تأجيل الانتخابات في جنوب السودان: الأسباب والتداعيات والسيناريوهات المتوقعة

باحث في الشؤون الإفريقية

في تطوُّر سياسي مهمّ بجنوب السودان؛ أعلنت حكومة الوحدة الوطنية عن تأجيل الانتخابات الرئاسية لمدة عامين؛ ما يعني تأجيلها حتى ديسمبر 2026م، بعدما كان من المقرر إجراؤها في ديسمبر 2024م.

وتم تمديد الفترة الانتقالية نتيجة لعدة عوامل؛ أبرزها عدم استكمال المهام الحاسمة الضرورية لتهيئة البلاد للانتخابات، مثل صياغة الدستور، وتوحيد الجيش… هذه الخطوة تهدف إلى معالجة التحديات التي تُعيق تنفيذ اتفاق السلام الذي أُبرم عام 2018م، والذي كان يهدف لإنهاء الحرب الأهلية المدمّرة التي استمرت خمس سنوات، وأسفرت عن مقتل حوالي 400 ألف شخص.

يسعى هذا التحليل إلى شرح الأوضاع في جنوب السودان، وكذلك الأسباب التي دفعت إلى اتخاذ هذا القرار بتأجيل الانتخابات لمدة عامين، وكذلك تداعيات ذلك على الأوضاع الأمنية والاقتصادية.

أولاً: واقع معقَّد واتفاق غير مكتمل

القرار جاء بعد توصيات المؤسسات الانتخابية والأمنية، وفقًا لما ذكره وزير شؤون مجلس الوزراء مارتن إيليا لومورو، تم تأكيد أن الحكومة ستواصل العمل خلال هذه الفترة من أجل استكمال تنفيذ بنود اتفاقية السلام، بما في ذلك جهود توحيد الجيش، وإجراء الإصلاحات الضرورية لضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد([1]).

وعلى الرغم من أن هذا التمديد يُنظَر إليه على أنه ضرورة لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، إلا أن بعض الجهات الأجنبية، مثل “الترويكا” (الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، والنرويج)، أعربت عن خيبة أملها من هذه الخطوة؛ لعدم تحقيق تقدم ملموس في تنفيذ اتفاق السلام خلال الفترات السابقة، مما أثار قلقًا بشأن استدامة العملية السياسية([2]).

ومن الجدير بالذكر أن الرئيس الحالي، سلفا كير ميارديت، الذي يقود البلاد منذ الاستقلال في 2011م، أكد في السابق التزامه بإجراء الانتخابات في موعدها، وعبَّر عن نيته الترشح للرئاسة مجددًا؛ إلا أن التحديات السياسية والأمنية -بما في ذلك الخلافات المستمرة مع نائبه الأول ريك مشار حول توزيع المناصب القيادية في الجيش- أضافت تعقيدات أمام الانتقال السلس إلى انتخابات ديمقراطية([3]).

هذا التأجيل يمثل محاولة جديدة للتعامل مع الواقع المعقَّد في جنوب السودان؛ حيث لا يزال اتفاق السلام غير مكتمل التنفيذ، مما يستدعي المزيد من الوقت والجهود لإنجاز الخطوات الحاسمة قبل الوصول إلى انتخابات ديمقراطية مستقرة.

ثانيًا: أسباب ودوافع تأجيل الانتخابات

1– الأوضاع الأمنية غير المستقرة:

تمر الأوضاع الأمنية في جنوب السودان بحالة من عدم الاستقرار رغم توقيع اتفاقية السلام في 2018م، النزاعات بين الرئيس سلفا كير ونائبه الأول ريك مشار، إضافة إلى الفشل في توحيد الجيش تحت قيادة مشتركة، أدت إلى توترات متزايدة، واشتباكات مسلحة متفرقة لا تزال تحدث بين المجموعات العسكرية الموالية للطرفين، مما يُعطّل تنفيذ اتفاق السلام. وكذلك، تُعدّ عمليات التمرد والصراعات القبلية من العوامل الأساسية التي تزيد من تعقيد الوضع الأمني في البلاد، والتي أسفرت عن نزوح الملايين وتدهور الوضع الإنساني. كل هذا يجعل تنفيذ الإصلاحات الأمنية المطلوبة قبل الانتخابات صعبًا، ويزيد من الضغط على الحكومة لتحقيق الاستقرار([4]).

