مثلث التَّوتُّر الجديد في القرن الأفريقي: ديناميات الصراع وآفاقه

  • زاد التراشُق الدبلوماسي والإعلامي بين مصر وإثيوبيا، إثر إعلان حكومة أديس أبابا الانتهاء من أعمال سد النهضة، وشروع مصر في تنفيذ بنود اتفاقيتها للدفاع المشترك مع الصومال.
  • للصراع الجديد بين مصر والصومال من جهة، وإثيوبيا في الجهة المقابلة، أبعاد استراتيجية عميقة ومتجذرة تدور حول منزلة الصومال في الإطار الإقليمي وتطلعات إثيوبيا لتأمين مصالحها الحيوية في المنطقة، وسعيها إلى التحول إلى قوة بحرية، تجارية وعسكرية.
  • مع استبعاد خيارَي المصالحة الشاملة والمواجهة المسلحة، يبدو أن سيناريو الاحتقان والتأزم هو السيناريو الأرجح للأزمة بين إثيوبيا من جهة، وبين الصومال ومصر من جهة ثانية، والذي قد يشمل حالات محدودة من الصدام المسلح والتصعيد الدبلوماسي والإعلامي. 

 

تسارعت التطورات في منطقة القرن الأفريقي إثر إعلان حكومة إثيوبيا الانتهاء من أعمال بناء سد النهضة، في الوقت الذي أرسلت مصر معدات ووفود عسكرية إلى الصومال تطبيقاً لاتفاقية الدفاع المشتركة بين البلدين. وفي الأيام الأخيرة تفاقمت الحرب الإعلامية بين البلدان الثلاثة، بما يُنذر بتطورات خطرة في المنطقة قد تصل -بحسب بعض التحليلات- إلى حد الحرب المباشرة.

 

مستجدات الوضع الإقليمي 

أعلنت إثيوبيا في 27 أغسطس 2024 انتهاء الأعمال الخرسانية في سد النهضة، والانتقال إلى مرحلة التشغيل مع الانتهاء من ملء بحيرة السد بالكامل في شهر سبتمبر الجاري. وقد بدأت إثيوبيا في هذا المشروع العملاق عام 2011، بتكلفة قدرها 4 مليارات دولار، على أن تصل الطاقة التخزينية الإجمالية للسد 74 مليار متر مكعب. وقد عارضت مصر هذا المشروع منذ البداية، مُعتبرةً أنَّه يؤثر في أمنها المائي الذي يعتمد على النيل بنسبة 97%، وطالبت سلطات أديس أبابا بتعليق أعمال السد إلى حد الاتفاق بين إثيوبيا وكلٍّ من مصر والسودان بخصوص مقتضيات تقاسم مياه النيل.

 

تزامن الإعلان الأثيوبي مع وصول معدات ووفود عسكرية مصرية إلى مقديشو تنفيذاً لاتفاقية التعاون العسكري الموقعة بين الصومال ومصر في 14 أغسطس 2024، ومن أهم بنود الاتفاقية تعزيز القدرات العسكرية والتدريبية للجيش الصومالي، ودعم الصومال في مواجهة الإرهاب والحركات الانفصالية، والحضور الميداني العسكري المصري في إطار قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم)، التي من المقرر أن تحل محل بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية الحالية (أتميس) بحلول يناير 2025.

 

وفي الوقت الذي خاطب وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، رئيس مجلس الأمن الدولي بخصوص شكوى بلاده من إثيوبيا إثر إعلانها الانتهاء من المرحلة الخامسة من ملء سد النهضة، بما عدّه انتهاكاً لإعلان المبادئ الموقع بين البلدين بالإضافة إلى السودان عام 2015، أصدرت وزارة الخارجية الإثيوبية في 28 أغسطس بياناً احتجاجياً على المساعدة العسكرية المصرية للصومال، التي اعتبرتها تدخلاً خطراً في أوضاع المنطقة وتهديداً مباشراً لمصالح إثيوبيا الاستراتيجية.

 

وفي 30 أغسطس أرسلت إثيوبيا مندوباً بدرجة سفير إلى دولة أرض الصومال (غير المعترف بها دولياً)، بما يشكل اعترافاً صريحاً باستقلالها، يُتوج مساراً طويلاً من العلاقات بين الطرفين، من أهم محطاته الاتفاق الموقع بين الطرفين في 1 يناير 2024 من أجل تمكين إثيوبيا من منفذ بحري بطول 20 كيلومتراً على شواطئ أرض الصومال. وكانت مقديشو قد احتجت بقوة على هذا الاتفاق الذي اعتبرته غير شرعي وطردت السفير الأثيوبي في الصومال، وكادت تندلع الحرب بين البلدين لهذا السبب.

 

زاد التوتر بين إثيوبيا والصومال عقب توقيع أديس أبابا اتفاقية بحرية مع صوماليلاند مطلع العام الجاري (AFP) 

 

الأبعاد الاستراتيجية للأزمة الجديدة في القرن الأفريقي

يتعين هنا التمييز بين استراتيجيات الدول الثلاث المعنية بالأزمة الراهنة، وهي إثيوبيا والصومال ومصر.

