الازدهار الجماعي والديناميكية الاقتصادية

تشكلت الاقتصادات الحديثة في البلدان التي ظهرت فيها القيم الحديثة. وكانت هذه الاقتصادات مدفوعة، في جوهرها، بالتقدير الذاتي لشعب حديث وحدسه وخياله، ومعظمهم أناس عاديون، كما أحب أن أصفهم، منخرطون في مجالات عمل متنوعة. وتلك البلدان عالية الديناميكية لم تحقق معدلات أعلى من الابتكار وحسب، لكنها حققت…

بقلم: إدموند فيلبس

استعادة القيم الحديثة يمكن أن يعكس مسار تباطؤ الابتكار وثماره

لماذا تشهد بعض البلدان ازدهارا اقتصاديا جماعيا في حين لا يفعل غيرها؟ ولماذا مر العديد من بلدان الغرب – المملكة المتحدة أولا، ثم الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا – بفترة مشهودة من الابتكار والنمو الاقتصادي والتقدم البشري بدأت حوالي عام 1890؟ ولماذا توقف الابتكار بعد حوالي عام 1970؟

إن أطروحتي، التي وضعتها من خلال كتابي الصادر في عام 2013 بعنوان “الازدهار الجماعي: كيف أدت الابتكارات الشعبية إلى استحداث فرص عمل وتحديات وتغيير”، وخضعت للفحص في تتمة عام 2020 بعنوان “الديناميكية: القيم التي تدفع الابتكار، والرضا الوظيفي، والنمو الاقتصادي”، تقول إن البلدان ذات الأداء الجيد بلغت مستويات أعلى من الديناميكية، أي رغبة شعوبها في الابتكار وقدرتها عليه. وكانت القوة الكامنة وراء هذه الديناميكية الابتكارية التي حفزت أعدادا كبيرة من الناس على تصور الابتكارات هي ظهور قيم حديثة معينة وانتشارها: المذهب الفردي، والمذهب الحيوي، والرغبة في التعبير عن الذات.

والمذهب الفردي (الذي لا ينبغي الخلط بينه وبين الأنانية) يعني رغبة الفرد في اكتساب بعض الاستقلالية واختيار المسار الذي يروقه. ويمكن إرجاعه إلى عصر النهضة. ففي القرن الخامس عشر، أعرب الفيلسوف الإيطالي جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا عن رأيه بأنه إذا كان الله قد خلق الإنسان في صورته، فلا بد أنه قد وضع فيه درجة ما من قدرته الخلاقة. وبعبارة أخرى، استشعر بيكو نوعا من الفردية في تطوير الإنسان لذاته. وكان مارتن لوثر قد نشر روح المذهب الفردي في عصر الإصلاح البروتستانتي حينما دعا إلى قراءة الناس للإنجيل وتفسيره لأنفسهم. وكان من المفكرين الآخرين المناصرين للمذهب الفردي رالف والدو إمرسون، بمفهومه عن الاعتماد على الذات، وجورج إليوت الذي جسد روح كسر الأعراف.

والفكرة في المذهب الحيوي هو الشعور بأننا أحياء حينما نبادر و”نعمل على العالم”، وهو المصطلح الذي استخدمه جورج فيلهلم فريدريش هيغل، الفيلسوف الألماني، للاستمتاع بالاستكشاف والمغامرة في عالم المجهول. وانتقلت روح الحيوية من إيطاليا مرورا بفرنسا وإسبانيا، ثم بعد ذلك بريطانيا، أثناء عصر الاكتشاف من القرن الخامس عشر وحتى القرن السابع عشر. ونجد هذه الروح في عمل النحات العظيم بنفينوتو سيليني، في حماسه للمنافسة؛ وفي رواية “دون كيشوت” التي كتبها ثيربانتس، حينما ظل بطلها سانشو بانثا في مكانه دون مواجهة أي تحديات، ووصل به الأمر إلى الهلوسة فتخيل أمامه عقبات لكي يشعر بالرضا وتحقيق الذات؛ ثم نجدها بعد ذلك في فكر الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون الذي تصور أناسا مفعمين بالطاقة من تيارات الحياة فينغمسون في مشروعات مليئة بالتحديات ويحولون أنفسهم في عملية من “التغير”.

