الحكومة الفرنسية الجديدة… تنديد يساري وتحدٍ يميني

أعلن ميشال بارنييه في الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول، تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة بعد انتظار أسبوعين، ومسار معقد ومؤلم، وبلاد من دون حكومة كاملة الصلاحية منذ أكثر من شهرين، وقد نال الفريق اليميني المحافظ وفريق الرئيس ماكرون حصة الأسد من التركيبة العتيدة.

يعكس هذا الوضع المشهد السياسي الفرنسي المرتبك بعد انتخابات تشريعية مبكرة في يوليو/تموز الماضي، لم تسفر عن فرز حاسم أو أكثرية برلمانية واضحة. ويصح الكلام عن وضع سيريالي عندما تندلع المناكفات بين إيمانويل ماكرون وميشال بارنييه حول تشكيل الحكومة وبرنامجها، أو عندما يلتقي اليسار الراديكالي وأقصى اليمين على انتقاد الحكومة الجديدة، أو عندما يصوب اليسار على ماكرون الذي لم يطبق العرف في تشكيل الحكومة عبر تكليف مرشح (أو مرشحة) الكتلة الأولى في البرلمان.

يزيد هذا الوضع من التحديات أمام ميشال بارنييه السياسي المخضرم ذي الثلاثة والسبعين عاماً، ولكنه يدل كذلك على إمكان بدء مرحلة من انعدام الاستقرار السياسي خلال المدة المتبقية من ولاية الرئيس ماكرون حتى مايو 2027.

ماكرون والرقص على الحبل المشدود

أسفر الاستحقاق الانتخابي الأخير عن ظهور جمعية وطنية مشتتة، حيث فازت “الجبهة الشعبية الجديدة” (تحالف اليسار العريض وحزب “الخضر”) بأكبر عدد من النواب بين الكتل الرئيسة الثلاث، من دون الحصول على الأغلبية في البرلمان.

بيد أن ماكرون الذي مني معسكره بالهزيمة، واصل المناورة للحفاظ على مركزيته في إدارة الحكم، معتمدا على الصلاحية الدستورية الممنوحة للرئيس في اختيار رئيس الوزراء الجديد، ولم يحترم التقليد الذي يقضي بقبوله تسمية لوسي كاستيه المرشحة من الكتلة الكبرى، أي من “الجبهة الشعبية الجديدة” (التي دفع بها راديكاليو جان- لوك ميلانشون)، تحت ذريعة عدم قدرتها على تشكيل حكومة مستقرة وذات مصداقية.

وقد انتقل ماكرون إلى المماطلة خلال “الألعاب الأولمبية” التي استمرت سبعة أسابيع، وبدل استدعائه مرشح الكتلة الأولى الفائزة في انتخابات 7 يوليو، اقترح اسم رئيس الوزراء السابق الاشتراكي برنار كازينوف الذي رفضه حزبه و”الجبهة الشعبية الجديدة”. وبعد فشل هذا الخيار، عاد سيد الإليزيه إلى اليمين واقترح الوزير اليميني السابق اكزافييه برتران، الذي سرعان ما رفضه اليمين المتطرف كحزب “التجمع الوطني” (مارين لوبان).

ونظرا لضيق الخيارات، لجأ ماكرون إلى “الجمهوريين” (اليمين التقليدي) وكلف وزير الخارجية الأسبق ميشال بارنييه بتشكيل الحكومة الجديدة.

 

ماكرون الذي مُني معسكره بالهزيمة، واصل المناورة للحفاظ على مركزيته في إدارة الحكم

 

 

هكذا دخلنا في منعطف جديد من “اللعبة” بين اليمين وماكرون، الذي عمل من دون كلل على إضعاف هذا الحزب منذ وصوله إلى الإليزيه في 2017 بهدف استيعاب ناخبيه. لكن هذه المرة، اضطر الرئيس إلى استدعاء شخصية يمينية بارزة لإنقاذ ما تبقى من فترة ولايته البالغة خمس سنوات.
لا شك أن ميشال بارنييه، المفاوض الأوروبي السابق في ملف “البريكسيت”، والماهر في تدوير الزوايا، ملزم بالتصالح مع المعسكر الرئاسي لكي يحكم ويفتح صفحة جديدة. بيد أن نجاح بارنييه مرتبط باستقرار نسبي في المشهد السياسي لأن اليسار أدان “الضربة الانقلابية” التي قام بها ماكرون، ولأن اليمين المتطرف سيضع الحاكم الجديد في ماتينيون تحت تهديد الفيتو الرقابي.

