الصناعيون السوريون في مصر… لا عودة في الأفق

منذ اندلاع الحرب السورية في عام 2011، أصبحت مصر وجهة لعدد كبير من السوريين، ولا سيما رجال الأعمال. كانت الموجة الأولى من المهاجرين السوريين إلى مصر عام 2012، مؤلفة بشكل رئيس من أفراد لهم روابط عائلية أو اتصالات تجارية أو شبكات شخصية في مصر. وبينما تبنت مصر في البداية سياسة الباب المفتوح مع السوريين، فإن الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس محمد مرسي في يوليو/تموز 2013، غير الدفة، ففرضت الحكومة المصرية على السوريين أن يتقدموا بطلب للحصول على التأشيرة وعلى تصريح أمني قبل السفر إلى مصر.

يقدر عدد السوريين اليوم في مصر بمليون و500 ألف شخص تقريبا، منهم 156 ألف شخص تقريبا مسجل كلاجئ، واستقرت الغالبية العظمى منهم في المناطق الحضرية، خصوصا في منطقة القاهرة الكبرى والإسكندرية. ويوجد في مصر نحو 30 ألف مستثمر سوري، أكثر من نصفهم من الصناعيين، يوظفون عشرات الآلاف من الأشخاص.

وفي حين رحبت السلطات المصرية عمومًا برجال الأعمال السوريين البارزين، واجه عدد كبير من أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم السوريين – الذين يشكلون غالبية المستثمرين السوريين في مصر – تحديات قانونية في تسجيل شركاتهم. وقد أجبر هذا العديد منهم على العمل بشكل غير رسمي. وعلى نحو مماثل، كافح جزء كبير من العمال السوريين في مصر لتلبية المتطلبات القانونية المتزايدة التعقيد والتطلب، بما في ذلك التفويض الأخير بدفع الرسوم الإدارية بالعملة الأجنبية.

 سوق المئة مليون نسمة

ونتيجة لذلك، ظل العديد منهم عاطلين عن العمل أو اضطروا للعمل في القطاع غير الرسمي، حيث يواجهون غالبا ظروف عمل صعبة واستغلالية. وتتفاقم هذه التحديات بسبب الافتقار إلى تصاريح الإقامة، والتي عادة ما تكون ضرورية للحصول على تصاريح العمل.

 

رويترز رويترز

حياكة الملابس والنسيج بأنامل سورية في أحد المصانع في مصر. 

أما السوريون من أصحاب الشركات الكبيرة فلا يواجهون تحديات كهذه، لكنهم يواجهون غالبا إجراءات بيروقراطية معقدة عند تأسيس أعمالهم وتوسيعها. وعلى الرغم من هذه العقبات القانونية، تظل مصر واحدة من أكثر الوجهات جاذبية لرجال الأعمال السوريين، وخصوصا عند مقارنتها بالدول المجاورة مثل الأردن ولبنان وتركيا والإمارات العربية المتحدة، ولا سيما بالنسبة الى أصحاب الأعمال الكبيرة.

 

ينظر كثير من المصريين إلى وجود السوريين في مصر نظرة إيجابية عموما. ويتناقض هذا الحال على نحو صارخ مع دول أخرى مثل لبنان وتركيا

 

 

تتمتع مصر بالعديد من الخصائص التي تجذب رجال الأعمال السوريين الكبار، فهي أولا، توفر سوقا محلية واسعة، بعدد سكانها الذي يربو على 100 مليون نسمة، كما تسهّل الوصول إلى الأسواق الأفريقية والخليجية والأوروبية. في المقابل فإن الأسواق الأردنية واللبنانية صغيرة نسبيا، أما سوق الإمارات العربية المتحدة فهو شديد التنافسية بحيث لا يستطيع المستثمرون السوريون الوافدون حديثا المنافسة. وشمالا، تمكنت تركيا من جذب أعداد كبيرة من أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة بعد عام 2011، وخصوصا من شمال سوريا، فهي توفر بعدد سكانها الذي بلغ أكثر من 80 مليون نسمة سوقا محلية كبيرة.

ثانيا، تعد تكلفة العمالة وتكلفة المعيشة منخفضة نسبيا في مصر، التي تتوفر أيضا على ببنية تحتية مناسبة. وبالمقارنة مع غيرها من الدول، فإن تكلفة المعيشة في كل من الأردن والإمارات مرتفعة عموما، ولا تزال في ارتفاع مستمر.

