وثيقة فلسطينية إسرائيلية جديرة بالانتباه «1»

منذ شهور ؛ وليس الآن يمكن القول إن الحرب الإسرائيلية على غزة، دخلت «النفق المظلم» واستقرت بداخله. والمقصود بالنفق هنا معناه المجازى بعيدا عن مصطلح «الأنفاق» بمدلوله المادى المباشر الذى استخدم بكثرة ومازال طوال الحرب. أما النفق المظلم المقصود، فيأتى تعبيرا عن حالة انسداد فى الأفكار والرؤى وخطط المستقبل القريب لدى الأطراف المنخرطة فى مشهد الحرب. فهل تمتلك إسرائيل إجابة عن موعد «تقريبي» لانتهاء الحرب؟ وما هى المحطة التى يمكن بالوصول إليها أن تتخذ قرار التوقف؟ .

بالمناسبة؛ هذا تحديدا كان عنوانا مباشرا لإحدى جولات الخلاف الجوهرية، بين المستوى العسكرى ممثلا فى جالانت وهاليفى فى مواجهة المجلس الوزارى المصغر «الكابينيت». وهذا أيضا كان السبب الرئيسى لمغادرة جانتس وآيزنكوت الائتلاف الحكومي، باعتبار أن السؤال عن محطة الوصول، والإخفاق المدمر فى رسم ولو بعضا من ملامحه الرئيسية يمس عصب إستراتيجية الدولة الإسرائيلية، لذلك قبل القادة العسكريين ـ لطبيعة منصبهما ـ على مضض أن يدهس هذا الخلاف كغيره من التناقضات الكبرى تحت جنازير الآليات التى لابد لها أن تستمر فى الدوران، فى حين كان الأمر أسهل قليلا بالنسبة لجانتس وآيزنكوت باعتبارهما قادة لحزب سياسي، لكن بقى فى قرار المغادرة ملمح يؤكد المعنى هو أن الأول شغل منصب وزير الدفاع، والآخر كان أحد أهم رؤساء الأركان فى تاريخ الجيش الإسرائيلي. فالأمر عندما تعلق بغياب الأسس الحاكمة لإستراتيجية تعامل الدولة مع ظرف مركب، بوزن الحرب مع الفلسطينيين الذين يمثلون العقدة الرئيسية لدولة إسرائيل، وما استتبعها من استدعاء لمهددات أخرى ليست ثانوية كونها تمس هى الأخري، عقيدة الأمن للجيش الإسرائيلي. جاء قرار رحيل جانتس وآيزنكوت ضروريا على الأقل بالنسبة لهما، رغم ما كان ينتظرهما من خسارة سياسية تكبداها بالفعل، لكن الأمر فى بعده الأعمق كان بالنسبة لهما موقف لا مفر منه.

المثال الواضح الذى يعكس ما تقدم، أن بينى جانتس بعد أيام من مغادرته للائتلاف الحكومي، صرح بأنه يرى ضرورة الوصول فى الحرب على غزة إلى كلمة النهاية بأسرع وقت ممكن، على أن ينتقل الجهد العسكرى الرئيسى للجيش الإسرائيلى بذات السرعة إلى الجبهة الشمالية التى تأخر العمل الجدى عليها طويلا، فهى من وجهة نظره التى يتشارك معه فيها آيزنكوت تحتاج لعمل طويل وواسع، من أجل استعادة معادلة الردع المفقودة التى تسببت فى نزوح ما يتجاوز 200 ألف نسمة من مدن ومستوطنات الشمال الإسرائيلي، وكلا القائدين العسكريين السابقين يتحسبان من ترتيب أوضاع مهددة إستراتيجية طويلة المدي، على خلفية الامتداد الزمنى المفتوح للحرب على غزة ورغفال ما يترسخ على الأرض من قبل المحور الإيراني، الذى يهدف إلى جعل الشمال الإسرائيلى رهينة طوال الوقت فى قبضة ما بعد الحرب على غزة، وغيرها من ترتيبات الوضع الإقليمى برمته.