وأخيرا، التعبير عن الذات هو المتعة التي تنبع من إطلاق العنان لخيالنا وإبداعنا، فنجهر بأفكارنا أو نعرض مواهبنا. ومن خلال الإلهام الذي يطلق عنان التخيل وإبداع طريقة جديدة أو شيء جديد، يمكن للمرء أن يكشف عن جزء من هويته.

القيم الحديثة

تشكلت الاقتصادات الحديثة في البلدان التي ظهرت فيها القيم الحديثة. وكانت هذه الاقتصادات مدفوعة، في جوهرها، بالتقدير الذاتي لشعب حديث وحدسه وخياله، ومعظمهم أناس عاديون، كما أحب أن أصفهم، منخرطون في مجالات عمل متنوعة. وتلك البلدان عالية الديناميكية لم تحقق معدلات أعلى من الابتكار وحسب، لكنها حققت أيضا معدلات أعلى من الرضا الوظيفي والسعادة المرتبطيْن بالمكافآت غير المالية مثل الشعور بالإنجاز، وإطلاق عنان الخيال لابتكار أشياء جديدة، والتغلب على التحديات. وكانت هذه البلدان هي التي ساعدت على الازدهار الجماعي.

وعلى العكس من ذلك، كانت الديناميكية نادرة والابتكار والرضا الوظيفي أقل وفرة في المجتمعات التي سادت فيها القيم التقليدية، مثل النزعة التوافقية، والخوف من المخاطرة، وخدمة الآخرين، والتركيز على المكاسب المادية بدلا من اكتساب الخبرات.

فهل من أدلة تدعم نظريتي؟ تكشف عمليات حساب الديناميكية، التي أجراها أحد المؤلفين المشاركين معي في هذا العمل، وهو رايتشو بوجيلوف، أن الابتكار كان وفيرا بشكل متسق في بعض البلدان وهزيلا بشكل متسق في بعضها الآخر على مدار قرن تقريبا. وخلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي اتسمت بارتفاع معدل الابتكار (مقارنة بفترة الابتكار التاريخية من سبعينات القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى)، ارتفعت معدلات الابتكار الداخلي إلى مستويات مبهرة في الولايات المتحدة (1,02) والمملكة المتحدة (0.76) وفنلندا (0,55)، لكنها كانت منخفضة على نحو لافت للانتباه في ألمانيا (0,42) وإيطاليا (0,40) وفرنسا (0,32).

ويتبين من تحليل تناول 20 بلدا عضوا في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، أجراه مؤلف آخر مشارك في هذا العمل هو غيلفي زويغا، أن البلدان التي تمتلك شعوبها جرعات قوية للغاية من القيم الحديثة، مثل الولايات المتحدة وأيرلندا وأستراليا والدانمرك، وبقدر أقل في بلدان مثل سويسرا والنمسا والمملكة المتحدة وفنلندا وإيطاليا، حققت معدلات مرتفعة نسبيا من الابتكار الداخلي، على نحو ما تتوقعه النظرية.

وعلاوة على ذلك، تبينت أهمية القيم من خلال الاستقصاء الإحصائي الذي أجراه زويغا. ويخلُص إلى أن الثقة ليست هي كل ما في الأمر – وهي قيمة ليست حديثة أو تقليدية، على ما أظن – وإنما كذلك “الرغبة في المبادرة، والرغبة في الإنجاز في العمل، وتعليم الأطفال الاستقلالية، وقبول المنافسة، تساهم كلها مساهمة إيجابية في الأداء الاقتصادي… قياسا بنمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج، والرضا الوظيفي، ومشاركة الذكور في القوى العاملة، والوظائف”. غير أن تعليم الأطفال الطاعة خفض مستوى الأداء الاقتصادي.

