بين شرق وغرب… الميتافيزيقا وحضورها في الفكر والأدب

يتناول شعراء الحداثة، والأدباء بشكل عام، موضوع الميتافيزيقا باعتباره الأهم والأكثر حظوة لديهم، بل يتسرّب إلى مواضيعهم الأخرى عند تصورهم لوجودهم بمحاذاة وجود الأشياء وكثرتها. العلاقة والارتباط، تأثيرها وتأثرها على ذواتهم، تجعل النصوص متوترة، مدهشة في سؤالها ونتيجتها. فالحضور الميتافيزيقي في المجال الفكري والأدبي، يبدو أنه سيبقى الهاجس الأكثر إثارة في عصرنا، كما كان في زمن أرسطو عندما أسماها “الفلسفة الأولى” كعلم لدراسة الوجود وما وراء الوجود. فالباحث المعاصر في الثقافة الفرنسية سودير هزار يسنغ، وفي كتابه الذي ترجمه نانيس حسن عبد الوهاب وابتسام بن خضراء “كيف يفكر الفرنسيون” (منشورات منتدى العلاقات العربية والدولية، الدوحة)، يلاحظ أن شغف الفرنسيين بالميتافيزيقا “بات هو المصطلح الذي يعد مناسبا حتى لوصف صعوبات شراء خبز طازج في العطلة الصيفية”. أما الفيلسوف ميشال لاكروا فيسوق مثالا جيدا لهذه الطريقة في التفكير عندما يصف وطنيته بأنها مرتكزة على “فهم أنطولوجي للفرنسية”.

شرق وغرب

لكن الباحث في “صوفية الزن” د.ت. سوزوكي فيدعي في كتابه “التصوف البوذي” (منشورات مؤسسة هنداوي، ترجمة ثائر ديب)، أن هذه النزعة الميتافيزيقية لا تتمثل بصورتها العميقة في الثقافة الغربية، ويمكن تلمسها بوضوح لدى الشرقيين فقط. حيث العقل الغربي في رأيه، يتميز بأنه “تحليلي، تميزي، تخطيطي، لا شخصي، منظم، مؤكد للقوة، مؤكد للذات، ميال إلى فرض مشيئته على الآخرين”.

بخلاف هذه الخصائص الغربية، يرى سوزوكي في العقل الشرقي أنه “تركيبي، كلي، تكاملي، غير تمييزي، استنتاجي، غير منظم، دغمائي، حدسي (أو بالأحرى وجداني)، لا منطقي، ذاتي، وذو عقلية جمعية اجتماعية”.

 

هذه النزعة الميتافيزيقية لا تتمثل بصورتها العميقة في الثقافة الغربية، ويمكن تلمسها بوضوح لدى الشرقيين فقط

 

 

ثم يدلل على صواب رأيه بعقد مقارنة بين نصين للشاعر الياباني باشو (1644 – 1694)، ونص مماثل للشاعر الغربي تينيسون (1809 – 1892).

فالشاعر الياباني باشو يقول:

حين أُمعن النظر

أرى “النازونا” مزهرة

على السياج، يا للروعة!

يوكو ميريبا،

كاكيني كانا.

تأويل سوزوكي لنص باشو السابق، ينطلق من عمق ثقافته الشرقية وفلسفتها عن مفهوم “صوفية الزن”، لذا يرى باشو وعند اقترابه من السياج، قد جذبت انتباهه نبتة برية (النازونا) وهي لا أهمية لها، والشاعر يصفها في قصيدته دون أن يعبر أبدا عن أي إحساس شعري خاص إلا في المقطعين الأخيرين وهما يدلان على علامة تعجب فحسب. الشاعر هنا يتصرف من وحي ثقافته التي تدخله في حالة توحّد مع هذه النبتة – كما حاله مع الطبيعة في مجملها – فيحس بكل نبضة تنبض في عروقها.

 

Wikicommons Wikicommons

الباحث في “صوفية الزن” د.ت. سوزوكي 

بعد هذه القراءة التأويلية لنص باشو، يورد نصا مشابها في موضوعه للشاعر الغربي تينيسون عندما يقول:

أيتها الزهرة على الجدار المتصدع!

إنني أقتلعك من الشقوق،

وأمسك بك ها هنا، جذرا وكلَّا، في يدي.

أيتها الزهرة الصغيرة! لو استطعت أن أفهم

ما أنت، جذرا وكلَّا، وكلَّا في كل،

لعرفت ما الله، وما الإنسان.

يرى سوزوكي أن الشاعرين كليهما لاحظ الزهرة، وأن شعورهما قد يكون متماثلا، أما الاختلاف فيكمن في أن باشو لا ينتزع الزهرة، بل يكتفي بالنظر إليها، ويستغرق في التفكير، ويشعر بأن ثمة شيئا يجول في فكره، لكنه لا يعبر عنه. ويترك لعلامة التعجب أن تقول كل ما يرغب بقوله، ذلك أنه لا يملك كلمات كي ينطق بها، فشعوره فياض وعميق، ولا رغبة لديه في أن يُمَفهِمَه.

