البنية الإسرائيلية “طويلة الأجل” في غزة

يجلس عبد العظيم فرج وهو رجل ستيني نازح من شمال قطاع غزة إلى المناطق الغربية الساحلية لوسط قطاع غزة، يجلس على باب خيمته يستمع إلى الأخبار الواردة عن طريق راديو يعمل على شحنه عن طريق الطاقة الشمسية. يشير إلى أن نشرات الأخبار السياسية تركز في الآونة الأخيرة على تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقرارات جيشه بشأن الحرب على غزة، في الوقت الذي تتحدث فيه الولايات المتحدة الأميركية ومصر وقطر عن المضي في ملف التفاوض بهدف الوصول إلى صفقة تفضي لتبادل الأسرى بين حركة “حماس” التي تحتجز إسرائيليين وإسرائيل التي تعتقل آلاف الأسرى في سجونها.

يشير فرج إلى أنه يتابع الأخبار في انتظار سماع أي معلومة أو قرار حول السماح له ولأسرته وآلاف الأسر الغزية بالسماح لهم بالعودة إلى منازلهم ومناطق سكناهم في شمال القطاع بعدما هجّرهم منها الجيش الإسرائيلي منذ بداية الحرب التي انطلقت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يقول: “تعبنا من العيشة في خيم بالشارع، شتاء وصيف وحشرات وما في خصوصية، احنا بدنا نرجع على بيوتنا”.

وكان الجيش الإسرائيلي قد قطع الطريق بين شمال القطاع وجنوبه، حيث أعاد إنشاء طريق من أقصى شرق القطاع وحتى غربه في المنطقة الجنوبية لمدينة غزة، ويمتد بعرض 4 كيلومترات نحو المنطقة الوسطى، عُرف بمحور نتساريم، حيث يمنع عودة أي من الغزيين منذ أحد عشر شهرا، فيما تجري المفاوضات بين الدوحة والقاهرة، ويتم النقاش حول عودة الغزيين والانسحاب من نتساريم لكن دون الوصول إلى نتيجة على أرض الواقع.

يقول فرج لـ”المجلة”: “كل العالم عايش ومرتاح واحنا مشتتين، طول عمرنا عايشين بتهجير ونزوح إجباري، حتى المفاوضات والمفاوضين شغالين براحتهم ولا كأنه في ناس مضغوطة وصابها المرض والإحباط وطالهم القتل والموت والتشرد، ونتنياهو مكمل في الحرب ويا خوفي يكون كل اللي بصير حاليا هو إعادة احتلال لقطاع غزة زي ما صار في حرب 1967”.

ومنذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قبل أكثر من 330 يوما، أصر رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على أن يؤكد في تصريحاته بأنه لا ينوي إعادة احتلال القطاع، مشيرا إلى أن الأهداف الرئيسة للحرب واستمرارها، هو القضاء على حركة “حماس” وقدراتها العسكرية، ومنع عودتها للحكم في غزة بذريعة العمل على ضمان أمن إسرائيل ومنع تكرار أحداث 7 أكتوبر حيث اقتحمت عناصر من “كتائب القسام” الجناح العسكري لـ”حماس” الحدود الشرقية وصولا للمستوطنات الإسرائيلية المحاذية للقطاع وأسرت العشرات من المستوطنين والجنود واقتادتهم إلى مختلف مناطق قطاع غزة.

وتشير قرارات الجيش الإسرائيلي الأخيرة، وتصريحات نتنياهو ونواياه المتمثلة في عدم الانسحاب من محور فيلادلفي على الحدود الجنوبية لقطاع غزة مع مصر، والتي عاد الجيش الإسرائيلي للسيطرة عليها في مايو/أيار الماضي، إلى فرض السيطرة والبقاء لسنوات طويلة بعدما كان قد انسحب منها قبل 19 عاما حينما اتخذت الحكومة الإسرائيلية عام 2005 برئاسة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرئيل شارون قرار الانسحاب أحادي الجانب من قطاع غزة في 15 أغسطس/آب 2005، لتتم إزالة 21 مستوطنة إسرائيلية من القطاع (بالإضافة إلى 4 بالضفة الغربية) وإخراج المستوطنين والقواعد العسكرية من غزة مع الإبقاء على فرض سيطرة إسرائيل على القطاع برا وبحرا وجوا دون الوجود داخل القطاع.