 

بخصوص إثيوبيا، تجدر الإشارة إلى أن هذا البلد المركزي في القرن الأفريقي يعتقد أن مصالحه الحيوية مرتبطة بحصوله على منفذ بحري دائم في البحر الأحمر، بعد أن فَقَد بانفصال إريتريا عام 1993 ميناءه الوحيد في الإقليم (ميناء أسمرة). وعلى الرغم من استخدام إثيوبيا ميناء جيبوتي، إلا أن حاجياتها الواسعة لا يمكن تأمينها من طريق هذا المسلك وحده، ولذا دعمت انفصال جمهورية أرض الصومال (التي أعلنت من جانب واحد استقلالها عام 1991)، مُعوّلةً على أن تكون قاعدتها الخلفية في منطقة البحر الأحمر ومنفذها الحيوي في الإقليم. لذا ترى إثيوبيا في أي تقارب مصري-صومالي خطراً على استراتيجيتها للنفوذ في القرن الأفريقي، خصوصاً مع انفجار الصراعات الداخلية في هذه الدولة الفيدرالية الكبرى، التي ترى في الحدود مع الصومال مصدر الخطر الأساسي على أمنها واستقرارها. وبحسب الدوائر الاستراتيجية الأثيوبية، ترى أديس أبابا أن الاتفاقية الدفاعية المصرية-الصومالية تهدد المصالح الاستراتيجية الأثيوبية في الصومال، وتعرّض سيادتها المائية لمخاطر جسيمة، فضلاً عن كونها تؤجج الاحتقان والاضطراب في الإقليم كله.

 

بالنسبة للصومال، الذي لم يتخلص بعدُ من الحرب الأهلية الطويلة والصراع مع المجموعات الإرهابية، فإن هدفه الاستراتيجي يتمثل في استعادة موقعه المحوري في منطقة البحر الأحمر، بما يفرض عليه استرجاع إقليم أرض الصومال وتسوية النزاع البحري مع كينيا. وفي هذا السياق، يرى الصومال أن الخطر الأكبر الذي يهدد وحدته ومصالحه الجيوسياسية هي إثيوبيا، ومن ثمَّ سعى إلى بناء تحالفات إقليمية ودولية لفك الحصار الاستراتيجي المضروب عليه. وفي هذا الباب تندرج اتفاقياته الدفاعية مع تركيا منذ عام 2012 (اتفاقية التدريب والتعاون العسكري) التي طُوِّرَت في 2 أغسطس 2024 إلى اتفاقية تعاون دفاعي واقتصادي، تتضمن على وجه الخصوص السماح لتركيا بإنشاء أكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج، أي في مقديشو، من أجل حماية المياه الإقليمية الصومالية لمدة عشرة أعوام، كما أن تركيا بدأت عمليات التنقيب عن النفط والغاز في ثلاثة مواقع بحرية في الصومال. بيد أن اتفاقية الدفاع مع مصر، ستسمح للصومال -بحسب الدوائر الاستراتيجية المحلية- بتحسين مكانتها في المنطقة، وذلك بالانتقال من بلد هامشي إلى محور إقليمي فاعل، بما يهدد سياسة الهيمنة الأحادية الأثيوبية.

 

أما مصر التي دخلت في صراع حاد مباشر مع إثيوبيا، فترغب في إدارة هذا الصراع بفاعلية من طريق الورقة الصومالية، ساعيةً إلى انتزاع تنازلات نوعية من حكومة أديس أبابا في ملف سد النهضة، ومُعربة عن حرصها على تعزيز موقعها في منطقة البحر الأحمر التي هي منطقة أمن حيوي بالنسبة لها. وفضلاً عن الصومال، سعت مصر في الشهور الأخيرة إلى تعزيز علاقاتها بعدد من بلدان القرن الأفريقي، مثل إريتريا وجيبوتي، في طموح واضح إلى زعامة الإقليم ومواجهة استراتيجية النفوذ الأثيوبي فيه، مستغلةً تركة الخلاف والصراع بين إثيوبيا والدول المجاورة لها.

 

ترغب مصر في إدارة صراعها مع إثيوبيا بفاعلية أكبر من طريق الورقة الصومالية، وتعزيز حضورها هناك (وكالة الأنباء الصومالية)

 

آفاق الصراع الإقليمي في القرن الأفريقي

في ضوء المعطيات السابقة، يمكن استجلاء ثلاثة سيناريوهات محتملة للصراع الإقليمي الجديد في منطقة القرن الأفريقي:

 

1. سيناريو المواجهة المسلحة الذي قد تنجر له المنطقة باندلاع حرب مباشرة بين إثيوبيا ومصر، على خلفية ملف سد النهضة. كما قد تندلع مواجهة عسكرية بين إثيوبيا والصومال بعد قرار حكومة أديس أبابا الأخير الاعتراف شبه الرسمي باستقلال جمهورية أرض الصومال. ليس هذا السيناريو هو الأقوى في الوقت الراهن، لكن لا يمكن استبعاده كلياً بالنظر إلى حجم التوتر المتزايد في الإقليم.

 

2. سيناريو التهدئة والمصالحة الذي تسعى له عدد من الدول، من بينها تركيا التي استضافت في أنقرة مباحثات مباشرة بين إثيوبيا والصومال في 13 أغسطس، على أن تُستأنف في 13 سبتمبر الحالي، كما أن جيبوتي تدخلت في جهد المصالحة وعرضت على إثيوبيا إدارة وتسيير مينائها في تاجورة الذي لا يبعد عن الحدود الأثيوبية أكثر من 100 كيلومتر، ويُعتقد أيضاً أن الصين قد دخلت على خط التهدئة والوساطة بين البلدين. ولا يبدو أن هذا السيناريو يحظى بفرص نجاح حقيقية في المدى المنظور بسبب الفجوة في المصالح والشواغل الاستراتيجية لأطراف الصراع.

 

3. سيناريو الاحتقان والتأزم المتصاعد الذي يبدو الأقوى في الوقت الراهن، وإن كان من غير الراجح أن يتحول الى مواجهة عسكرية مباشرة، بما لا يمنع حدوث حالات محدودة من الصدام المسلح والتصعيد الدبلوماسي والإعلامي.

 

المصدر : https://epc.ae/ar/details/brief/muthalath-attawttur-aljadid-fi-alqarn-alafriqi

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M