تصعيد حرب الاستنزاف: ماذا بعد تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية التابعة لحزب الله؟

  • تُعد عملية تفجير أجهزة اتصالات حزب الله اللبناني “أكبر خرق أمني” إسرائيلي للحزب، وضربةً موجعة لهيبته ولمعنويات مناصريه وبيئته، وقد أوصلت العملية رسالةً إلى الحزب بأن إسرائيل قادرة على إيقاع ضرر كبير بقدراته دون إطلاق رصاصة واحدة.
  • من المتوقع ألا يتّجه الحزب إلى ردّ مُنفلِت يضطر إسرائيل إلى شن حرب مفتوحة ضده، إذ لا يزال الحزب يجد من مصلحته الاستراتيجية عدم فتح حرب شاملة مع إسرائيل، كما أن إيران لا ترغب في مثل هذه الحرب.
  • تتجه الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية إلى تصعيد في حرب الاستنزاف بين الطرفين، إلى حد أنها قد تشمل عملية برية محدودة في أراضي الجنوب اللبناني، إلا أن اندلاع حرب مفتوحة ثالثة بين إسرائيل ولبنان لا يزال بعيد الاحتمال.   

 

وقعت تفجيرات متزامنة لأجهزة نداء آلي (البيجر) يحملها عناصر من حزب الله اللبناني في الضاحية الجنوبية لبيروت ومنطقة الجنوب والبقاع، وسورية والعراق أيضاً، في 17 سبتمبر 2024، أدت إلى مقتل 11 شخصاً وإصابة نحو 3000 جُلهم ينتمون لحزب الله، من عسكريين ومدنيين. وتبعتها في اليوم التالي موجة تفجيرات متزامنة أخرى لأجهزة اتصال لاسلكي (ووكي توكي) يحملها عناصر الحزب أدت إلى مقتل 20 شخصاً، وجرح أكثر من 450 شخصاً.

 

ومع أن إسرائيل لم تتبنَّ هذه العملية رسمياً، فإن حزب الله حمَّلها في بيان رسمي “المسؤولية الكاملة عن هذا العدوان الإجرامي”. ووفقاً للتقارير الإعلامية، يبدو أن إسرائيل نجحت في زرع شُحنة متفجرة في هذه الأجهزة التي اشتراها حزب الله في الأشهر الأخيرة، وهذا ما يُفسر أن التفجيرات اقتصرت على أجهزة الاتصالات اللاسلكية التي يحملها أفراد حزب الله ولم تتسع لتشمل كل الأجهزة العاملة في لبنان. وكان الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، قد طلب في خطاب له، في 14 فبراير 2024، من مقاتلي الحزب وأنصاره وسكان المناطق الحدودية في جنوب لبنان التخلي عن الهواتف المحمولة التي وصفها بـ”العميل القاتل”، وبالترافق مع ذلك زاد الحزب من الاعتماد في شبكة اتصالاته على أجهزة النداء الآلي وأجهزة “الووكي توكي” باعتبارها وسيلة أكثر أمناً للتواصل، في وجه قدرات الاختراق الإلكترونية المتقدمة لإسرائيل.

 

الخرق الأمني الأكبر

تُعد هذه العملية “أكبر خرق أمني” إسرائيلي لحزب الله، وضربةً موجعة لهيبة الحزب ولمعنويات مناصريه وبيئته، وبخاصة مع المشاهد المروعة التي رافقت آلاف الانفجارات التي وقعت في الشوارع والأسواق والمكاتب في المناطق التي تمثل حاضنة شعبية للحزب. وأوصلت العملية رسالةً إلى الحزب وعناصره وأنصاره أن إسرائيل -بقدراتها الاستخبارية والإلكترونية- قادرة على إيقاع خسائر كبيرة بقدرات الحزب دون إطلاق رصاصة واحدة.

 

كما أن للهجوم الإسرائيلي تداعيات عملية على قدرات حزب الله، فإصابة نحو ثلاثة آلاف من كوادر الحزب، عسكريين ومدنيين، يعني خروج المئات من هؤلاء من الخدمة الفعلية، ما سينعكس سلباً على قدرات الحزب التنظيمية والقتالية.

 

مثَّلت العملية الإسرائيلية “أكبر خرق أمني” لحزب الله، ووجهت ضربةً موجعة لهيبة الحزب ولمعنويات مناصريه وبيئته (AFP)

 

والأخطر أن هذه العملية تمسّ بدُرة التاج لدى حزب الله، وهي شبكة الاتصالات الخاصة به، والمعروف أن حزب الله اجتاح بيروت، في مايو 2008، من أجل منع قرار حكومة فؤاد السنيورة آنذاك بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاصة بالحزب. فنجاح إسرائيل في تعطيل جزء من وسائل الاتصال التي كان يحسبها الحزب آمنة، وكشْفها، سيضطره إلى إعادة بناء شبكة الاتصال، وهذا الأمر لن يكون سهلاً، أو سريعاً، في ضوء التحديات التقنية التي سيواجهها الحزب نظراً للتفوق الإلكتروني والسيبراني الإسرائيلي، فضلاً عن أن هذا التعطيل قد يؤثر سلباً في خطط تسيير حزب الاستنزاف الحالية مع إسرائيل.

