جاءت زيارة الدكتور تيدروس أدهانوم غبريسوس مدير عام منظمة الصحة العالمية في 8 سبتمبر/أيلول 2024 الماضي برفقة الدكتورة حنان بلخي المدير الإقليمي لمنطقة شرق المتوسط بمنظمة الصحة العالمية إلى السودان، لتعيد الشأن الإنساني ومعاناة المواطنين إلى واجهة النقاش عن الوضع في السودان، بعدما استغرقتها التفاصيل والتعقيدات السياسية منذ انهيار جولة المفاوضات التي أصرت على إجرائها الوساطة الأميركية في جنيف منتصف أغسطس/آب الماضي دون مشاركة الحكومة السودانية.
وتأتي زيارة دكتور تيدروس في وقت مهم بشكل خاص، بعد أن فاقمت كارثة السيول التي ضربت مختلف أنحاء السودان من المعاناة التي يعيشها المواطنون وأدت إلى انتشار عدد من الأمراض الوبائية في أغلب ولايات السودان، وعلى رأسها الكوليرا التي بلغت حالات الإصابة المؤكدة بها في سبتمبر الحالي بحسب إحصائيات وزارة الصحة 8350 إصابة. غير أن ما أعلنته منظمة الصحة العالمية عن تفش للكوليرا في مايو/أيار السابق بلغ أكثر من 11.300 حالة إصابة، و300 وفاة على الأقل. ناهيك عن الوضع المجهول في المناطق التي يستعر فيها القتال، وعلى رأسها الخرطوم والجزيرة وولايات إقليم دارفور، والتي يتعذر الحصول على إحصائيات دقيقة عن الوضع فيها. ولا تنحصر الكارثة على الكوليرا، بل تمتد لتشمل انتشارا وبائيا لفاشيات الملاريا والحصبة وحمى الضنك.
ويعاني القطاع الصحي من آثار الحرب بشكل خاص. فقد صوبت ميليشيا “قوات الدعم السريع” أسلحة دمارها منذ بداية الحرب على منشآت النظام الصحي، ودمرت مخازن الأدوية والتطعيمات، ولم تنجُ حتى مستشفيات النساء والولادة والأطفال من القصف المتكرر والتدمير بواسطة ميليشيا “الدعم السريع” بالإضافة إلى بقية مراكز ومنشآت النظام الصحي حتى وصلت الإحصائيات إلى أن 75 في المئة من هذه المنشآت توقفت عن العمل.
ثم جاءت كارثة السيول لتزيد من الآثار الكارثية والمعاناة التي يواجهها شعب السودان. ولكن أمام ذلك، ظل الصمود الأسطوري للأطباء والعاملين في النظام الصحي السوداني بارقة أمل، ولافتة كبيرة لبقاء الدولة السودانية وقدرة السودانيين على مواجهة الخطوب والكوارث بشجاعة وبسالة وتفانٍ. ويشهد على ذلك الفيديو الذي يوثق إقدام دكتور مدثر أحمد يحيى، المدير الطبي لمستشفى طوكر، وهو يقطع مجرى السيول التي قطعت الطريق إلى المستشفى، سباحة، ليصل إليها ويتابع مرضاه.
وقد تزامنت زيارة دكتور تيدروس مع صدور تقرير البعثة الدولية المستقلة لتقصي الحقائق في السودان التي كونها مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. وثق التقرير الانتهاكات والجرائم الفظيعة الواسعة النطاق التي ارتكبها الطرفان. وكانت ميليشيا “قوات الدعم السريع” مسؤولة عن معظم الجرائم الموثقة، والتي شملت: الهجمات المستهدفة للمدنيين وعمال الإغاثة، والاغتصاب والعنف الجنسي على نطاق واسع، والاعتقالات التعسفية، والتعذيب، وسوء المعاملة، والاستهداف العرقي، والكثير من الأعمال التي ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل الجماعي والاستعباد والتشريد القسري. وخلص التقرير بشكل لا لبس فيه إلى أن المدنيين في السودان يواجهون تهديدات حادة وغير مسبوقة على أساس يومي ومستمر. وتناول التقرير مسألة حماية المدنيين، وأوصى بإنشاء قوة مستقلة لحماية المدنيين وضمان الوصول الآمن إلى المعونة الإنسانية.
أوصى تقرير للأمم المتحدة بتشكيل قوة مستقلة لحماية المدنيين وضمان الوصول الآمن إلى المعونة الإنسانية
ترجمة هذه التوصية التي تعكس الطريقة الكلاسيكية التي يتبعها المجتمع الدولي لحماية المدنيين في أوقات الحروب عبر نشر بعثات حفظ/صنع السلام ذات قوات عسكرية على الأرض، تواجه تحديا كبيرا وسط الديناميات الدولية الحالية، وبالتحديد شلل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يتطلب إنشاء مثل هذه البعثة قرارا منه.
