استراتيجية فاشلة .. العمال هم المشكلة أم الإدارة؟

في ثمانينيات القرن الماضي كانت صناعة السيارات الأمريكية تشعر بالتهديد من الصعود السريع لنظيرتها اليابانية التي لم تكتفِ فقط بالسيطرة على الأسواق الخارجية بل سعت كذلك لفرض سيطرتها على الحصة السوقية الأكبر في الولايات المتحدة نفسها.

   

في ذلك الوقت سعت “جنرال موتورز” باعتبارها أكبر شركات السيارات الأمريكية وفخر الولايات المتحدة إلى تعزيز موقعها التنافسي في مواجهة اليابانيين الذين بدو كالقدر المحتوم الذي لا مفر منه، ولكن الخطة التي وضعتها الشركة الأمريكية لمنافسة اليابانيين تعتبر واحدة من أشهر الأمثلة على الفشل الاستراتيجي.

ببساطة، وضعت “جنرال موتورز” استراتيجية غير قابلة للتنفيذ تعكس سوء قراءتها للمشهد التنافسي ولإمكانات اليابانيين وهو ما تسبب في تعميق جراح الشركة الأمريكية من خلال خسارتها لجزء آخر من حصتها لصالح منافسيها اليابانيين وإضاعتها لعشرات المليارات من الدولارات.

ماذا يفعل؟

في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي كانت شركات السيارات الأمريكية تنظر إلى منتجي السيارات اليابانيين باعتبارهم مجرد مجموعة من صناع السيارات الصغيرة الذين حالفهم الحظ واستفادوا من أزمة النفط التي اندلعت في عام 1973، وعلى هذا الأساس لم ينظر الأمريكيون أبدًا إلى اليابانيين باعتبارهم منافسين يستحقون أن يتم الاستعداد لهم.

ولكن الوضع لم يكن كذلك، واستيقظت “جنرال موتورز” وأخواتها لكن متأخرًا بعد أن أصبح من الصعب ردع الشركات اليابانية الآخذة في التوسع بسرعة الصاروخ أو حتى منافستها.

واستمرت الأمور على هذه الحال حتى بداية الثمانينيات حين واجهت “جنرال موتورز” تحديين أساسيين: الأول هو السيارات اليابانية منخفضة التكلفة وعالية الجودة التي مكنتها من اكتساب موطئ قدم في السوق الأمريكية. والثاني هو مشاكل العمال في مصانع الشركة والتي كانت تزداد سوءًا وتدهورًا مع مرور الوقت.

     

“ماذا أفعل؟” .. كان هذا هو السؤال الرئيسي الذي كان يشغل بال الرئيس التنفيذي الجديد للشركة في ذلك الوقت “روجر سميث”. وفي محاولة لتحديد سبب موطن الخلل سأل “سميث” نفسه الأسئلة التالية:

ما هو البند الأكبر في ميزانية الشركة؟ رواتب العمال. مَن الذين حالوا دون زيادة الشركة لطاقتها الإنتاجية من خلال التهديد بالإضراب؟ العمال. مَن الذين ارتكبوا أخطاء على خطوط الإنتاج تسببت في خلل بالسيارات؟ العمال. مَن الذين صعّبوا الأمور على إدارة الشركة برفضهم تنفيذ ما قيل لهم؟ العمال.

وفي ضوء ما سبق توصل “سميث” إلى حل غاية في البساطة والجرأة لكل المشاكل التي تواجهها شركته وهو: التخلص من العمال، كان يريد العثورعلى طريقة تمكنه من جعل مصانع الشركة تعمل ليلًا ونهارًا دون الحاجة لدفع أجور أو التعامل مع شكاوى أو إضرابات أو تحمل تبعات أي أخطاء بشرية.