ومن المفهوم الاخر، ينظر سوزوكي إلى الشاعر تينيسون على أنه فاعل وتحليلي، فهو أولا يقتلع الزهرة من المكان الذي تنمو فيه، ويفصلها عن الأرض التي تنتمي إليها. وبصورة تختلف تماما عن الشاعر الشرقي، فتينيسون لا يدع الزهرة وشأنها، لا بد أن يقتلعها من الجدار المتصدع “جذرا وكلَّا”، الأمر الذي يعني أن النبتة لا بد أن تموت. وهو لا يهتم لمصيرها، أما باشو فلا يمسّ “النازونا” ولو مسا، بل يكتفي بالنظر إليها وبإمعان، وهذا كل ما يفعله، فهو غير فاعل أبدا، وفي تعارض مع دينامية تينيسون. باشو لم يعد متفرجا هنا، وأن الزهرة قد أضحت واعية لذاتها، ومعبرة عن ذاتها بصمت وفصاحة، وهذا الصمت الفصيح، أو الفصاحة الصامتة من جانب الزهرة يتردد صداه على نحو إنساني في مقاطع باشو.

أما الشاعر الغربي فإنه فكر بأجمعه، ومطابق للذهنية الغربية، وهو من أتباع مذهب “اللغوس”، ولا بد أن يقول شيئا، لا بد أن يجرد تجربته الملموسة أو يُمفهمها، ولا بد أن يخرج من ميدان الشعور إلى ميدان الفكر، ويخضع العيش والشعور لسلسلة من التحليلات؛ ليرضي فضول الروح الغربية.

حقيقة الوجود

تقييم سوزوكي ونفيه لأي توجه ميتافيزيقي للعقلية الغربية، يقابله تنظير آخر قد ينصف العقل الغربي من عدم خلوه منها، وهو للباحث في الفلسفات الشرقية الياباني توشيهيكو إيزوتسو الذي عمل في كتابه “مفهوم الوجود وحقيقته” (ترجمة عيسى علي العاكوب، دار نينوى، 2019) تناظرا بين “وحدة الوجود” في الوجدان الشرقي، مقابل “وجودية” الغرب. فبالرغم من أنهما يشتركان في مفردة “وجود”، إلا أنهما يختلفان في المفهوم. فالفلسفات الشرقية لا تسعى لاستبطان مفهوم الوجود بوساطة الاستنتاج العقلي، بل فقط من خلال نوع خاص جدا من الحدس، ومن خلال اتحاد “العالِم بالمعلوم”. أي معرفة الوجود ليس من الخارج بوصفه موضوعا للمعرفة، بل من الداخل، من خلال صيرورة الإنسان أو كونه “الوجود” نفسه، من خلال تحقيق الإنسان ذاته أو إمكاناته.

 

shutterstock shutterstock

متحف دي تي سوزوكي 

أما الوجودية الغربية المعاصرة، فهي فلسفة للإنسان “المُغرَّب”، إذ عملت التقنية على فرض عالم مُصنّع ألقى الإنسان في أتون عزلة لا علاج لها. وما نظام الحياة الذي أوجدته التقانة إلا فوضى، بمعنى أنه نظام واسع ومفصل من اللامعنى أو العبث. حيث يضطر الإنسان إلى أن يحيا في نظام آلي هائل منزوعة عنه الصفات الإنسانية، لا يفهم هو نفسه معناه، وينشئ تهديدا دائما لفرديته وشخصيته. وفي وضع كهذا يغدو الإنسان الحديث لزاما مُغرَّبا عن الطبيعة، وعن نفسه. ثم يضيف توشيهيكو، أن نوع “الوجود” الذي يؤلف الهم الرئيس للوجودي الحديث ليس هو الوجود عموما، بل هو وجوده الفردي الشخصي، لا شيء آخر.

 

الفلسفات الشرقية لا تسعى لاستبطان مفهوم الوجود بوساطة الاستنتاج العقلي، بل فقط من خلال نوع خاص جدا من الحدس

 

 

على الرغم من هذا التباين بين رؤيتيهما – الشرقي والغربي – إلا أن مجال التلاقي بينهما موجود عند نقطة واحدة جوهرية تتعلق بالطبقة الأعمق للتجربة الوجودية نفسها، هذا ما يؤكده الباحث توشيهيكو. إن التجربتين ترجعان إلى عين التجربة الأساس، أو الرؤية الأولية لحقيقة الوجود الأصلية، وذلك بناء على ميتافيزيقا أرسطو لعلم الوجود الأنطولوجي لمفهوم “الجواهر الأولية” لأشياء العالم وموجوداته كمحدد عام. وهنا يجلب توشيهيكو شاهدا من رواية الوجودي الكبير سارتر ومن روايته “الغثيان” كدلالة على اقتراب تجربته من صوفية الشرقيين:

“لقد أعطانا جان بول سارتر وصفا حيّا على نحو مرعب لتجربة وجودية في روايته “الغثيان”. ففي يوم من الأيام يجد ركونتن، بطل الرواية، نفسه في حديقة جالسا على مقعد طويل. وهناك شجرة كستناء ضخمة أمامه تماما، حيث جذرها المُعقَّد ضاربٌ في الأرض تحت المقعد. أما هو فكان في حالة توتر روحي مفرط، حالة شبيهة بتلك التي كثيرا ما تُعاش في التقاليد الصوفية المختلفة بعد مرحلة طويلة من التدرب المركز. ثم على حين غرة، يومض كشف على عقله. فيتوارى الإدراك العادي للأشياء الفردية المادية الموضوعية. يتلاشى العالم اليومي المألوف بكل أشيائه القائمة بذاتها برسوخ، أمام عينيه. لم يعد “جذر” شجرة ذلك الذي كان ماثلا أمامه. لم تعد هناك أية مادة تسمى “شجرة كستناء”. الكلمات جميعا تختفي؛ الأسماء التي خُربِشتْ فوق كل مكان من خلال العادات اللغوية كلها تلاشت، وتلاشى معها مغزى الأشياء، وطرائق استعمالها، وتداعياتها المفهومية. بدلا من ذلك، لا يرى ركونتن إلا كتلا ضخمة ناعمة، شيئا شبيها بالعجين، في فوضى تامة، عارية عري فاحش مرعب. وهو هنا يشاهد الوجود نفسه”.

صوفية

فهذا هو الحدس الوجودي (الأنطولوجي) الأكثر أصالة الذي يبدو أنه يشكل الأساس لكل من الوجودية المعاصرة في الغرب ونمط “وحدة الوجود” في الفلسفات الشرقية، وقريب منهما الفلسفة الصوفية الإسلامية. وبالمرور على نصوص الشاعر السعودي صالح زمانان في ديوانه “ميثولوجيا مختصرة للفزع” (دار أثر، 2021)، مثلا، نجد لـ “الوجود” حضوره البارز، بمعنييه الغربي والشرقي. فبالمفهوم الشرقي يطالعنا نصه “لستُ على ما يرام”، حين لا يلقي بالا لأشياء الوجود الظاهرية، بل يذهب إلى أصل الأشياء و”جواهرها”، كما هي في اصطلاح أرسطو والشرقيين، وهذا ما يؤرقه في سعيه لإيجاد الوحدة في الكثرة:

لست على ما يرامُ

ساعتي لها عقارب ميتة

وسِوارها جلدُ ثعبانٍ

معطفي.. كان تمساحا

وجلدُ زوجِتِهِ حذائي

وقبيلة من دود القزُ

ماتت وهيَ تصنعُ ما تبقى من ثيابي

لستُ على ما يرام

أنا مقبرة القتلى

 

Wikicommons Wikicommons

الفيلسوف المصري عبد الرحمن بدوي 

إذن هو لون من تجاوز الواقع وصولا إلى أصل الوجود الذي لا يكشف عن نفسه من خلال حقائق الأشياء الظاهرة في الطبيعة، وكما هو فهم باشو لنبتة “النازونا”، وكذلك المعنى القريب من الرؤية الصوفية التي تسعى إلى التحليل الذاتي للوجود بوصفه الوجود الحقيقي، وهو ما يمنح للوجود الفيزيائي بعدا ثانويا مقابل الوجود الذاتي، كما يقول عبد الرحمن بدوي في كتابه “الإنسانية والوجود في الفكر العربي” (مكتبة النهضة المصرية، 1947).

 

الشعر والفلسفة صورتان متكاملتان للتعبير عن الوجود، ولا غنى للواحد عن الآخر في مسعاهما

 

 

أخيرا، ومن أجل التقريب بين المفاهيم المتشاركة في فضاء الميتافيزيقا – الصوفية والوجودية – يرى عبد الرحمن بدوي أن المنهج الذي بدأ منه كيركيغارد في تحليلاته الوجودية، هو بعينه ما يفعله الصوفية المسلمون. أما عن طبيعة وشرعية الحضور الأدبي، فلعل دعوة نيتشه صائبة عند قوله: “إنه لمن الضروري ألا نوغل في الفكر وننسى الوجدان الذي يمثله جانب الأدب والشعر. فلا بد من العودة إلى ما يعتمل في أنفسنا من عناصر بدائية للارتشاف من نبع العاطفة… حتى لو أدى ذلك إلى تحطيم الفكر التحليلي” (كريستيان دوميه، جنوح الفلاسفة الشعري، المنظمة العربية للترجمة، 2013، ترجمة ريتا خاطر).

النتيجة التي توصل إليها عبد الرحمن بدوي أن الشعر والفلسفة صورتان متكاملتان للتعبير عن الوجود، ولا غنى للواحد عن الآخر في مسعاهما.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M