على خلفية هذه الانقسامات فى الرؤى الإستراتيجية الكبرى للدولة الإسرائيلية، من خلال قادة العمل السياسى والعسكريين السابقين والحالين، اشتبكت بعض الأسماء المهمة مع الوضع الراهن، وبدأت فى محاولة صياغة رؤى وأفكار، بالتأكيد تبحث عن الأفضل لمعادلة الأمن الإسرائيلى لكنها فى ذات الوقت، تشير للخلل الفادح الذى يجرى الآن على أراضى قطاع غزة ويمتد للضفة الغربية. إيهود باراك رئيس الوزراء الأسبق كان من الأصوات التى خرجت فى وقت مبكر من عمر الحرب على غزة، يصف الأمر باعتبار إسرائيل تواجه أخطر أزمة فى تاريخها، وأن جوهر الكارثة هى حكومة ورئيس وزراء غير مؤهلين، والأهم فيما تحدث بشأنه أنه يجد إسرائيل حاليا تعيش ذروة أزمة متنامية ومتطورة وبعيدة عن الانتهاء. كما وصف الرجل الذى شغل موقع قيادة الدولة وجاء إليه من خلفية عسكرية حافلة بالعمل الميداني، الحرب على غزة كونها فعلا وجهدا عسكريا مستمرا تبدو رغم شجاعة وتضحيات الجنود والضباط، أقل الحروب نجاحا فى تاريخ إسرائيل بسبب «الشلل الاستراتيجي» الذى تعانى منه القيادة. والجدير بذكره هنا أن تقديرات من هذا النوع لشخصيات من نوع باراك وجانتس وآيزنكوت، أنها لأشخاص انخرطوا لعشرات السنوات فى مجالى العمل العسكرى والسياسي، وتعاطوا مع استراتيجيات الدولة العليا عن كثب وسطروا فيها وأسهموا فى تطويرها، للحد الذى أوصل الدولة الإسرائيلية إلى ما كانت عليه قبل 7 أكتوبر الماضى، وهم بذلك يختلفون بالطبع عن غيرهم ممن لم يصل إلى دوائر صناعة القرار.

أحد هؤلاء «إيهود أولمرت» رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، تشارك مؤخرا مع «ناصر القدوة» وزير خارجية السلطة الفلسطينية الأسبق وابن شقيقة الرئيس ياسر عرفات، فى طرح وثيقة بعنوان «العمل معا لتحقيق السلام فى الشرق الأوسط». بعد أشهر من العمل معا وعديد الجلسات والاتصالات، وقع أولمرت والقدوة فى 17 يوليو الماضى وثيقة من صفحتين، لها نسخة باللغة الإنجليزية وأخرى بالعربية. نشرت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية مقاطع من نسختها الإنجليزية، فى حين سلم ناصر القدوة جوزيف بوريل الممثل الأعلى للشئون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوروبى النسختين العربية والانجليزية منذ أيام، وهناك اهتمام أوروبى واضح بوثيقة من هذا النوع وبشخصيات العاملين عليها. فقد تضمن اقتراح أولمرت ـ القدوة بشكل رئيسى أن العمل معا لتعزيز تحقيق السلام فى الشرق الأوسط،يأتى عبر تطبيق «حل الدولتين» على أساس حدود عام 1967. وتقترح الوثيقة ضم إسرائيل 4.4% من أراضى الضفة الغربية لإسرائيل، مع تبادل هذه الأراضى ببعض الأراضى الإسرائيلية بما فى ذلك ضرورة إنشاء «ممر» يربط قطاع غزة والضفة الغربية. كما أعرب كلاهما أنهما يدعمان خطة الرئيس بايدن وقرار مجلس الأمن رقم 2735 لوقف إطلاق النار فى غزة، وتبادل الرهائن بين إسرائيل و»حماس»، إضافة إلى إنشاء «مجلس مفوضين» لحكم قطاع غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي. الوثيقة جديرة بالانتباه، وهناك أهمية لقراءتها والتفاعل معها، وقياس مدى واقعيتها على الوضع الراهن، هذا ما سنتناوله الأسبوع القادم بمشيئة الله.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M