مناظرة “هاريس” و”ترامب”: مبارزة كلامية تعكس تناقضات صارخة

في ضوء التأثير الكبير للمناظرة الرئاسية بالسباق الرئاسي الأمريكي لعام 2024 التي جمعت الرئيس الديمقراطي الحالي “جو بايدن” ومنافسه الجمهوري “دونالد ترامب”، في 27 يونيو الماضي، كونها ساهمت في دفع “بايدن” صوب الانسحاب لصالح نائبته “كمالا هاريس”، تتضح أهمية المناظرة الرئاسية التي تجمع لأول مرة “ترامب” و”هاريس”، في 10 سبتمبر الجاري، داخل المركز الدستوري الوطني في فيلادلفيا، وعلى شبكة “إيه بي سي” التليفزيونية لمدة 90 دقيقة. وتستند هذه الأهمية إلى دورها – أي المناظرة – المتوقع في التأثير على مسار الانتخابات الرئاسية نظرًا لقدرتها على تعزيز فرص أحد المرشحين مقابل النيل من فرص المرشح الآخر. وفيما تحولت المناظرة لحرب كلامية تقوم على تبادل الاتهامات بين المرشحين، إلا أنها عكست مؤشرات معقدة عن وجود مجال واسع من التناقضات التي لا تقف عند حدود المشهد الانتخابي بل تغلف الساحة السياسية الأمريكية.

على الرغم من اتجاه بعض التحليلات إلى التقليل من أهمية التأثير الذي يمكن أن تلعبه المناظرات في مسار السباق الرئاسي، فإن تحليلات أخرى تشدد على أهميتها بوصفها أحد الأدوات التي يمكن أن تحدد السلوك الانتخابي لدى بعض الناخبين، ولا سيما المتأرجحين، فضلًا عن قدرتها على تجميل أو تشويه صورة أحد المرشحين بما يؤثر على فرص فوزه. فوفقًا لاستطلاع رأي تم إجرائه بشكل مشترك بين معهد “ماريست” للرأي العام، وشبكة “NPR”، وشبكة “PBS”، يقول 30 بالمئة من الناخبين المسجلين إن المناظرة ستساعدهم كثيرًا أو بقدر جيد في اختيارهم المرشح الذي سيصوتون له. وعلى هذا النحو، تتزايد أهمية المناظرة التي تجمع “ترامب” و”هاريس” في خضم سباق رئاسي محتدم وساحة أمريكية تشهد العديد من المشكلات المركبة والمتداخلة. وهو الأمر الذي دفع صحيفة “واشنطن إكزامينر” لأن تصف المناظرة بأنها واحدة “من أهم أحداث الحملات الانتخابية منذ عقود”. وهو ما يمكن بلورته على النحو التالي:

دور المناظرة الأولى في الإطاحة بــ “بايدن”: ساهمت المناظرة الأولى التي جمعت “بايدن” و”ترامب” في اهتزاز صورة الأول، وإعادة النظر في دعم المعسكر الديمقراطي له. وهو ما علقت عليه صحيفة “وول ستريت جورنال” بالقول إن “بايدن” اهتز في أول مواجهة مباشرة مع “ترامب”، بطريقة جعلت أدائه “غير مستقر”. هو تعليق مشابه لما قدمته صحيفة “نيويورك تايمز“، التي اعتبرت أن “تعثر بايدن في المناظرة جعل ترامب في المقدمة”. فيما اعتبرت مجلة “بوليتيكو” أن خيبة آمال الديمقراطيين الناتجة عن الأداء المتواضع لـ “بايدن” خلال المناظرة قد دفعتهم إلى اعتبار أنه “حان وقت رحيله”. وهو الأمر الذي يعني أن المناظرة التي شارك فيها “بايدن” قد ساهمت في الإطاحة به، بما يعني أن قوة تأثير المناظرة وصلت إلى قدرتها على إنهاء حملة أحد المرشحين.

فرصة أمام “هاريس” لتعريف نفسها: لم تكن “”هاريس” المرشحة الديمقراطية منذ بداية السباق الرئاسي، وإنما جاء اختيارها كنتيجة للأداء المتواضع للرئيس “بايدن”، ومن ثم، فهي في حاجة لتعريف نفسها أمام الشارع الأمريكي. إذ تعد المناظرة فرصة أمامها لكسب تأييد الناخبين الذين ما زالوا لا يعرفون الكثير عن سياساتها، وبالأخص في ضوء حالة الارتباك التي غلبت على أداء الحزب الديمقراطي والتي انعكست في التمسك بالدفع بـ “بايدن” كمرشح رئاسي ثم الضغط عليه من أجل الانسحاب لصالح نائبته “هاريس”. ومن ثم، فقد اعتبرت صحفية “واشنطن بوست” أن “هاريس” بحاجة إلى تعريف نفسها أمام الشارع الأمريكي، والتأكيد على أنها تمثل التغيير.