فشل تكتيك اليسار

اعتبر اليسار أنه جرت “سرقة الانتخابات” وأدان التقارب غير المباشر بين ماكرون وأقصى اليمين، ووصل الأمر بزعيمة “الخضر” مارين تونديلييه للتحذير من ” تجسيد حكومة بارنييه لتحالف غير معلن بين الماكرونيين واليمين واليمين المتطرف”.
واستغربت “الجبهة الشعبية الجديدة”، القوة الأولى في الجمعية الوطنية، تكليف أحد أعضاء حزب “الجمهوريين”، وهو الحزب الذي جاء في المركز الخامس في الانتخابات. ومن هنا توافق اليساريون والخضر على أن ميشال بارنييه يفتقر إلى الشرعية.
لكن هذا لا يعني أن الجبهة اليسارية معفاة من جانب من المسؤولية عن أزمة النظام بسبب اعتمادها الخط الراديكالي الذي فرضته “فرنسا الأبية”، والاختلال داخل مكوناتها بين المعتدلين والمتشددين.
وفي مواجهة المناورة الرئاسية المتمثلة في تقسيم اليسار لتشكيل أغلبية “مناسبة”، بقي اتحاد اليسار متماسكا بشكل ظاهري. والواقع أن اقتراح اسم “برنار كازينوف ماتينيون” ترك آثاراً داخل “الحزب الاشتراكي” الذي لم تدعم قيادته بشكل كافٍ ترشيح برنار كازينوف، رئيس الوزراء السابق (2016-2017) في عهد فرانسوا هولاند، من خلال المساهمة في نسف هذا الاختيار والتعجيل بتكليف عضو حزب “الجمهوريين” ميشال بارنييه.

 

فشل اليسار أتاح لماكرون تعزيز استنتاجه بأن اليمين يشكل الأكثرية في البلاد

 

 

علاوة على ذلك، فإن كثيرا من المسؤولين التنفيذيين في “الحزب الاشتراكي” (الذي كان لفترة طويلة الحزب القيادي في اليسار)، أخذوا يطالبون بعقد مؤتمر طارئ يضم كل تيارات الحزب، حتى يستعيد اليسار الثقة، وبعضهم أخذ يطالب علانية بالابتعاد عن اليسار الراديكالي. ويشارك في هذا الرأي وسطيون يساريون يعتقدون أن “التطرف الراديكالي قد أظهر حدود إمكاناته” وأن “اليسار لا يمكنه الفوز من دون حزب اشتراكي قوي”.
وحتى داخل “الجبهة الشعبية الجديدة”، لا يحظى “الانحراف الفئوي”، و”الأسلوب الفظ” لقيادة حركة “فرنسا الأبية” (ميلانشون) بالقبول، ولهذا السبب فإن زعيم “الحزب الاشتراكي” أوليفييه فور، ومارين تونديلييه من “الخضر”، وفابيان روسيل زعيم “الحزب الشيوعي الفرنسي”، متهمون بالتساهل في مواجهة هيمنة ميلانشون وحركته.
وعلى الرغم من هذه الخلافات، تسعى “الجبهة الشعبية الجديدة” للحفاظ على وحدتها الظاهرية وإدانة “الإنكار الديمقراطي” الذي مارسه ماكرون، إلى درجة أن “الحزب الاشتراكي” وافق على طلب انعقاد البرلمان من دون التصويت على الاقتراح الذي قدمه ثمانون نائبا من “الجبهة الشعبية الجديدة” (بناء على توجه حركة اليسار الراديكالي) بإقالة إيمانويل ماكرون، وفق المادة 68 من الدستور، لاتهامه بالتقصير في مهامه منذ حل الجمعية الوطنية.