ولا تزال مناطق عدة في جنوب السودان تعاني من النزاعات المسلحة؛ حيث شهدت قرية تونجا بولاية أعالي النيل صراعًا مسلحًا امتد إلى مناطق داخل ولايتي جونجلي والوحدة، مما أدَّى إلى مقتل 166 شخصًا، وإصابة 237 جريحًا، وما بين 20000 إلى 50000 نازح، وكذلك شهدت العديد من المناطق مواجهات بين الفصائل المتناحرة في ولاية أعالي النيل؛ على الرغم من توقيع تلك الفصائل اتفاقًا مع الرئيس سيلفا كير في يناير 2022م.

وقد أظهر الصراع في ولاية أعالي النيل التحديات المرتبطة بالترتيبات الأمنية في جنوب السودان، فعلى سبيل المثال، الاتفاق الذي أبرمه سلفا كير مع فصيلين منشقين عن ريك مشار، والذي تضمن دمج قواتهم في الجيش، أدى إلى تفاقم التوترات، خاصةً في مدينة ملكال المتنازَع عليها بين قبيلتي الدينكا والشلك، وقد أسهم هذا الاتفاق في فتح الباب أمام صراعات مفتوحة داخل صفوف المعارضة نفسها، نتيجة لتنافس الولاءات والاستعداد لانشقاقات جديدة.

في الوقت ذاته، استمرت صراعات النُّخب والفصائل المسلحة المبنية على أساس عِرْقي ومناطقي في تأجيج النزاعات في مختلف أنحاء البلاد. اتفاق السلام المنشَّط بين كير ومشار أدى إلى انشقاقات في صفوف قوات المعارضة، مثل فصيل “كيتوانج” بقيادة سيمون جاتويك من النوير، الذي طالب بدمج جميع قوات المعارضة في الجيش، وفصيل “جونسون أولوني” من الشلك، الذي طالب بالسيطرة على ملكال، وأسَّس مع جاتويك قاعدة مشتركة على الحدود السودانية بعد فشل مشار في الوفاء بوعوده السياسية؛ مما يجعل تنظيم الانتخابات في ظل هذه الظروف تحديًا كبيرًا، بالإضافة إلى أن النزاعات المستمرة بين الفصائل المسلحة والاعتداءات على المدنيين تُعيق قدرة الحكومة على بسط سيطرتها على كامل أراضي الدولة([5]).

2– التأخير في تنفيذ بنود اتفاق السلام:

تم توقيع اتفاق السلام المُعاد تجديده عام 2018م بين الأطراف المتنازعة في جنوب السودان، والذي نص على خطوات نحو تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء إصلاحات دستورية، وتنظيم انتخابات. ولكن التقدّم في تنفيذ هذا الاتفاق كان بطيئًا، ولا سيما فيما يتعلق بإصلاح المؤسسات الأمنية والقانونية، مما جعل إجراء انتخابات حرة ونزيهة أمرًا صعبًا؛ حيث تجد جنوب السودان صعوبات وعقبات كثيرة في تشكيل القوات الموحدة، وذلك لنقص التمويل وتدهور الأوضاع الإنسانية في المعسكرات، مما يُعدّ عقبةً في تنفيذ المرحلة الثانية من توحيد القوات العسكرية.

وكذلك واجهت جنوب السودان صعوبات في إعادة تشكيل المجالس التشريعية في الولايات وتنفيذ آليات العدالة الانتقالية، وإعلان مفوضية صياغة الدستور، وتشكيل البرلمان، وهو ما يُعيق تقدُّم تنفيذ العديد من بنود اتفاق السلام([6]).

