ضجّت وسائل الإعلام بحدث التفجير المتزامن الذي طال الآلاف من أجهزة “البيجر” وأجهزة “Icom V82” التي يحملها عناصر “حزب الله” اللبناني، وكانت حصيلتها (حتى تاريخ نشر هذا المقال) 2931 جريحا بعضهم في حالة خطرة، وأودت بحياة 37 شخصا.
واعتبر البعض أن هذا قريب من أفلام الخيال العلمي، وانتشرت الشائعات والمُبالغات والمُغالطات، وأصبحت هذه الواقعة حديث الإعلام المحلي والإقليمي والدولي اليوم.
لكن حالات الاغتيال عن بُعد، وتفخيخ الأجهزة ليس موضوعا حديثا أو طارئا، علما بأن التقنيات قد تطورت بشكل كبير. ولعلنا نذكر حادثة اغتيال محمود الهمشري، ممثل “منظمة التحرير الفلسطينية” في باريس، في عام 1972، حيث قام عملاء “الموساد” بتفخيخ قاعدة الهاتف الذي يستخدمه، وفجّر فريق إسرائيلي قريب المتفجرات عن بُعد، مما أدى إلى فقد الهمشري لساقه، ثم وفاته لاحقا.
كان جهاز “البيجر” يستخدم بشكل رئيس في المستشفيات، اخترعه المهندس الكندي ألفريد غروس عام 1949
كما نذكر حادثة اغتيال القائد الفلسطيني يحيى عياش (الملقب بالمهندس) عام 1996 بعملية بالغة التعقيد تكنولوجياً، حيث تم تركيب هاتف جوّال خاص لاغتياله من نوع “موتورولا ألفا” القابل للثني، فيه بطارية خاصة نصفها بطارية ونصفها مواد متفجرة من نوع خاص شديد الانفجار (40 إلى 50 غرام). وأثناء اتصال هاتفي مع والد عياش، تم بثّ إشارة إلكترونية إلى الهاتف الجوال أدت إلى تشغيل النظام مُحكم الصنع الذي تم زرعه في الجهاز وتفجير العبوة الصغيرة وتم اغتياله.
إقرأ أيضا: الهجوم على “بيجر” “حزب الله”… لماذا الآن؟
ومنذ اغتيال عياش إلى اليوم، مرّ 28 عاما تضاعفت فيها قدرات إسرائيل الاستخباراتية والتقنية، ومعلوم أن معظم شركات التكنولوجيا، سواء على صعيد الأجهزة أو التطبيقات، يملكها أو يُسهم فيها أو يصنعها رجال أعمال إسرائيليون.
وفي المُستجدات والحدث الحالي، فقد عاد التداول والحديث عن “البيجر”، الذي اعتاده اللبنانيون واستخدموه في الثمانينات ومُستهل التسعينات قبل أن يستبدلوه بأجهزة الهاتف الخليوي (الجوّال).
و”البيجر” هو جهاز لاسلكي صغير محمول يعمل ببطاريات عادية (من نوع AAA) أو ببطاريات قابلة للشحن (من نوع الليثيوم) قد تعمل أياما متواصلة، للإرسال فقط أو لإرسال واستقبال الرسائل النصّية القصيرة أو التنبيهات، عبر إرسال إشارات بواسطة شبكة لاسلكية خاصة يتم إنشاؤها خصيصا لهذه الخدمات، ويستقبل البيجر رسائل مكتوبة واتصالات وإشارات صوتية وضوئية أو حركات اهتزاز، تُخبر حامل الجهاز بأن رسالة وصلته.
ومن الممكن إرسال رسالة فردية إلى شخص محدد أو رسالة جماعية إلى مجموعة معينة. وكان جهاز “البيجر” يستخدم بشكل رئيس في المستشفيات، وشركات الإسعاف، وأجهزة الإطفاء، والقوى الأمنية، والشركات الكبيرة. وقد اخترعه المهندس الكندي ألفريد غروس عام 1949، واستخدمه في مستشفى نيويورك اليهودي (الذي أصبح فيما بعد مستشفى جبل سيناء)، في عام 1950.
بلغ عدد مستخدمي “البيجر” في أواسط تسعينات القرن العشرين أكثر من 61 مليون شخص حول العالم، وتراجع هذا العدد إلى 6 ملايين شخص عام 2016، و800 ألف عام 2023
وفي عام 1959 أطلقت شركة “موتورولا” مصطلح “جهاز النداء” (Pager) على الجهاز، وهيمنت بعدها على السوق لمدة 40 عاما، وأطلق على هذه الخدمات اسم “Paging services”.
طُورت النسخ الأولى من هذه الأجهزة في خمسينات وستينات القرن العشرين، وشاع استخدامها مع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن نفسه قبل انتشار الهواتف المحمولة الخلوية الرقمية في النصف الثاني من التسعينات لا سيما نظام (GSM)، والهواتف الذكية المحمولة مع بدايات القرن الحادي والعشرين.