ولسوء الحظ، فإن فترة النمو الملحوظ تباطأت منذ ذلك الوقت. فالنمو التراكمي للإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في الولايات المتحدة على مدار فترات بلغت 20 عاما ارتفع من 0,381 خلال الفترة من 1919–1939 إلى 0,446 في الفترة من 1950- 1970، ثم انخفض إلى 0,243 في 1970– 1990 وإلى 0,302 في الفترة من 1990–2010، كما يتبين من حسابات بوجيلوف.

وتباطؤ الابتكار والنمو لا يعني أن الابتكار كان غائبا منذ سبعينات القرن العشرين – فقد حدثت تطورات خارقة في مجال الذكاء الاصطناعي والسيارات الكهربائية، على سبيل المثال. غير أن معظم هذه الابتكارات تأتي من منطقة “سيليكون فالي” عالية التقنية في كاليفورنيا، وهي تشكل جزءا صغيرا من الاقتصاد. وقد علق مؤخرا دارون أسيموغلو، الاقتصادي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بقوله إن الذكاء الاصطناعي لن يضيف أكثر من 1% إلى الناتج الاقتصادي للولايات المتحدة على مدى العقد القادم.

ضياع الابتكار

إن التكاليف الاقتصادية التي يتكبدها الغرب بسبب ضياع الابتكار هي تكاليف باهظة. وما أسفر عنه ذلك من شبه ركود في معدلات الأجور يزعج العاملين الذين نشأوا على الاعتقاد بأن أجورهم ستزداد بما يكفي لينعموا بمستوى معيشة أفضل حالا من آبائهم. ومع تناقص عائدات الاستثمارات الرأسمالية التي لم يعد هناك تقدم تقني هائل يوازنها، واجه كثير من محاولات تكوين رأس المال عوامل مثبطة له. ومع تدني أسعار الفائدة الحقيقية إلى مستويات أقل، ارتفع سعر كثير من الأصول، مثل المساكن، دون توقف من حوالي عام 1973 حتى عام 2019، فلم يقدر على سكناها سوى عدد من الناس أقل من أي وقت مضى.

وكانت التكاليف الاجتماعية باهظة كذلك. ويتبين من بيانات الأسر المعيشية في المسح الاجتماعي العام أن الرضا الوظيفي في الولايات المتحدة، كما جاء في التقارير، أخذ ينخفض منذ عام 1972. ويعرض كتاب آن كيس وأنغوس ديتون بعنوان “Deaths of Despair” (الموت يأسا) بيانات تعكس تفشي اليأس في أمريكا، وارتباطه بالتنمية الاقتصادية.

وأعتقد أن تراجع الابتكار وثماره بقدر كبير يرجع إلى تدهور تلك القيم الحديثة التي تحفز ديناميكية الناس. وقد ذكرت في كتابي “Mass Flourising” (الازدهار الجماعي) أن الصعود المروع الذي شهدته “ثقافة المال” وهو المصطلح الذي استخدمه الفيلسوف الأمريكي جون ديوي، قد يضعف ديناميكية البلاد.

وأشعر بالتفاؤل إزاء اهتمام آخرين بتطوير أفكاري عن استعادة الديناميكية الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، ميليسا كيرني، مدير مجموعة أسبن للاستراتيجيات الاقتصادية (Aspen Economic StrategyGroup)، حولت اتجاه تركيز هذه المجموعة من الصلابة إلى تقوية الديناميكية.

وسيكون من الصعب استعادة هذه القيم وعكس مسار تباطؤ الابتكار. وعلى خبراء الاقتصاد تصميم اقتصاد عالي الديناميكية يشهد الناس فيه ازدهارا جماعيا بدءا من القاعدة العريضة للشعوب.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M