإرهاق المتزايد” من أوكرانيا، فمن المرجح أن يصبح دعم الاتحاد الأوروبي في ظل صعود اليمين المتطرف في أوروبا أكثر إثارة للجدل، كما سيشهد تمسكًا بدعم إسرائيل غافلاً عن الأزمة الإنسانية التي أشارت إليها هاريس في الولايات المتحدة والتي يبدو أن ترامب يغفل عنها أيضًا عندما تكون إسرائيل داخل المعادلة.

وعليه، وإن كانت أوروبا تخشى عودة ترامب، يظل صعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية عاملاً قد يلين من حدة التواصل مع إدارته إن فاز، وهو، مع احتفاظ أوروبا والولايات المتحدة بالنهج المعتاد الذي يسير عليه كلاهما على حدة، قد يفتح مجالاً أوسع نسبيًا للتفاهم بينهما. وعلى الرغم من كون السياسات التي يتفقون عليها لا تعد سياسات ذات أهمية مشتركة، أي أنها تخص كل منهما بشكل منفرد وخطرها على طرف منهما يكون محدودًا للغاية على الطرف الآخر، إلا أن تقارب الأيديولوجية بين الأغلبية الأوروبية والجمهوريين قد يعطي مجالاً أوسع للوصول إلى أرضية مشتركة. أما في حالة فوز هاريس، فلا يُتوقع أن تقوم بتغييرات جذرية في سياسات بايدن، وهو ما يجعلها تسير على السياسات القديمة التي لم يكن الأوروبيون يخشونها بل كانوا يفضلونها على سياسات ترامب، وهو ما يقنن من حدة التوترات التي كانت من الممكن أن تثار في حالة عودة ترامب.

ختامًا، تأتي الانتخابات الأمريكية في خضم قلق وترقب من القارة الأوروبية ومخاوف متزايدة بشأن أمنها الذي قد يبقى على المحك في حالة عودة ترامب للرئاسة الأمريكية. وتأتي احتمالية فوز هاريس، بحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، بحلول لهذه المخاوف لكون هاريس جزءًا من سياسات بايدن التي كانت تُعد “معقولة” للأوروبيين ولَقِيَت تقاربًا فكريًا كبيرًا بينهما، وهذا على الرغم من أنه لا يُعرف الكثير عن نظرة هاريس للعالم، لكن تصريحاتها العامة تبدو مطمئنة. ولكن، يمكننا القول إن عودة ترامب، في ظل الجو العام الأوروبي الحالي والذي شهد صعودًا غير مسبوق لليمين المتطرف، لا تشكل إشكالية كبيرة لكون الجمهوريين قد يجدون قنوات تواصل جديدة تنفتح مع الأوروبيين للوصول إلى أرضية مشتركة ترضي كلا الطرفين، عدا أنه ومع عدم إمكانية توقع خطوات ترامب، يصعب توقع مثل هذه الاحتمالية، بل يمكننا القول إن الوضع لا يبدو كارثيًا كما يتوقعه الأوروبيون.

 

المصدر : https://marsad.ecss.com.eg/82409/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M