مقدمة
في 17 سبتمبر/أيلول 2024، انفجرت بالتزامن، في عدة مناطق لبنانية، مئات أجهزة التواصل اللاسلكية “البايجر”. ومن الواضح أن هذه العملية تستهدف بالأساس حزب الله وبيئته الحاضنة من الأهالي والمؤسسات المدنية، خاصة في بيروت وضاحيتها والجنوب والبقاع، وبعض المواقع في سوريا. وقد أسفرت الانفجارات، حسب وزارة الصحة اللبنانية، عما يقرب عن أكثر عشرة شهداء ونحو 3 آلاف جريح، بعضهم في حال حرجة، ووصفت وسائل إعلامية لبنانية محلية هذا الحدث بالمجزرة. والسبب الرئيسي وراء شيوع استعمال هذه الأجهزة لدى حزب الله وبيئته المباشرة، هو اجتنابهم استخدام شبكات الهواتف الخليوية، خشية اختراقها من قبل إسرائيل والتنصت عليها، وبالتالي تتبع تحركات عناصر الحزب عبر هواتفهم واستهدافهم بالمسيرات.
تتراوح التحليلات حول كيفية تفجيرها، بين زرع شرائح صغيرة ملغومة من خلال اختراق سلاسل التوريد، قبل وصولها إلى أيدي مستخدميها، أو عبر اختراق سيبراني، وربما بكليهما. وقد وجَّه حزب الله رسميًّا الاتهام لإسرائيل، وحمَّلها “المسؤولية الكاملة عن هذا العدوان”، مؤكدًا استمراره في “حرب إسناد غزة”، متوعدًا إسرائيل بالرد “من حيث تحتسب أو لا تحتسب”.
سياقات الحدث
حدثت هذه التفجيرات بعد أقل من شهر من استهداف حزب الله القاعدة الأساسية لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “أمان” في غليلوت، ووحدة الاتصال التابعة لها “8200”. وجاء استهداف الحزب لذلك الموقع في سياق رده على اغتيال إسرائيل لقائده العسكري “فؤاد شكر” في ضاحية بيروت الجنوبية، مساء الثلاثاء 30 يوليو/تموز 2024. وقد حرص حزب الله حينها في رده المنضبط نسبيًّا على تحقيق قدر من التوازن لردع إسرائيل عن استباحة أجواء الضاحية واستهدافها بالمسيرات، وحماية حرب “الإسناد” لغزة بما يسمح باستمرارها، دون التسبب بتوسعة الحرب أو انفلاتها.
وجاءت التفجيرات أيضًا بعد ساعات من اعتماد المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر هدفًا جديدًا من أهداف الحرب، ألا وهو “إعادة سكان الشمال إلى منازلهم”. وكان قد سبق لمسؤولين إسرائيليين، منهم رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف غالانت، أن أكدوا أن إسرائيل عازمة على تحقيق الاستقرار في الشمال إما بعملية عسكرية أو بتغيير الوضع الأمني هناك جذريًّا. في الوقت ذاته، كشفت تقارير إسرائيلية أن قائد المنطقة الشمالية في الجيش، أوري غوردين، يدعو إلى تنفيذ توغل بري جنوبي لبنان، بهدف إنشاء “منطقة عازلة”.
لا ينفصل التصعيد على الجبهة اللبنانية عن استمرار حرب غزة، لاسيما أن حزب الله رفض أي حديث حول وقف الحرب هناك، أو الخوض في أي اتفاق قبل وقف الحرب على غزة. وقد أقرَّ المبعوث الأميركي، آموس هوكستين، بترابط الجبهتين معًا في إحدى زياراته للبنان، مع العلم أنه قبل يوم من هذا التطور الأخير، كان قد التقى في إسرائيل مسؤولين إسرائيليين على رأسهم نتنياهو، لمنع حدوث تصعيد على “الجبهة الشمالية”.
ولا يبدو التصعيد الإسرائيلي على الجبهة اللبنانية منفصلًا عن أزمات نتنياهو الداخلية؛ فقد رفض، على مدى الأشهر الماضية، وقف إطلاق النار في غزة وتبادل الأسرى. فاستمرار الحرب يعني بقاء حكومته وتأجيل محاسبته بتهم تنتظره قبل “طوفان الأقصى”. ولا يُستبعد أن تُوجه إليه تهم أخرى في حال توقفت الحرب دون أن تنجز أهدافها المعلنة. ومع تراجع حدة العمليات العسكرية في غزة، وتأكيد الجيش الإسرائيلي أنه أنجز مهمته في القطاع، وأن على القيادة السياسية أن تتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، فإن فتح جبهة جديدة في الشمال سيمنح لنتنياهو المزيد من الوقت لبلوغ الانتخابات الأميركية، في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024. فهو يراهن على إدارة جديدة، تمنحه دعمًا إضافيًّا، وتشكل غطاء سياسيًّا لعملياته إلى حين نهاية ولايته أواخر العام 2026.
دلالات التفجيرات ورسائلها
مثلت تفجيرات أجهزة “البايجر” اختراقًا نوعيًّا إسرائيليًّا كبيرًا؛ فقد تمكنت إسرائيل من الوصول إلى شحنة خاصة وحصرية من أجهزة الاتصال الشخصية يستخدمها أعضاء حزب الله ومؤيدوهم وعائلاتهم والمقربون منهم، وفجرتها في وقت واحد. وكثير من الجرحى أصيبوا إصابات بالغة لن يتمكنوا بعدها من مواصلة أعمالهم المعتادة؛ ما يعني خسارة الحزب لقوة بشرية لها اعتبارها، سواء كانت مدنية أو شبه عسكرية. وستتسبب تلك الخسائر في إرباك صفوفه وإضعاف قدرته التواصلية على المدى القريب. وهو ما يثير مخاوف من إمكانية أن تكون هذه الخطوة مقدمة لخطوات إسرائيلية أخرى أوسع نطاقًا وأكثر عدائية.