إلا أن الاستقطاب الحاد في المجلس بين روسيا من جانب والدول دائمة العضوية في المجلس كإحدى نتائج الحرب الروسية الأوكرانية، يدفع الجانبين لاستخدام حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار يتبناه الطرف الآخر في المجلس. كما أن إنشاء بعثات حفظ السلام العسكرية ظل على الدوام يثير مناقشات مطولة حول قضايا السيادة وضرورة موافقة سلطات الأمر الواقع والحساسيات الثقافية، وهي مناقشات يمكن أن تستغرق وقتا طويلا- والتكلفة هنا هي حيوات الناس- بالإضافة إلى أن هذه النقاشات تشتت تركيز النقاش عن الهدف الرئيس المتمثل في تحقيق نموذج عملي لحماية المدنيين في السودان.
وعلاوة على ذلك، فهناك انعدام للثقة بين الحكومة السودانية الحالية ومنظومة الأمم المتحدة، لا سيما بعد إنهاء بعثة يونيتامس بناء على ضغط الحكومة السودانية. وهذا وحده يمكن أن يؤدي إلى تأخير إنشاء ونشر هذه البعثة بشكل كبير في عمليات التفاوض بشأن اتفاقات وضع البعثة ووضع القوات. وبشكل عملي، فإن نشر بعثة فعالة تغطي منطقة الصراع الشاسعة في السودان، إلى جانب القتال العنيف والتجنيد المستمر، يمكن أن يكون مكلفا للغاية، مما يؤدي إلى استنزاف الموارد التي يمكن استخدامها بشكل أفضل لتلبية الاحتياجات الإنسانية الأخرى، لا سيما بالنظر إلى حالة ندرة الموارد وشحها حاليا. كما أن سجل الفعالية العملية تاريخيا ونجاح هذه البعثات في حماية المدنيين هو أمر مشكوك فيه، لا سيما في النزاعات المعقدة ذات الانقسامات الاجتماعية العميقة الجذور.
كما يمكن أن تؤدي الاشتباكات المحتملة– بل والحتمية– بين قوات هذه البعثة والأطراف المسلحة إلى اتهامات بالتحيز السياسي، وهو ما قد يزيد من التعقيد السياسي للمشهد السوداني.
وتمثل حماية المدنيين في السودان حاليا أولوية قصوى تحتاج إلى اتخاذ إجراءات فورية وعاجلة في سياق ما هو ممكن وقابل للتنفيذ. ويحتاج السودان إلى تدخل عاجل لحماية المدنيين بما يمكن تعزيزه وتطويره بشكل تدريجي نحو نموذج أكثر شمولية لحماية المدنيين، ولكن هناك حاجة ملحة لسرعة هذا التدخل. وقد وجه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2736 (المؤرخ 13 يونيو/حزيران 2024) الأمين العام للأمم المتحدة، بأن يقوم بالتشاور مع السلطات السودانية والفاعلين الإقليميين، لتقديم توصيات عملية لحماية المدنيين في السودان. وهو ما يجعل هذا النقاش حيويا وملحا في هذا التوقيت.
بشكل أساسي، هناك ضرورة ملحة لإعادة تعريف حماية المدنيين بشكل أوسع يتجاوز مجرد الحماية المادية والعسكرية البحتة، ليشمل توفير الخدمات الأساسية مثل الرعاية الصحية والمياه والتعليم والاتصالات… إلخ. يساعد هذا التعريف الموسع على تخفيف آثار الحرب، وزيادة المرونة وقدرة المجتمعات على الصمود، كما يسهل القبول السياسي بمثل هذه البعثة، خاصة من طرف الحكومة التي تتحمل المسؤولية الرئيسة عن حماية المدنيين. ومن المهم تطبيق مبدأ “مسؤولية الحماية” بشكل أكثر فعالية.
ويمكن أن يؤدي دمج الخدمات الأساسية في حماية المدنيين إلى إنشاء نموذج أكثر شمولية واستدامة يمنح الأولوية للحياة والكرامة وسلامة المدنيين. ويجب على المجتمع الدولي النظر إلى السودان كفرصة لتطوير مقاربات جديدة للتعامل مع القيود التي تواجهها قوات حفظ السلام التقليدية.