3- عدم اكتمال الإصلاحات الدستورية:

من المتوقع أن تُجرَى الانتخابات وفقًا لدستور جديد، ولكنَّ الإصلاحات الدستورية المطلوبة لم تكتمل بعدُ، ما يعني أن الانتخابات في مثل هذه الظروف قد تفتقر إلى الشرعية الدستورية، وكذلك فثمة إصلاحات أخرى تتمثل في الإصلاحات القضائية الرامية إلى تعزيز قدرة المؤسسات القضائية واستقلالها واستكمال المرحلتين الأولى والثانية من توحيد القوى، وتوسيع الحيّز السياسي والمدني لتعزيز المشاركة العامة في عمليات صياغة الدستور والانتخابات([7]).

4– الاعتبارات الاقتصادية:

تعاني جنوب السودان من أزمة اقتصادية خانقة بسبب تراجع إنتاج النفط، وفساد المؤسسات، وتدني مستويات التنمية، بالإضافة إلى العديد من العوامل الخارجية التي أثرت على الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بالأساس؛ فقد أدت الحرب في السودان إلى تدفق المهاجرين العائدين إلى جنوب السودان؛ حيث وصل أكثر من 117000 شخص، وهو ما يُضيف ضغوطًا اقتصادية نتيجة الحاجة الماسَّة لتوفير الضروريات الأساسية والعناية الصحية والأغذية والمخيمات لإيواء كل تلك الأعداد.

ونتيجة لتلك الضغوط يحتاج قرابة 10 ملايين شخص في جنوب السودان إلى المساعدات الإنسانية، وهو ما أدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية نتيجة الاشتباكات بين المقيمين والوافدين الجدد، وخاصةً في منطقة ملكال عاصمة ولاية أعالي النيل في جنوب السودان، والتي تُعدّ الوجهة الرئيسية للعائدين الجدد والفارين من الصراع في السودان الشمالي([8]).

ومن الجدير بالذكر أن إجراء انتخابات يتطلب موارد ضخمة، وهو ما لا تملكه البلاد في الوقت الراهن؛ حيث صرح رئيس لجنة الانتخابات الوطنية أن الإجراءات الانتخابية التي كان من المفترض إجراؤها من تسجيل الناخبين في شهر يونيو الماضي لم يتم تنفيذها نتيجة لنقص الموارد المالية الناتجة عن الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد([9]).

ثالثًا: التداعيات السياسية والأمنية لتأجيل الانتخابات

يحمل تأجيل الانتخابات في جنوب السودان إلى عامين إضافيين العديد من التداعيات على المستوى الداخلي والخارجي؛ ومن أهم هذه التداعيات ما يلي:

1– التهديد بفقدان الثقة بين الأطراف المتصارعة:

قد يؤدي التأجيل إلى زيادة الاحتقان السياسي بين الأطراف المتصارعة؛ حيث من الممكن أن تنظر بعض الفصائل إلى هذا التأجيل كفرصة لفرض سيطرتها أو التوسع في نفوذها على حساب العملية الانتقالية، وربما تجربة دولة الجوار السودان في إطالة الفترة الانتقالية، والتي أدت إلى تعثر الانتقال السلمي للسلطة، وهو ما أدى إلى الحرب الأخيرة التي راح ضحيتها أكثر من 20000 قتيل، ونزوح ولجوء أكثر من 13 مليون شخص من سكان جنوب السودان([10]).

2– احتمالات تجدد الصراع:

قد يؤدي التأخير في إجراء الانتخابات وعدم تحقيق توافق سياسي بين الأطراف المختلفة إلى تجدد النزاعات المسلحة في بعض المناطق؛ حيث سيظل سيلفا كير ونائبة ريك مشار في السلطة لفترة أطول، وهذا الوضع قد يزيد من حالة الإحباط بين الفصائل المعارضة التي ترى في التأجيل تعطيلًا لتطلعاتها نحو تحول ديمقراطي، مما يُعيد البلاد إلى مرحلة عدم الاستقرار.