تقارب نسب تأييد كلا المرشحين في استطلاعات الرأي: بعدما مالت كفة استطلاعات الرأي لصالح “ترامب” أثناء منافسته لـ “بايدن”، يتضح أن دخول “هاريس” حلبة المنافسة قد أعاد التوازن للسباق الرئاسي، بل وزاد من حدة احتدامه بالاستناد إلى تقارب نسب التأييد التي تعكسها استطلاعات الرأي لكلا المرشحين. بعبارة أوضح، فقد استطاعت “هاريس” في غضون أسابيع قليلة من دخولها حلبة التنافس أن تكتسب زخمًا كبيرًا انعكس بشكل واضح في استطلاعات الرأي بطريقة ساهمت في تضييق الفجوة بين المرشحين الجمهوري والديمقراطي. وتعليقًا على ذلك، أفادت صحيفة “نيويورك تايمز” بأن تحليل نتائج استطلاعات الرأي مجتمعة يظهر “سباقًا متقاربًا يظل فيه الفوز أو الخسارة من نصيب المرشحين”. الأمر الذي يعني أن كلا المرشحين يتعاملان مع المناظرة بوصفها أداة تساهم في استمالة الناخبين المتأرجحين بما ينعكس على ترجيح كفته في السباق الرئاسي.

على الرغم من أهمية المناظرة في بلورة البرامج المختلفة لكلا المرشحين وتعريف الشارع الأمريكي بالسياسات التي سيجري تبنيها حال فوز أي من المرشحين، فإن مناظرة “هاريس” و”ترامب” قد تحولت إلى مبارزة كلامية وسجال طويل من تبادل الاتهامات. فقبل المناظرة قال حساب المقر الرئيسي لـ “هاريس” في منشور على منصة “أكس” إن “ترامب سيكذب الليلة كثيرًا، لذا سنتحقق من صحة كلامه في الوقت الفعلي”. وفي مستهل المناظرة، بدأ “ترامب” بتوجيه اتهام للمرشحة الديمقراطية بإنها “ماركسية”، بينما قالت “هاريس” خلال حديثها “كان علينا تنظيف الفوضى التي خلفها ترامب”. هذا، وقد غطت المبارزة الكلامية بين المرشحين تبادل الاتهامات في عدد واسع من الملفات؛ أبرزها:

ملف الاقتصاد: جادل “ترامب” بأنه “خلق واحدًا من أعظم اقتصادات بلادنا”، مؤكدًا على أنه “سأفعل ذلك مرة أخرى”. فيما قالت “هاريس” إن “خطة ترامب ستزيد التضخم وستؤدي إلى كساد”، مشيرة إلى أن لديها خطة لـ “اقتصاد الفرص تشمل تخفيضات ضريبية للطبقة المتوسطة”، وتعهدت بمعالجة تكاليف الإسكان ومساعدة الأسر والأعمال التجارية الصغيرة. وهو ما علق عليه “ترامب” قائلًا إنه نسخة من برنامج “بايدن” الاقتصادي. كما استشهدت “هاريس” بمشروع 2025 الذي تصفه بـ “خطة مفصلة وخطيرة” تقول إن “ترامب” سينفذها حال فوزه.

قضية الإجهاض: اعتبر المرشح الجمهوري أن الديمقراطيين “متطرفون” في هذه القضية، وإن “تيم والز”، الذي اختارته هاريس لمنصب نائب الرئيس، دعا إلى الإجهاض في الشهر التاسع. ومن جهتها، شنت المرشحة الديمقراطية هجومًا على “ترامب” بشأن إنهاء الحق الفيدرالي في الإجهاض، بالاستناد إلى تعيينه ثلاثة قضاة صوتوا لإلغاء قضية “رو ضد وايد”. وأكدت “هاريس” أن “سياسة ترامب بشأن الإجهاض مهينة لنساء أمريكا”، متهمة “ترامب” بأنه “يسرد مجموعة أكاذيب” بشأن الإجهاض.