 

سياق ما جرى

لهذه العملية النوعية التي استهدفت حزب الله سياقان: الأول، بَعيد، يتصل بما تُسمى “حرب الإسناد” التي أطلقها حزب الله ضد شمال إسرائيل بعد يوم واحد من عملية “طوفان الأقصى”، وذلك لتخفيف الضغط العسكري على حركة حماس وبقية الفصائل الفلسطينية، ولدفع إسرائيل إلى وقف حربها على القطاع. ومنذ ذلك الوقت تدور حرب استنزاف بين الحزب وإسرائيل على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، أدت إسرائيلياً إلى نزوح أكثر من 80 ألف إسرائيلي من بلْدات ومستوطنان الشمال، وهو ما شكّل ضغطاً كبيراً، سياسياً واقتصادياً، على الحكومة الإسرائيلية.

 

والسياق الثاني، قريب، إذ وقعت هذه العملية على أثر اتخاذ المجلس الوزاري للشؤون السياسية والأمنية (الكابينت الإسرائيلي)، قراراً في 16 سبتمبر بتوسيع أهداف الحرب من طريق إدراج هدف “إعادة سكان الشمال إلى مناطقهم بأمان”، بالتزامن مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية بأن الحرب دخلت في مرحلة جديدة، وأن “مركز الثقل للحرب ينتقل إلى الشمال”، وفق تصريح وزير الأمن يوآف غالانت، وتصريح نتنياهو الذي قال فيه إنه هناك حاجة إلى “تغيير جذري في الوضع الأمني في الشمال”.

 

اقرأ المزيد من تحليلات «هاني سليمان»:

 

الأهداف الإسرائيلية

بالنظر إلى أن الحكومة الإسرائيلية الْتزمت الصمت تجاه تفجيرات أجهزة الاتصالات اللاسلكية التي استهدفت كوادر حزب الله، فإن الحديث عن أهداف هذه العملية في هذا التوقيت بالذات يندرج ضمن إطار التكهنات. ويمكن توقع واحد من الأهداف الآتية:

 

1. توجيه ضربة مؤلمة إلى حزب الله، ما يضطر الحزب إلى وقف “حرب الإسناد” لغزة والذهاب إلى تسوية سياسية تُتيح عودة آمنة للنازحين الإسرائيليين إلى مناطقهم في الشمال. ويبدو أن هذا هو الهدف الحقيقي من العملية، وهو ما أكده الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطابه الذي ألقاه عقب التفجيرات، في مساء 19 سبتمبر، حين قال إنه في اليوم الأول للعملية تلقى الحزب رسائل من قنوات مباشرة وغير مباشرة بأن هدف الضربة الإسرائيلية هو دفع الحزب إلى “وقْف الجبهة اللبنانية”.

 

2. قطع خطوط الاتصال لدى حزب الله، وبخاصة في ظل اتساع استخدام أعضاء الحزب لأجهزة الاتصال اللاسلكية هذه، بما يؤدي إلى بث الفوضى والإرباك وزعزعة منظومة القيادة والسيطرة للحزب، وبما يشكّل مقدمة أو جزءاً من خطة عملياتية أكبر. وهذا الهدف كان يقتضي أن تتبع التفجيرات إطلاق حملة عسكرية واسعة ضد الحزب، قد تشتمل على عملية برية، لكن إسرائيل لم تبادر إلى ذلك.

 

3. استدراج حزب الله لردٍّ يكون قوياً ومتجاوزاً لقواعد الاشتباك السارية، بما يخلق مسوغاً، داخلياً وخارجياً، للحكومة الإسرائيلية لشن حملة برية ضد حزب الله توقف حرب الاستنزاف وتعزز ردعها وتعيد النازحين إلى مناطقهم. إلا أن إسرائيل قد لا تحتاج إلى مسوغات إذا وجدت أن من مصلحتها إطلاق مثل هذه الحملة.

 

سعت إسرائيل إلى توجيه ضربة مؤلمة لحزب الله، تضطره لوقف “حرب الإسناد” لغزة واستهداف مناطق الشمال (AFP)

 

4. تعزيز صورة حكومة نتنياهو وتخفيف الانتقادات الداخلية لفشلها في إعادة النازحين، وإثبات أنها تفعل كل ما يلزم لكسر قوة حزب الله وتسريع عودة النازحين. وهذا الهدف قد يكون ثانوياً، إذ إن حجم عملية التفجيرات والوقت الطويل والموارد الهائلة للتحضير لها، كلها تقتضي هدفاً استراتيجياً أكبر من ذلك.