سيضطر حزب الله، في الأيام القادمة، إلى الدفع بعناصر جديدة لتعويض خسائره ومحاولة التعافي. فوتيرة الحرب الإسرائيلية على الجبهة اللبنانية ليست في أعلى درجاتها، ويمكن أن تتدرج سريعًا، وعلى الحزب أن يكون في أتم جاهزيته. وقد تلجأ إسرائيل إلى توسعة الحرب ومضاعفة استنزاف الحزب لوضعه بين خيارين: أن يقبل بحقيقة الأمر الواقع ويحاول التعامل معه بحذر ويتراجع نسبيًّا، أو أن تستدرجه لردود أوسع قد تقود إلى حرب مفتوحة يريدها نتنياهو وترفضها واشنطن. في هذه الحال، سيتحمل حزب الله وزر اندلاع الحرب، التي قد تقود إلى تدخل أميركي وإيراني أكبر.
لقد أظهرت عملية التفجير المتزامن فجوة تكنولوجية هائلة بين القدرات التقنية والاستخبارية الإسرائيلية وقدرات حزب الله وربما قوى المحور بأكمله. فإسرائيل تحظى بدعم غربي لا محدود على صعيد جمع المعلومات وتطوير التكنولوجيات، كما على الصعيد العسكري. وهناك مخاوف من أن يكون هذا الخرق أوسع، لاسيما أن كل الأجهزة، الإلكترونية وغير الإلكترونية، وحتى المؤسسات والإدارات الخدمية، عرضة للاختراق. وهذه إحدى نقاط ضعف نموذج “حزب الله”، الذي يقود حربًا في دولة ليست معنية بالحرب. دولة لا تملك الإدارات ولا الأجهزة الملائمة للتعامل مع هذا الوضع، وإسرائيل وحلفاؤها يدركون جيدًا هذه الثغرة ويركزون عليها في وضع خططهم وتنفيذ عملياتهم.
ثمة إشكال حتى على صعيد البيئة السياسية والاجتماعية اللبنانية، التي لم يستطع حزب الله أن يصالحها كما كانت عليه الحال في المواجهات التي خاضها سابقًا ضد إسرائيل في السنوات التي أعقبت اتفاق الطائف، أي قبل مقتل رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005، ونسبيًّا عام 2006؛ فقد كانت الظروف آنذاك لا تزال معقولة على هذا الصعيد. لقد بذل الحزب جهودًا كبيرة لأقلمة بيئته الخاصة، وحقَّق في سبيل ذلك نجاحات مهمة، ولكنه لم يستطع تحقيق ذلك مع البيئة اللبنانية العامة، ولو بالحد الأدنى. فالمجتمع اللبناني متعدد الطوائف والأحزاب والتوجهات، وبعض الأطراف تختلف مواقفها مع مواقف الحزب اختلافًا جذريًّا، سواء إزاء هذه الحرب أو إزاء سياساته الداخلية والخارجية عامة. وهذه الأطراف تمثل شرائح اجتماعية غير قليلة. فالمشهد السياسي اللبناني يعاني من التشظي والتشرذم، ومعظم سلطات الدولة تعاني من الفراغ، حيث لا رئيس جمهورية، ولا حكومة كاملة الصلاحيات. فحكومة ميقاتي مجرد حكومة تصريف أعمال، وبالكاد تتمكن مؤسسات الدولة من أداء وظائفها في حدها الأدنى.
من شأن هذا الخرق النوعي أن يدفع حزب الله إلى رد رادع يتجاوز في نوعيته مستوى ردوده السابقة؛ أولًا: لتعزيز ثقة حاضنته، حذرًا من أن تفضي هذه الحادثة إلى التشكيك في قدراته الردعية وتضعف ثقتها به. وثانيًا: كي لا يمثل هذا الخرق ثغرة في المعادلة القائمة، التي حاول الحفاظ عليها من خلال رده “المنضبط” على اغتيال شكر.
خاتمة
أظهرت تفجيرات أجهزة “البايجر” أن بيئة حزب الله مكشوفة أمنيًّا إلى حدٍّ بعيد، وأن مواطن الهشاشة عالية في ظل التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، وفي ظل اضطراب الوضع اللبناني الداخلي اقتصاديًّا وأمنيًّا وسياسيًّا، لاسيما أن حزب الله أحد أهم الأطراف الفاعلة والمنخرطة في هذه المستويات جميعًا. وقد أدخلت هذه التفجيرات المواجهة على الجبهة اللبنانية مرحلة جديدة، أكثر تعقيدًا على المستوى الأمني، وأكثر خصوصية في المس بحزب الله والمحور الذي ينتمي إليه. وكان يمكن لهذه التفجيرات أن تكون أخطر وأكثر ضررًا لو كانت في سياق مواجهة أوسع أو حرب شاملة. ويبدو أن إسرائيل تعجلت في تنفيذ العملية، لأسباب قد تكون استخبارية، وقد تكون استباقية، تفادت من خلالها كشف الحزب لهذا الخرق.
لقد كانت المواجهات السابقة بين حزب الله وإسرائيل، في بعضها، اختبارًا بالنار من قبل الطرفين، بعضهما لبعض. وفي المحصلة، أعطت هذه العملية حزب الله وقوى المحور لمحة عمَّا تملكه إسرائيل من قدرات استخباراتية، وعما تواجهه هذه القوى من تطورات تكنولوجية لدى عدوها، عليها أن تأخذها بعين الاعتبار.