 

 أ ف ب أ ف ب

رئيس الوزراء الفرنسي ميشال بارنييه بعد الاجتماع الأول لحكومته في 23 سبتمبر 

والأدهى من كل ذلك أن فشل اليسار أتاح لماكرون تعزيز استنتاجه بأن اليمين يشكل الأكثرية في البلاد، رغم أن تموضعه يجعل عملياً حزب “التجمع الوطني” اليميني المتطرف حكماً للمشهد السياسي المجزأ.
ومع تشكيل حكومة بارنييه يتبين أن اليسار غير قادر على تعطيل استراتيجية إيمانويل ماكرون العازم على المناورة لإنهاء ولايته بأي ثمن، مع المخاطرة بعدم الاستقرار وصعود قوى التطرف وإضعاف اللحمة الوطنية.
ولم تجسد حكومة بارنييه الوحدة الوطنية التي وعد بها إيمانويل ماكرون الفرنسيين، وأدت المبارزة بين المعسكر الرئاسي و”الجمهوريين” إلى تشكيل حكومة مناصفة تقريبا بين حزبي “الجمهوريين” و”النهضة” (من أهم أحزاب الماكرونية) مع استثناء مهم تمثل في تعيين ديدييه ميجو، الديمقراطي الاجتماعي في وزارة العدل.
ويضم فريق بارنييه مزيجاً من “الصقور الشباب” في الماكرونية (خاصة المقربين من رئيس الوزراء السابق غبريال أتال) والمحافظين اليمينيين من “الجمهوريين”، ولا يعبر ذلك عن توجه بارنييه فحسب، بل عن انزلاق الماكرونية يميناً بعيداً عن بدايات الرئيس الفرنسي الحالي مع “الحزب الاشتراكي” والديمقراطية الاجتماعية، والعودة لبداياته المهنية عندما شغل منصب استشاري مصرفي. لكن موقف فريق ماكرون ضد إمكانية قيام رئيس الوزراء الجديد برفع الضرائب التي تطال الأغنياء يؤشر إلى أن مواقف ماكرون تكتيكية وأيديولوجية في آن معا.

 

وعد بارنييه في خطابه الأول بالاستجابة، قدر الإمكان، للتحديات والغضب

 

 

ولن تكون مهمة ميشال بارنييه السياسي المحنك، من دون عقبات. فحكومته ذات أكثرية هشة وسيخضع دوما لخطر نقض الثقة فيه. وقد سارع اليساري المتشدد جان- لوك ميلانشون إلى اعتبار الحكومة الجديدة “بلا شرعية وبلا مستقبل”، بينما اعتبرت مارين لوبان زعيمة حزب “التجمع الوطني” أن حكومة بارنييه لا تعبر عن أي نية في التغيير.

وفي المقابل، وعد بارنييه في خطابه الأول بالاستجابة، قدر الإمكان، للتحديات والغضب. وحدد أولوياته كما يلي: “تأمين الوصول إلى الخدمات العامة والأمن اليومي ومراقبة الهجرة”.

وأقر ميشال بارنييه بأنه ستكون هناك “تغييرات وتمزقات”، لكنه بدا واثقا من نفسه ومن مهاراته التفاوضية وخبراته وسط انقسام عميق.
بيد أنه من الأرجح أن تتعرض الحكومة الجديدة إلى خضات واهتزازات نظراً لمعارضة اليسار لما يصفه بالحكومة “الأكثر رجعية في تاريخ الجمهورية الخامسة”، ووجود تهديد دائم لها من مارين لوبان وحزبها.
وفي ظل مشهد سياسي مليء بالتناقضات وصعود التطرف، سيكون من الصعب تمرير الإصلاحات أو مراجعة بعض القوانين مثل التقاعد والهجرة، وسيكون أول اختبار حول ميزانية 2025 في الوقت الذي تتعرض فيه فرنسا لضغوط من المفوضية الأوروبية وأسواق السندات لخفض العجز.
ولا تقتصر الصعوبات على الميدانين الاقتصادي والسياسي في موازاة حقبة التوتر والتنافسية أوروبيا وعالميا، وستقع على عاتق ماكرون وحكومة بارنييه مهام جسام لمنع سقوط فرنسا في التخبط ودخولها أزمة بنيوية.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M