وفيما يتعلق بحماية المدنيين في مناطق القتال المشتعلة، فإن هنالك حاجة لإنشاء مناطق خضراء آمنة كملاذ للمدنيين. ويجب تحديد هذه المناطق بناء على معايير محددة وليس وفقا للمفاوضات بين الطرفين المتحاربين. ويجب أن تشمل هذه المعايير القدرة على الإيواء، والبنية التحتية لتقديم الخدمات الاجتماعية، بالإضافة إلى أن تكون هذه المناطق قادرة على دعم النشاطات الاقتصادية والزراعية، حيث إن العالم لن يستطيع تغطية الحاجات الإنسانية للسودانيين إلى الأبد. وعلاوة على ذلك، ينبغي تحديد هذه المناطق في مواقع استراتيجية تسهل انسياب المساعدات. على سبيل المثال، يمكن أن تشمل منطقة خضراء يبلغ قطرها خمسة كيلومترات حول مطار الأبيض، المطار والسوق والمناطق السكنية الهامة وهذا لن يوفر ملاذا آمنا للمدنيين فحسب، بل سيضمن أيضا استمرار الخدمات الأساسية وانسياب المساعدات عبر المطار، بالإضافة إلى استمرارية الأنشطة الاقتصادية. وسيتطلب إنشاء هذه المناطق وتحديدها التخطيط والتنسيق الدقيقين والذي يستلزم إشراك المجتمعات المحلية والمنظمات الإنسانية الفاعلة بالإضافة إلى الشركاء الدوليين في هذه العملية.
الاستقطاب الحاد بين روسيا من جانب والدول الغربية دائمة العضوية في مجلس الأمن من جانب آخر، يدفع الجانبين لاستخدام حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار يتبناه الطرف الآخر في المجلس
تحتاج حماية هذه المناطق الخضراء الآمنة إلى إنشاء آلية مراقبة مشتركة من الطرفين المتحاربين بالإضافة إلى طرف ثالث إقليمي أو دولي. وأن تعتمد هذه الآلية على استخدام تقنيات الأقمار الصناعية كنظام إنذار مبكر لتوفير مراقبة شاملة ومستمرة للوضع في مناطق النزاع، بما يمكنها من اكتشاف التهديدات المحتملة على المناطق الخضراء واتخاذ إجراءات وقائية. وسيوفر الرصد عبر الأقمار الصناعية الكثير من المزايا، بما في ذلك القدرة على تغطية مناطق واسعة، والعمل بشكل مستمر، وتقديم بيانات موضوعية يمكن استخدامها للتحقق من الامتثال للاتفاقيات وكشف الانتهاكات. كما يمكن أن يتضمن نظام الإنذار المبكر الاعتماد على مراقبين على الأرض من المجتمعات المحلية في مناطق النزاع. وأيضا يحتاج التدخل الدولي إلى إنشاء بعثة دعم مدنية دولية أو إقليمية لتقديم الدعم الفني الشامل داخل المناطق الخضراء.
ويجب أن تشمل هذه البعثة نهجا متعدد الأوجه لضمان تقديم الخدمات بشكل فعال والحفاظ على القانون والنظام. كما يجب أن تتضمن البعثة خبراء في مجالات مختلفة مثل الرعاية الصحية والتعليم والمياه والصرف الصحي والبنية التحتية، وأن تتضمن أيضا مكونا شُرطيا لضمان دعم الشرطة المحلية والمجتمعية في ضمان الأمن وتطبيق القانون داخل المناطق الخضراء.
مواطن سوداني فر من غرب السودان بعد أن بُترت ساقه جراء إصابته بالرصاص، واقفا في بلدة أدري في تشاد
إن أحد الجوانب الحاسمة لهذه البعثة ونظام حماية المدنيين هو دعم عنصر الشرطة في إنفاذ القانون داخل المناطق الخضراء، على أن تتألف قوة الشرطة هذه من أفراد مدربين من المكونات الدولية والمحلية، والعمل بالتنسيق مع مجموعات إنفاذ القانون المحلية والشرطة المجتمعية. وتشمل مسؤولياتهم الأساسية الحفاظ على النظام العام وحماية المدنيين وضمان سيادة القانون. وهذا العنصر ضروري لمنع أي تهديدات أمنية داخل المناطق الخضراء والاستجابة لها، وبالتالي خلق بيئة آمنة ومستقرة للمدنيين.
لا يمكن تجاهل الوضع الحاد والمخاطر المتزايدة في السودان. ويمثل شلل مجلس الأمن الدولي عائقا كبيرا أمام الحلول الشاملة والتدخلات الجذرية. ولكن مع ذلك، لا ينبغي الاستسلام بعدم اتخاذ أي إجراءات. وما لا يدرك كله لا يترك جله، في سياق التغلب على الشلل المؤسسي لمنظومة المجتمع الدولي.
إن الدفع بتنفيذ هذه التدابير المقترحة وتقديم الإغاثة اللازمة للسكان المدنيين، هو خطوة ابتدائية يمكن تطويرها تدريجيا باتجاه نظم وتدخلات أكثر شمولية. كما أن حماية المدنيين ليست مجرد قضية إنسانية، والاهتمام بها ليس فرض كفاية بل أولوية أخلاقية وقانونية. فالقانون الإنساني الدولي يفرض حماية المدنيين في مناطق الصراع، وعدم التصرف في هذا الشأن يعد إهمالا لهذا الواجب.