وصرح رئيس الوزراء الإسرائيلي في مؤتمر صحافي بداية سبتمبر الحالي، بعدم نيته الانسحاب من محور فيلادلفي، واصفا الانسحاب عام 2005 بالخطأ الاستراتيجي. وقال: “ما حدث عندما غادرنا هو أنه لم تكن هناك أي عقبات أمام تدفق الأسلحة والمواد المستخدمة في إنتاج الأسلحة والمعدات اللازمة لحفر الأنفاق، وكل ذلك تحت رعاية إيران. لقد أصبحت غزة تشكل تهديدا هائلا على إسرائيل بسبب عدم وجود أي حاجز”.

وأشار في حديثه خلال المؤتمر إلى أن سيطرة إسرائيل على فيلادلفي أمر أساسي لتحقيق أهداف الحرب المتمثلة في تدمير قدرات “حماس” وتحرير الرهائن- الإسرائيليين- ومنع “حماس” من تهريب السلاح والمسلحين عبر السيطرة على المحور، وعاد ليكرر عبارته بأنه لا يريد فرض الحكم على القطاع… “أوشكنا على تدمير قدرات (حماس).. نحن ندمر أنفاقهم.. ولا أريد أن أحكم قطاع غزة ولكنني أسعى إلى حرمان (حماس) من قدرتها على العودة لحكم القطاع”.

ويرى الكاتب والباحث في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور، في حديثه لـ”المجلة”، أنه وبخلاف الحديث عن أهداف الحرب التي أعلنت عنها إسرائيل وتقويض حكم “حماس” وتهديدها والتي اتخذت كذريعة للحرب على غزة “فإنه من الواضح أن السلوك الإسرائيلي- سياسيا وعسكريا- وما تقوم به إسرائيل مؤخرا له أهداف أبعد من ذلك بكثير”.

 

إسرائيل لن تنسحب ببساطة من القطاع لتترك الملف الأمني بيد أي جهة سواء كانت فلسطينية أو دولية

 

 

ويشير منصور إلى أن بناء محور نتساريم والعمل على توسعته وتطويره بشكل دوري ومستمر يشير إلى أنه بنية استعمارية طويلة المدى وليس مجرد جدار عازل مؤقت. ويضيف: “أضف إلى ذلك المنطقة العازلة على طول الحدود الشرقية والشمالية لقطاع غزة، والإصرار على البقاء في محور فيلادلفي كضلع أساسي في منظمة الأمن الإسرائيلي لمنع التهريب وتقويض (حماس) بحسب الادعاء الإسرائيلي، كل هذه التغييرات تدل على أن الاحتلال يريد أن يبقى في غزة ولسنوات وأن وجوده غير مؤقت”.

وتوقع منصور، فرض السيطرة الإسرائيلية الاحتلالية على قطاع غزة “على الأقل سيسيطر الجيش الإسرائيلي أمنيا على القطاع لفترة طويلة”، مؤكدا أن إسرائيل لن تنسحب بكل بساطة من القطاع لتترك الملف الأمني بيد أي جهة سواء كانت فلسطينية أو دولية “إسرائيل لن تترك الأمن بيد أي طرف آخر، وبتصوري هذا هو المشروع الأساسي لغزة ومن خلاله تعيد إسرائيل هندسة القضية الفلسطينية”.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

نساء يعاينّ الأضرار التي لحقت بمدرسة تؤوي فلسطينيين نازحين في حي الرمال بوسط مدينة غزة في 20 أغسطس 

“رئيس الجهود الإنسانية”

وسبقت تصريحات نتنياهو الأخيرة حول عدم نيته الانسحاب من فيلادلفي، ما كشفت عنه صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، أواخر أغسطس/آب الماضي، في قرار للجيش الإسرائيلي باستحداث منصب جديد تحت اسم “رئيس الجهود الإنسانية- المدنية في قطاع غزة”، تكون مهمته تولي إدارة الجوانب الإنسانية وتنسيق القضايا المدنية في القطاع، في خطوة قد تهدف لتثبيت احتلال القطاع لفترة طويلة بحسب ما يرى خبراء سياسيون.