أما في لبنان وتركيا فقد ارتفعت فيهما تكلفة المعيشة إلى حد كبير في السنوات القليلة المنصرمة مع تضخم كبير في كلا البلدين، ناهيك عن مشاكلهما الاقتصادية الأخرى.

بيئة سياسية مرحبة

وأخيرا، تظل البيئة السياسية العامة في مصر مرحبة بالسوريين إلى حد كبير، بدءا من السلطات السياسية إلى وسائل الإعلام الرئيسة، على الرغم من الحملات على وسائل التواصل الاجتماعي بين فينة وأخرى، التي تحمل السوريين والجنسيات الأجنبية الأخرى مسؤولية المشكلات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. بيد أن هذه الحملات لم تنجح عموما في الانتشار وكسب الجمهور في قطاعات أوسع من المجتمع المصري. علاوة على ذلك، ينظر كثير من المصريين ووسائل الإعلام المحلية إلى وجود السوريين في مصر نظرة إيجابية على العموم. ويتناقض هذا الحال على نحو صارخ مع دول إقليمية أخرى مثل لبنان وتركيا، حيث تتزايد المشاعر المعادية للسوريين باستمرار مع اتخاذ اجراءات تعسفية وعدوانية لإجبارهم على العودة إلى سوريا.

 

تجاوز حجم الاستثمارات السورية في مصر عام 2022، المليار دولار أميركي بكثير، وعدد الورش والمصانع التي يملكها السوريون يبلغ نحو 5000

 

خلدون الموقع، رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر

وقد تجلى أثر الأجواء الطيبة والمرحبة بالسوريين في مصر، في استمرار وصول السوريين إلى مصر، بمن فيهم رجال الأعمال. فقد وفدت إلى مصر بين عامي 2020 و2022، موجات جديدة من العمال السوريين وأصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة، واستقروا في مصر مع استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية في سوريا.

الصناعات التحويلية والمنسوجات والمطاعم

قدرت الاستثمارات السورية في مصر بين عامي 2011 ـ 2018 بنحو 800 مليون دولار، على الرغم من أن الإجمالي أعلى من ذلك على الأرجح، لأن عددا كبيرا من رجال الأعمال السوريين يعملون بشكل غير رسمي، أو يسجلون شركاتهم بأسماء مواطنين مصريين. ويقدر المهندس خلدون الموقع، رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر، أن الاستثمارات السورية في مصر عام 2022، تجاوزت على الأرجح المليار دولار أميركي بكثير، وأن عدد الورش والمصانع التي يملكها السوريون يبلغ نحو 5000 (الرسمية منها أو غير الرسمية) ويبلغ إجمالي إنتاجها الشهري ما بين 100ـ 120 مليون وحدة.

Shutterstock Shutterstock

ينشط عدد كبير من رجال الأعمال والمستثمرين السوريين في مصر في الصناعات التحويلية، ولا سيما في إنتاج المنسوجات، والملابس والأغذية والأثاث.

محاولات فاشلة لدمشق لعودتهم

كما أن بعض رجال الأعمال السوريين الكبار استثمروا في الأنشطة الاقتصادية القائمة سابقا في مصر وطوروها، ولا سيما في صناعة النسيج، كرجل الأعمال محمد كامل صباغ شرباتي، أحد أبرز الصناعيين السوريين في مصر، الذي وسع استثماراته فيها عام 2018 بإنشاء “مجمع فورتكس” في مدينة السادات بقيمة تقدر بـ 200 مليون دولار، وعمار صباغ صاحب شركة “مجموعة صباغ للصناعة والتجارة” في سوريا وشركة “قطن وأكثر” في مصر. كما أن هناك استثمارات كبيرة أخرى في قطاع الخدمات، وخاصة المطاعم والمتاجر وصالونات التجميل. ويحظى المطبخ والمأكولات السورية بشعبية كبيرة بين المصريين، حيث تمتلك العديد من المطاعم السورية فروعا متعددة لها في البلاد.