بدايات “البيجر”
وفي الأصل كانت منظومة أجهزة “البيجر” تعمل عبر موجات اتصال لاسلكي، يتم إرسالها من هوائيات متخصصة، ومع التطور التكنولوجي أصبح جهاز النداء ثنائي الاتجاه مع إمكانيات مشفّرة، ثم بدأت الأجهزة تستوعب تقنيات التواصل المتطورة مثل التطبيقات الذكية وتقنيتي “البلوثوت” و”الواي فاي”.
وقد بلغ عدد مستخدمي “البيجر” في أواسط تسعينات القرن العشرين أكثر من 61 مليون شخص حول العالم، وتراجع هذا العدد إلى نحو 6 ملايين شخص عام 2016، وإلى 800 ألف شخص عام 2023.
ومما تتميز به أجهزة “البيجر”، إضافة إلى أسعارها الرخيصة، أن لها شبكة اتصال خاصة، وأنها صعبة الاختراق لأنها في الغالب لا تكون موصولة بشبكة الإنترنت، وغير موصولة على منظومة تحديد المواقع (GPS)، وتعمل بتقنية أمواج الراديو اللاسلكية الطويلة (LW) على ترددات محددة في الطيف الهرتزي المنخفض (100-400-MHz) وبرموز خاصة، وهي آمنة نوعا ما من الاختراقات السيبرانية ومحاولات التجسّس والتتبع الشائعة عند استخدام الهواتف المحمولة أو الذكية.
من الممكن تحويل الأجهزة إلى سلاح اغتيال فتّاك عبر إضافة مادة متفجرة فعالة بكمية ضئيلة يصعب كشفها وشريحة مُحفزة للتفجير
وليس مستغربا أن تنفجر وسائل الاتصال والهواتف الذكية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، في يناير/كانون الثاني 2023 انفجر هاتف “آيفون-4” أثناء شحنه واشتعلت فيه النيران في منزل بولاية أوهايو أثناء نوم زوجين وأطفالهما الخمسة. وفي أبريل/نيسان 2023 لقيت طفلة عمرها ثماني سنوات في الهند حتفها عندما انفجر هاتف “Redmi Note 5 Pro” في وجهها. وفي يوليو/تموز 2023 انفجر هاتف رجل على متن رحلة طيران هندية، مما تسبب في هبوط اضطراري للطائرة.
إقرأ أيضا: من “محور المقاومة” إلى “محور الذعر”
ونذكر أيضا كارثة شركة “سامسونغ” حين اضطرت إلى سحب جميع أجهزتها من نوع “Samsung Galaxy Note 7” من السوق عام 2016 بسبب عيوب في تصنيع بطاريات الليثيوم.
وهناك الكثير من الأسباب التي قد تؤدي إلى اشتعال النيران في الهاتف الذكي ومن ثمّ إلى انفجاره، ويرتبط ذلك دائما تقريبا ببطارية الجهاز.
وتعمل الأجهزة المحمولة الحديثة ببطاريات “ليثيوم أيون”، والمشكلة الأكثر شيوعا هي الحرارة الزائدة، إذا ارتفعت درجة حرارة البطارية المشحونة، أو المُعالج الذي يعمل بجهد زائد بسرعة كبيرة.
مادة الـ”PETN”
ومن الممكن تحويل الأجهزة إلى سلاح اغتيال فتّاك عبر التمكن من إضافة مادة متفجرة فعالة بكميّة ضئيلة يصعب كشفها وشريحة مُحفزة للتفجير، وعبر الحصول على الرمز أو الرموز الخاصة (الشفرة)، حيث يُمكن تفجيرها عبر إرسال إشارة ترفع حرارة البطارية أو ترفع جهد المُعالج، وهناك طرق أخرى محتملة، مثل إرسال رسالة متزامنة أو نبضة كهربائية لتفجير المادة المتفجرة.
من أوائل هذه المواد المتفجّرة المستخدمة هي مادة بنتا إريتريتول تترانترات “Pentaerythritol Tetranitrate” ويُرمز إليها بالحروف الأولى (PETN)
ومن أوائل هذه المواد المتفجّرة المستخدمة هي مادة بنتا إريتريتول تترانترات “Pentaerythritol Tetranitrate” ويُرمز إليها بالحروف الأولى (PETN)، وهي إحدى فصائل مواد النيترات الكيميائية، وقد صنعت للمرة الأولى عام 1894 وهي أشد مادة متفجرة في العالم، وكثافة الطاقة لديها عالية، لذلك حتى بضعة غرامات تسبب دمارا كبيرا من خلال الانفجار. وتُعد اليوم الحشوة الصاعقة الرئيسة لمعظم المتفجرات.
تفجير طائرة “لوكيربي”
ولهذه المتفجرات الحساسة قوة قصم وتفجير شديدة، مع سرعة فائقة لتمدد الاشتعال تصل إلى 8 كيلومترات في الثانية الأمر الذي يسمح بتزامن آلاف الانفجارات في وقت واحد. وقد استعملت في الكثير من العمليات الإرهابية مثل تفجير طائرة “بوينغ” فوق لوكيربي في اسكتلندا عام 1988.
وهكذا يمكن تحويل وسيلة اتصال وتواصل إلى أداة اغتيال وموت! فهل يُصبح كل شيء يعتمد على التكنولوجيا في حياتنا سلاحا أو وسيلة تجسس؟