وقالت الصحيفة الإسرائيلية، إن العميد إلعاد غورين، هو من سيتولى المنصب الجديد، مشيرة إلى أن المنصب يوازي منصب رئيس الإدارة المدنية التابعة للسلطة الإسرائيلية في الضفة الغربية، والذي يتولى مهمة إدارة الفلسطينيين والتنسيق مع بعض الجهات في السلطة الفلسطينية. حيث قالت “يديعوت أحرونوت” إن صلاحيات غورين ستركز على متابعة إمكانية عودة مليون نازح فلسطيني إلى شمال القطاع، ومشاريع إعادة البناء، والتنسيق مع مؤسسات المساعدات الإنسانية، ونقل المساعدات للسكان والنازحين.

 

ربما ستكون هناك إدارة فلسطينية في قطاع غزة تتولى شؤون الفلسطينيين لكن لن يكون لها أي سيطرة أمنية منفردة دون السيطرة الأمنية الإسرائيلية

 

 

ويفسر الكاتب والباحث في الشأن الإسرائيلي عصمت منصور، قرار تعيين منسق الشؤون الإنسانية الإسرائيلي، بأن ذلك يعني أن العملية العسكرية لم تعد مجرد عملية عسكرية فقط، بل لها جوانب إنسانية وجوانب تتعلق بإدارة العلاقة مع المؤسسات الدولية والمحلية التي لها علاقة مع الناس والمجتمع في غزة، مضيفا: “هذا دليل على أن العملية العسكرية أصبحت تأخذ أبعاد أكثر، وفي اعتقادي العلاقة ستكون فرض سيطرة مُباشرة على كافة مناحي الحياة كما يحدث في الضفة الغربية منذ سنوات”.

وتابع: “ربما ستكون هناك إدارة فلسطينية في قطاع غزة تتولى شؤون الفلسطينيين لكن لن تكون لها أي سيطرة أمنية منفردة دون السيطرة الأمنية الإسرائيلية”، موضحا أن ذلك يعتمد في النهاية على درجة تبني الولايات المتحدة الأميركية للمشاريع الإسرائيلية وتوسعها وفرض سيطرتها في قطاع غزة والذي سيتضح في الوقت القريب.

وبالعودة لتعيين غورين كمنسق للشؤون الإنسانية، لكي يكون حلقة الوصل بين عمل المؤسسات الدولية الإنسانية على الأرض وبين عمل الجيش الإسرائيلي، كما يجري تفعيل دوره وعمليات التنسيق التي يديرها ويشرف عليها، مثل إشرافه وتنسيقه لعمل طواقم منظمة الصحة العالمية و”اليونيسيف” على تطعيم الأطفال دون سن العاشرة في مختلف مناطق قطاع غزة ضد فيروس شلل الأطفال منذ بداية سبتمبر الحالي بعد اكتشاف أول حالة مصابة بشلل الأطفال بمدينة دير البلح وسط القطاع.

وأشارت “يديعوت أحرونوت” في تقريرها، إلى أن تعيين غورين جاء على خلفية غياب رؤية استراتيجية واضحة لدى الحكومة الإسرائيلية لما يعرف باليوم التالي للحرب على غزة، ولإدراك الجيش أن المسؤولية الإسرائيلية عن الجوانب الحياتية اليومية في غزة ستتواصل، بل ستزداد خلال السنوات القريبة المقبلة والتي تتزامن مع عودة وفرض الاحتلال الإسرائيلي. وتأكيدا على رأي الخبير في الشأن الإسرائيلي منصور، نقلت الصحيفة عن مسؤول أمني إسرائيلي قوله إن منصب منسق الشؤون الإنسانية مُعد لفترة طويلة، وليس منصبا لإدارة مشروع محدود، واستخدم وصف “ضابط غزة الرئيس” لغورين. وقالت “يديعوت” أنه سيدير شؤون مليوني فلسطيني، الأمر الذي يرمز إلى استمرار احتلال غزة لعدة سنوات وفق المخطط الإسرائيلي وبهدف “إعطاء الجيش شرعية دولية لمواصلة الحرب على غزة دون أن تتأثر الجوانب الإنسانية كحدوث مجاعة أو أزمة إنسانية”.

font change

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M