 

ليست الأوضاع الاقتصادية والسياسية في سوريا مناسبة لعودة رجال الأعمال والصناعيين السوريين، وتكمن المشكلة الرئيسة في الطبيعة المفترسة لبيئة الأعمال في سوريا

 

 

عرضت السلطات السورية منذ عام 2017، العديد من الحوافز على الصناعيين السوريين في المنفى، خصوصا المقيمين منهم في مصر كي يعودوا إلى سوريا والاستثمار في البلاد و/أو استئناف الإنتاج في منشآتهم. إلا أن هذه القرارات والأنشطة لم تؤدِ إلى عودة الغالبية العظمى من رجال الأعمال السوريين في مصر، باستثناء قلة منهم.

بيئة مفترسة للأعمال في سوريا  

وباتت علاقة العديد من رجال الأعمال السوريين في مصر مع سوريا، وخصوصا أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة، علاقة غير وثيقة ومتباعدة على نحو متزايد وتقتصر على الزيارات العائلية عندما يكون ذلك ممكنا، ومساعدة الشبكات العائلية والمجتمعات المحلية ماليا.

واحتمال العودة إلى سوريا ليس واردا عند الغالبية العظمى من رجال الأعمال والصناعيين السوريين المقيمين الآن في مصر، بينما تطورت أنشطتهم في البلد المضيف بشكل عام في العقد الماضي.

 

رويترز رويترز

ماكينات صناعية مدمرة داخل مصنع كاوي في مدينة حلب، سوريا 12 يوليو 2017. 

فوق ذلك، ليست الأوضاع الاقتصادية والسياسية في سوريا مناسبة لعودة رجال الأعمال والصناعيين في مصر وغيرها من الدول. فبالإضافة إلى أوجه القصور في البنية التحتية والعقوبات والزيادة المستمرة في تكلفة الإنتاج ونقص موارد الطاقة والكهرباء، تكمن المشكلة الرئيسة في الطبيعة المفترسة لبيئة الأعمال في سوريا، بوجود جهات تجارية فاعلة جديدة تابعة لمراكز السلطة تسعى للهيمنة على جميع قطاعات الاقتصاد، وعدم رغبتهم في رؤية جهات فاعلة أخرى تدخل السوق السورية، بما في ذلك رجال الأعمال الذين يحافظون على علاقات ودية مع الحكومة السورية.

 

سيكون خروج مجتمع الأعمال السوري من مصر مرتبطا على الأرجح بسير التطورات الاقتصادية والسياسية في وطنهم الجديد مصر، وليس مرتبطا بسوريا

 

 

من جهة أخرى، فإن تفاقم حجم الأزمة الاقتصادية في مصر في السنوات القليلة الماضية، التي ازدادت حدة بسبب صدمات خارجية مثل وباء “كوفيد-19” والحروب في كل من أوكرانيا وقطاع غزة، وتصاعد التوترات في البحر الأحمر التي تؤثر على إيرادات قناة السويس، يمكن لهذه العوامل جميعا أن تشكل عائقا أمام زخم الهجرة من سوريا إلى مصر، وأمام مزيد من استثمارات رجال الأعمال السوريين في مصر.

الصعوبات الاقتصادية في مصر

ويعاني الاقتصاد المصري من انخفاض قيمة الجنيه المصري (من 6 جنيهات مصرية في عام 2012 إلى 48 جنيها مصريا للدولار الأميركي في منتصف أغسطس/ آب 2024)، ومن النقص في الدولار الأميركي وارتفاع التضخم. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع كبير في تكلفة المعيشة مع وصول معدل التضخم إلى ما يقارب 40 في المئة بين سبتمبر/ أيلول 2022 وسبتمبر 2023، وعلى رأسها قفزة أسعار المواد الغذائية بنسبة 154 في المئة.

وفي تحليل أجرته وكالة “بلومبرغ” في سبتمبر/أيلول 2023، أخذ في الحسبان الدين العام وتكاليف الفائدة والعائد على سندات الدولار، صنفت مصر على أنها “ثاني أكثر الدول عرضة لخطر أزمة الديون” بعد أوكرانيا والأولى في الشرق الأوسط.

وفي هذا السياق، سيكون خروج مجتمع الأعمال السوري من مصر مرتبطا على الأرجح بسير التطورات الاقتصادية والسياسية في وطنهم الجديد مصر، وليس مرتبطا بسوريا، حيث لا يزال المستقبل فيها قاتما وتستمر العوائق فيها بالنمو مما يحول دون أي عودة واسعة النطاق.

 

المصدر : https://www.majalla.com/node/322178/%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%84%D8%A7-%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D9%82

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M