 

5. أشار موقع “إكسيوس” الأمريكي إلى أنه على الرغم من أن إسرائيل زرعت المتفجرات في أجهزة الاتصال منذ أشهر لاستخدامها في حال نشوب حرب شاملة لشل حزب الله، لكنها عجّلت تفجير الأجهزة خشية المخاطرة باكتشاف الحزب للخطة، أي أن هدف العملية وفق هذا الزعم تكتيكي. إلا أن قيام إسرائيل بتفجير أجهزة “الووكي توكي” في اليوم الثاني يقلل من مصداقية هذا الزعم.

 

وعلى صعيد النتيجة السياسية للعملية الإسرائيلية، أشارت تحليلات كثيرة إلى أن العملية مثّلت “ضربة تكتيكية” لحزب الله، لكنها ليست استراتيجية، لأنها لم تُجبِر الحزب على وقف حرب الاستنزاف، ومن ثم فإنها لن تُعيد النازحين إلى شمال إسرائيل، بدليل أن الحزب تابع بعد العملية قصف شمال إسرائيل بالصواريخ والمسيرات، والأهم أن أمينه العام أكد في خطابه الأخير أن الحزب ماضٍ في حرب الإسناد “مهما كانت التضحيات”.

 

حدود رد حزب الله

كما ورد أعلاه، هدّد حزب الله عقب التفجيرات مباشرة إسرائيل برد “عسير” على “مجزرتي الثلاثاء والأربعاء” التي ارتكبتها، بحسب وصف أمينه العام. وإن كان حسن نصر الله اعتبر في خطابه أن تعطيل هدف إسرائيل من العملية هو أول رد، وتعمَّد ألا يتحدث عن محددات الرد، من حيث طبيعته ونطاقه وتوقيته، إلا أن من الواضح أن طبيعة الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق ستضطر الحزب إلى انتقام على نحو يفوق الرد “المحسوب” الذي قام به في 25 أغسطس رداً على اغتيال القيادي البارز في الحزب، فؤاد شكر. وقد يكون هذا الانتقام في شكل عمليات أمنية أو عسكرية ضمن إطار حرب الاستنزاف الدائرة على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية.

 

ومع ذلك، من المتوقع ألا يتّجه الحزب إلى ردّ مُنفلِت يضطر إسرائيل إلى شن حرب مفتوحة ضده، إذ لا يزال الحزب يجد من مصلحته الاستراتيجية عدم فتح حرب شاملة مع إسرائيل، كما أن إيران، الداعم الرئيس للحزب، لا ترغب في مثل هذه الحرب، بما قد تنطوي على احتمال تورطها في مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة. والأهم أن تفجيرات أجهزة الاتصالات اللاسلكية قدمت مثالاً بسيطاً لكنْ خطراً لمشهد الحرب لو اشتعلت مع إسرائيل.

 

بيد أن إسرائيل تتجه إلى توسيع العمليات العسكرية في جبهة الشمال، بدليل القصف العنيف الذي قام به جيشها على قرى وبلْدات جنوب لبنان عقب خطاب نصر الله، ويبدو أن إسرائيل لن تتوقف عند توسيع شدة القصف الجوي ونطاقه في جنوب لبنان بهدف تدمير البنى العسكرية للحزب في المنطقة، بل قد تتجه إلى استهداف قيادات وازنة سياسية للحزب، وربما إطلاق مناورة برية لإقامة “حزام أمني” على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، وفق تصريح سابق لقائد المنطقة العسكرية الشمالية في الجيش، اللواء أوري غوردين. علماً أن حسن نصر الله حذر في خطابه الأخير بأن مثل هذا الحزام لن يمنع الحزب من الاستمرار في قصف مناطق شمال إسرائيل، ما يعني أن الحزام لن يُعيد سكان الشمال، وفق تأكيده.

 

طبيعة الهجوم الإسرائيلي غير المسبوق ستضطر حزب الله إلى انتقام يفوق رده “المحسوب” على اغتيال قائده العسكري، فؤاد شكر (AFP)

 

استنتاجات

مثّلت موجة التفجيرات الأخيرة تصعيداً غير مسبوق في حرب الاستنزاف بين إسرائيل وحزب الله المستمرة منذ أكثر من أحد عشر شهراً، وكسْراً لقواعد الاشتباك بين الطرفين. ويبدو أن اتخاذ الحكومة الإسرائيلية قراراً بتغيير الواقع الأمني على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، ودفْعها بمزيد من القوات والتجهيزات العسكرية إلى الشمال (وآخرها الفرقة 98 النظامية النخبوية)، يَشي بأن الجبهة اللبنانية-الإسرائيلية تتجه إلى مزيد من التصعيد الذي قد يشمل عملية برية محدودة في أراضي الجنوب اللبناني، إلا أن العوامل الكابحة لعدم اندلاع حرب شاملة بين إسرائيل ولبنان مازالت قائمة، وأهمها الموقف الأمريكي الرافض لمثل هذه الحرب، كما تعكسه تصريحات المسؤولين الأمريكيين مثل آموس هوكشتين وأنتوني بلينكن ولويد أوستن، وفي هذا السياق لا يمكن إغفال دلالة تأجيل زيارة وزير الدفاع الأمريكي أوستن إلى إسرائيل التي كانت مقررة مطلع الأسبوع المقبل.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M