الفشل في تقليد “تويوتا”

كيف يمكن له الاستغناء عن العمال؟ الإجابة هي الروبوتات! عزم “سميث” على استبدال عمال جنرال موتورز بمجموعة من الروبوتات. وما عزز من اقتناعه بتلك الفكرة هي أن منافسيه اليابانيين يستخدمون بالفعل الروبوتات على نطاق واسع في مصانعهم.

للوهلة الأولى بدت رؤية “سميث” فكرة واعدة بإمكانها أن تضع جنرال موتورز في مقدمة السباق أمام اليابانيين، وتحمس مجلس الإدارة لخطة “سميث” وأمل أن يتمكن الرجل من تحقيق ما يصبو إليه، وأن تساعد الأتمتة الكاملة لمصانع الشركة على منحها ميزة في مواجهة المنافسين.

لكن كان هناك عوار واضح في استراتيجية الأتمتة التي وضعها “سميث” وهي أنها كانت مبنية بالأساس على افتراض غير دقيق وهو أن الأتمتة بحد ذاتها هي سبب تفوق اليابانيين، وأن استبدال العمال بالآلات بإمكانه أن يضع حدًا للتوغل الياباني أو أن يعيد للشركة ما فقدته من سوق السيارات العالمي.

  

فبدلًا من محاولة تطبيق أو مضاهاة نظام التصنيع المرن الذي كان يميز “تويوتا” اليابانية غرقت “جنرال موتورز” في هوسها بالأتمتة، كانت مشكلة الشركة الأمريكية هي أنها لم تجتهد في فهم الكيفية التي يتم بها الدمج بين العمال والآلات بفاعلية، وهو ما كانت تبرع فيه “تويوتا” وهو أيضًا سر تكلفتها المنخفضة.

كان اليابانيون يبرعون أيضًا في المكونات الأساسية الأخرى للتصنيع المرن مثل تكامل سلاسل التوريد وإدارة الجودة، وهي أشياء يقوم بتنفيذها جميعًا مهندسون وفنيون مهرة، ولذلك لم تستفد “جنرال موتورز” كثيرًا من نظام التشغيل الآلي الذي صممته؛ لأنه لكي يعمل ذلك النظام بأفضل كفاءة ممكنة كان لابد من عمال مهرة.

عن هذه المعضلة، قال “تشارلز ماكيليا” مهندس أتمتة المصانع في “جنرال موتورز”: إن استخدام التكنولوجيا في غياب قوة العمل المدربة هو ببساطة أتمتة للفوضى”.

مليارات طارت في الهواء

كان سميث يعتقد أن الاستغناء عن العمال يخفض من تكاليف إنتاج السيارات بـ”جنرال موتورز” غير أن ما نسيه مع مجلس إدارته هو أنهم حين تخلصوا من العمالة المباشرة استبدلوها بأخرى غير مباشرة كلفت الشركة أموالاً طائلة، وذلك لأن الفنيين وغيرهم من الأشخاص الذين يحتاج المصنع المؤتمت إليهم أغلى بكثير من العمال الذين يعملون بالساعة.

بحلول نهاية الثمانينيات كانت “جنرال موتورز” قد أنفقت أكثر من 45 مليار دولار (وهو المبلغ الذي كان كافيًا لشراء “تويوتا” و”نيسان” حينها) على أنشطة الأتمتة التي لم تؤدِ إلا إلى ازدياد الأوضاع سوءًا، حيث انخفضت إنتاجية الشركة وتراجعت حصتها في السوق الأمريكي من 46% في عام 1980 إلى 35% في عام 1989.

  

وتسببت الاستراتيجية المبنية على سوء فهم لنقاط القوة لدى شركات السيارات اليابانية في إعاقة إنتاجية “جنرال موتورز” وهو ما ساهم في تدهور وضعها التنافسي في السوقين المحلي والعالمي، ولم يكن العمال هم المشكلة وإنما الإدارة التي فشلت في قراءة الواقع وتسببت في خسارة المساهمين لمليارات الدولارات.

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M