الهجرة وأمن الحدود: ألقت “هاريس” اللوم على “ترامب” في قضايا الحدود بسبب جهوده لإفشال مشروع قانون أمن الحدود الذي تم تبنيه من قبل الحزبين. بينما ادعى “ترامب” أن “الديمقراطيين سمحوا للملايين من المهاجرين بالدخول إلى البلاد ما أدى إلى انخفاض نسبة الجرائم في العالم وارتفاعها في الولايات المتحدة”. ومن جهتها، هاجمت المرشحة الديمقراطية “ترامب” بسبب تاريخه “الإجرامي” ردًا على مزاعمه بشأن “جرائم المهاجرين”.

الحرب الروسية الأوكرانية: هاجمت المرشحة الديمقراطية “ترامب” بسبب تصريحاته الإيجابية السابقة عن “فلاديمير بوتين”، مدعية أن “بوتين كان سيصبح في كييف لو كان “ترامب” رئيسًا. فيما اعتبرت أن الديكتاتوريين حول العالم يدعمون “ترامب”، لأنهم يعرفون أنهم يستطيعون التلاعب به. ورد الرئيس السابق باتهام “هاريس” و”بايدن” باتخاذ سياسة غير مسؤولة تجاه روسيا “الدولة النووية”، وكرر خطته للعمل على إنهاء الحرب، مشيرًا إلى قدرته على وقف إطلاق النار. فيما لم تقدم “هاريس” أي أجندة مستقبلية بشأن دعم أوكرانيا أو حتى بلورة موقفها من النقاش الجاري بشأن السماح لأوكرانيا باستخدام الصواريخ الأمريكية بعيدة المدى لضرب أهداف في العمق الروسي.

الحرب في غزة: عبرت المرشحة الديمقراطية عن دعمها لحل الدولتين مشددة على أهمية الدفاع عن أمن إسرائيل من جانب وضمان أمن الفلسطينيين من جانب آخر، فيما تهرب “ترامب” من الإجابة على السؤال، مكررًا ادعائه بأن “هاريس” والديمقراطيين “يكرهون إسرائيل” وأن الصراعات “لن تحدث” تحت إدارته، زاعمًا أن إسرائيل ستدمر في غضون عامين حال تولي “هاريس”. ولم يقدم أي من المرشحين خطة لإنهاء الحرب في غزة أو لتأمين إطلاق سراح المحتجزين لدى حماس.

الانسحاب من أفغانستان: في ردها عن سؤال يتعلق بمسؤوليتها عن الانسحاب، ركزت نائبة الرئيس على الدفاع عن قرار الإدارة بإنهاء أطول حرب في تاريخ الولايات المتحدة. ثم انتقلت إلى انتقاد سجل “ترامب” في التفاوض على اتفاق الانسحاب الأولي مع حركة طالبان، والذي تجاوز فيه دور الحكومة الأفغانية. ومن جهته، دافع المرشح الجمهوري عن سجله، مؤكدًا على أنه سعى للانسحاب من أجل حماية أرواح القوات الأمريكية. زاعمًا أن طالبان حصلت على معدات عسكرية أمريكية بقيمة 85 مليار دولار جراء الانسحاب المتسرع، معتبرًا أن الانسحاب يمثل “اللحظة الأكثر إحراجًا في تاريخ الولايات المتحدة”.

تجرى أول مناظرة تجمع “هاريس” و”ترامب” في ساحة شديدة التعقيد تحوي العديد من المشكلات والأزمات المتداخلة والمركبة. ومن ثم، يصعب فصل المشهد المرتبط بالمناظرة ليس فقط عن مشهد السباق الرئاسي المحتدم، وإنما عن الحالة الاستثنائية التي يمر بها النموذج الأمريكي، ولا سيما في ضوء تعاظم حالة الاستقطاب والانقسام السياسي وانحصار تيار الاعتدال لصالح الميول الأكثر محافظة من جانب والأكثر تقدمية من جانب آخر. وهو ما يمكن بلورته على النحو التالي:

“روح أمريكا” مقابل “الحلم الأمريكي”: جمعت المناظرة الرئاسية نموذجين أمريكيين متناقضين تمامًا، بالاستناد إلى أن المرشح الجمهوري والرئيس السابق “ترامب” يتبنى الخطاب المحافظ الداعم لتفوق العرق الأبيض باعتبار أنه أساس الولايات المتحدة وبالتالي يعكس “روح أمريكا”، في مقابل المرشحة الديمقراطية نائبة الرئيس “هاريس” التي تتبنى خطاب “تقدمي إلى حد كبير” وتعكس انتصار لقاعدة المهاجرين في الولايات المتحدة، أي تجسيد لـ “الحلم الأمريكي”. ويرجع ذلك لكونها امرأة ذات بشرة سمراء تعود لأصول مختلطة (الهند وجامايكا)، وبالتالي، فهي تجسيد لصورة الولايات المتحدة كدولة مواطنة وبوتقة صهر كبرى تستطيع تجاوز كل الاختلافات وتتيح الفرص للجميع. وهو الأمر الذي انعكس في المناظرة – بشكل واضح – عبر تعهد “هاريس” بأن تكون “رئيسة لكل الأمريكيين”، في مقابل “ترامب” الذي اعتبر أن الديمقراطيين “دمروا نسيج بلادنا”، وأن تعاملهم مع ملف الهجرة قد أدى لتزايد معدلات الجريمة في الولايات المتحدة. كما حذر من “انحدار الأمة” معتبرًا أن سياسات هاريس لا تعني شيئًا، كونها كانت في السلطة مع الرئيس “بايدن” ولم تحقق أياً منها.

محافظة “ترامب” مقابل تقدمية “هاريس”: في ضوء النموذجين المتناقضين الذي جمعتهما المناظرة، فقد سلطت الضوء على أجندتين متناقضين إلى حد كبير، بين المواقف التي تبدو أكثر ميلًا للمحافظة من جانب “ترامب”، والتوجهات التي تبدو أكثر تقدمية من قبل “هاريس”. فمن جهته، وعد “ترامب” خلال المناظرة بخفض الضرائب، واعتبر أن قانون “أوباما كير” ليس جيدًا، مشيرًا إلى العمل على استبداله، وتبنى موقف شديد العدائية تجاه الهجرة، فيما حاول أن يبلور موقف معتدل تجاه الإجهاض. أما “هاريس”، فقد قدمت دعمًا كبيرًا خلال المناظرة لقضية الإجهاض، وأشارت إلى اتجاهها لتبني خطة “اقتصاد الفرص” التي تشمل تخفيضات ضريبية للطبقة المتوسطة، كما تعهدت بالعمل على تخفيف تكاليف الإسكان ومساعدة الأسر والأعمال التجارية الصغيرة. وفي كلمتها الختامية، أكدت “هاريس” على أنها ومنافسها الجمهوري لديهما رؤيتان “مختلفتان للغاية” لأمريكا؛ مؤكدة على أنها تركز على المستقبل بينما يركز “ترامب” على الماضي، وعلقت بالقول “لن نعود إلى الوراء. يمكننا رسم طريق جديد للمضي قدمًا”.

مرشح مدان مقابل مرشح ذا خلفية قانونية: ضمت المناظرة الرئاسية مشهدًا ربما لن يتكرر مرة أخرى على الساحة السياسية الأمريكية؛ كونها جمعت بين المرشح الجمهوري المدان في لائحة طويلة من الاتهامات والمرشحة الديمقراطية ذات الخلفية القانونية، التي عملت كمدعية عامة لسان فرانسيسكو والمدعية العامة لولاية كاليفورنيا. وفي هذا الإطار، فقد ذكرت “هاريس” خلال المناظرة أن “ترامب” “مجرم مدان”، وبأنه مسؤول عن الشغب في السادس من يناير 2020، وقبل ذلك في فرجينيا في عام 2017. وهو ما دفع “ترامب” إلى الزعم بالقول إنهم يستخدمون “القضايا القانونية كسلاح ضدي”، مشيرًا إلى أن القضايا المرفوعة بحقه “مزيفة”، ناهيك عن أن محاولة الاغتيال كانت نتيجة لـ “خطاب الديمقراطيين”.

مجمل القول، إن المناظرة التي جمعت “هاريس” و “ترامب” تحمل أهمية متزايدة في مسار السباق الرئاسي بطريقة دفعت حملتي كلا المرشحين إلى التأكيد على قوة الأداء؛ إذ اعتبرت حملة “ترامب” أن المناظرة كانت “الأفضل على الإطلاق، فيما اعتبرت حملة “هاريس” أنها استطاعت “السيطرة على المسرح في كل قضية تهم الشعب الأمريكي”. بينما كشف استطلاع للرأي أجرته شبكة “سي إن إن” و SSRS أن “هاريس” قد تفوقت في الأداء على “ترامب” خلال المناظرة. كما وجد الاستطلاع أن المرشحة الديمقراطية تجاوزت توقعات مراقبي المناظرة لها ولأدائها على خشبة المسرح ضد “ترامب”. لكن يظل من الصعب التوصل إلى معادلة تكشف عن علاقة التأثير المباشر بين المناظرة ونتائج التصويت المتوقعة في صناديق الاقتراع.

 

المصدر : https://ecss.com.eg/48054/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M