ومع استمرار تباين المواقف السياسية وتعقيد التسوية السلمية في جنوب السودان، بجانب تشكيل تحالفات إثنية متعارضة، قد يدفع البلاد نحو حرب أهلية شاملة. فجماعة النوير التي ينتمي إليها ريك مشار ترى الصراع دفاعًا عن كيانها المادي ومستقبلها السياسي، وترفض هيمنة الدينكا بقيادة سلفا كير، هذه العوامل تزيد من احتمال تصاعد العنف وانتشار المواجهات عبر أنحاء البلاد.

على الرغم من ذلك، يبقى احتمال السلام الهشّ الأكثر ترجيحًا؛ حيث لن تسمح القوى الدولية والإقليمية بحرب شاملة، لكنَّ الصراع على السلطة سيظل قائمًا([11]).

3- إطالة الفترة الانتقالية تؤثر على عملية التحول الديمقراطي:

التأجيل المستمر للانتخابات قد يُضْعِف الأمل في تحقيق تحوُّل ديمقراطي حقيقي في جنوب السودان. وبدلاً من العمل على إصلاح المؤسسات وضمان مشاركة شعبية أوسع، قد تتزايد المخاوف من بقاء النظام الحالي في السلطة دون تحقيق تقدم حقيقي.

رابعًا: ثلاثة سيناريوهات للوضع في جنوب السودان بعد قرار التأجيل

يعكس تأجيل الانتخابات الرئاسية في جنوب السودان وإطالة الفترة الانتقالية لعامين إضافيين حجم التحديات الكبيرة التي تواجهها البلاد في تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية. ومع ذلك، إذا تم استغلال هذا الوقت الإضافي في إجراء إصلاحات حقيقية، وتوفير الظروف المناسبة لإجراء انتخابات نزيهة وشفافة، فقد تكون هناك فرصة لتحقيق انتقال ديمقراطي ناجح ومستقر، وبناء على ما سبق يمكن استنتاج ثلاثة سيناريوهات للوضع في جنوب السودان بعد قرار التأجيل وهي كما يلي:

1- تصاعد الصراع وانهيار العملية السياسية:

قد يؤدي التأجيل إلى زيادة الإحباط بين المعارضة والمجموعات المسلحة، مما يدفعها إلى الانسحاب من اتفاق السلام وعودة الصراع المسلح. هذا السيناريو سيؤدي إلى تفاقم الأوضاع الإنسانية، وزيادة تدفق اللاجئين، وتأثر دول الجوار مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا اقتصاديًّا نتيجة تراجع التجارة وعودة العمالة​.

2- توحيد الجيش وتعزيز الاستقرار:

في هذا السيناريو، تستغل الحكومة والمعارضة الفترة الانتقالية لتحقيق الإصلاحات المطلوبة، بما في ذلك توحيد الجيش وصياغة دستور جديد. وسيسهم ذلك في استقرار الأوضاع الأمنية والسياسية، مما يُمهّد لإجراء انتخابات نزيهة عام 2026م. هذا السيناريو يعتمد على التزام الأطراف بتنفيذ اتفاق السلام وتجاوز الخلافات العرقية.

3- السلام الهشّ واستمرار التوترات:

من المرجّح أن يؤدي التأجيل إلى استمرار الوضع الراهن؛ حيث تبقى التوترات بين الأطراف المتنازعة قائمة، لكن دون اندلاع حرب شاملة.

الحكومة بقيادة سلفا كير ستظل تسعى لتنفيذ اتفاق السلام، لكن ببطء. وقد تنشأ انشقاقات جديدة داخل المعارضة، مما يعزّز انعدام الثقة بين الفصائل، ويزيد من الصراعات المحلية.

هذا السيناريو هو الأقرب للتحقق؛ حيث لن تسمح القوى الإقليمية والدولية بتدهور شامل​، وأيضًا ستسعى دول الجوار إلى تهدئة الأوضاع؛ حيث إنها ستعاني من تدفق المزيد من اللائجين وكذلك تدهور الأوضاع الاقتصادية.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M