تعتبر انتخابات 2024 الرئاسية واحدة من أكثر الاستحقاقات مصيرية على الإطلاق في تونس، إذ إنها ستجرى على قاعدة الاستقطاب الثنائي، مثلما كان الحال في كل الانتخابات السابقة، لكن مع اختلاف جوهري ومفصلي وخطير هذه المرة، يتمثل في طبيعة هذا الاستقطاب بالنظر إلى أن الفوز بالرئاسة يعني إما بقاء منظومة الحكم القائمة، التي هندسها وشكّلها ويقودها الرئيس قيس سعيد بدستورها ومؤسساتها الوليدة، أو رحيلها في صورة صعود أي من المنافسين الاثنين الآخرين.
هذا الرهان لخصه الرئيس الحالي والمترشح قيس سعيد في تصريح شاف وكاف، عندما وصف الانتخابات بمعركة “بقاء أو فناء”.
توجه المعارضة إلى المترشح الرئاسي قيس سعيد اتهامات بتوظيف أجهزة الدولة، كالهيئة المكلفة بالانتخابات والبرلمان والقضاء والأمن لحسم السباق قبل انطلاقه، دون أية مراعاة للأعراف السياسية والقواعد والضوابط الضامنة لسلامة العملية الانتخابية.
إلا أن ما تسميه المعارضة بالانحرافات، مباح وضروري من منظور داعمي الرئيس سعيد، الذين يستندون في ذلك إلى الظرفية الخاصة جدا لهذه الانتخابات الاستثنائية، إذ إنها تجرى في سياق “حرب تحرير وطني” يطغى عليه النفَس الثوري، ولا قيمة في مثل هذه السياقات، ولا أهمية ولا اعتبار للمسائل الشكلية، وحتى القانونية والدستورية.
هكذا أصبح سعيد الطرف الأقوى
يدور الصراع في الانتخابات الرئاسية التونسية بين منظومتين، الأولى يمثلها رئيس الجمهورية قيس سعيد، والثانية تضم مختلف معارضيه من مختلف التيارات السياسية الرافضين لحكمه، والطامحين لإعادة المسار الديمقراطي، والذين يصفهم سعيد بـ”الخونة والعملاء والماسونيين والفاسدين”.
والمترشح قيس سعيد، هو أستاذ القانون الدستوري، ويبلغ من العمر 66 عاما، وكان قد دخل السلطة في انتخابات 2019 الرئاسية كمستقل، وبشرعية انتخابية تاريخية تجاوزت 70 في المئة من أصوات الناخبين.
وبعد أقل من نصف العهدة الرئاسية الخماسية، تحول قيس سعيد من رئيس محدود الصلاحيات وفق دستور 2014 في نظام برلماني معدل، إلى رئيس بصلاحيات واسعة في نظام رئاسي مطلق في دستور 2022 الذي طرحه على الاستفتاء الشعبي خلال العام نفسه.
جاءت هذه التغييرات الشاملة من رحم إجراءات 25 يوليو/تموز 2021 المعلنة من قبل الرئيس قيس سعيد، والمدعومة من المؤسسة العسكرية، خلال فترة صعبة مرت بها البلاد مع تفشي “جائحة كوفيد” التي أودت بحياة أكثر من 20 ألف شخص وسط تراخ حكومي خطير.
كانت البلاد آنذاك تحت حكم تقوده حركة النهضة الإسلامية صاحبة الأغلبية البرلمانية، والني كانت في أضعف حالاتها خارجيا وداخليا. تصدرت النهضة السلطة طيلة عشرية الانتقال الديمقراطي، ولم تكن خلالها الأجندة الوطنية ذات أهمية أمام الأجندة الإقليمية، وعلت أولويات الحزب على أولويات ونواميس المصلحة الفضلى للدولة، كانت الحصيلة فشلا ذريعا في إدارة البلاد إلى حد بلوغها شفا الإفلاس والانهيار.
دخلت البلاد مرحلة انتقالية جديدة سماها الرئيس سعيد “مرحلة تصحيح مسار الثورة” ومحاسبة كل “من أجرم ونهب المال العام”
على المستوى التنظيمي، شهدت الحركة مباشرة بعد انتخابات 2019 التي صعّدت زعيمها إلى رئاسة البرلمان، انقساما داخليا محوره اختلافات عميقة حول منح راشد الغنوشي أحقية التمديد لولاية جديدة كرئيس للحركة، كما تزامنت هذه الأزمة مع غضب القواعد نتيجة تأخر صرف التعويضات من المال العام، التي أقرها مسار أعرج للعدالة الانتقالية.
حددت حصيلة حكم “النهضة” وأزمتها الداخلية واقع البلاد ومستقبلها بشكل لم يكن يتوقعه أحد. فقد منحت تأييدا شعبيا واضحا لقرارات رئيس الجمهورية قيس سعيد يوم 25 يوليو 2021، تلك القرارات التي وصفها معارضوه بـ”الانقلابية”.
دخلت البلاد مرحلة انتقالية جديدة سماها الرئيس سعيد “مرحلة تصحيح مسار الثورة” ومحاسبة كل “من أجرم ونهب المال العام”.
تستند سياسة سعيد حول محاولة إنعاش الشركات المملوكة للدولة، بالتوازي مع إعادة تشكيل نخبة اقتصادية جديدة في قطاع خاص نواته الشركات الأهلية، وإنهاء الاقتراض من صندوق النقد الدولي، ولكن دون بدائل واضحة باستثناء استرجاع الأموال المنهوبة في الخارج مع إصدار قانون “الصلح الجزائي” الذي يقدر سعيد أنه سيمكن من تعبئة 13.7 مليار دينار من صفقات تسوية مع رجال أعمال فاسدين (460 رجل أعمال حسب تقديرات سعيد).
وتتالت “الإجراءات التصحيحية” التي يصفها أيضا أنصار الرئيس بأنها فضحت فضائح وفظائع عشرية الخراب أو العشرية السوداء- مثلما يسميها- في إشارة إلى فترة حكم حركة النهضة، فيما يتهمه معارضوه بالتنكيل بالمعارضين حتى أصبحت الساحة السياسية بلا منافس.
مرشح مشروع إصلاحي
يواجه قيس سعيد في انتخابات 6 أكتوبر/تشرين الأول، المترشح زهير المغزاوي (59 سنة) أستاذ الرياضيات، وأمين عام حزب “حركة الشعب”، وبرلماني سابق، ومناضل نقابي في عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
وكان المغزاوي وحزبه من أهم مساندي الرئيس حتى أسابيع قليلة من انطلاق الحملة الانتخابية. ويأمل المترشح القومي العربي في حشد معارضي “قيس سعيد” وهو تكتل يضم أهم كتلتين سياسيتين تاريخيتين في البلاد، وهما كتلتا الإسلاميين والتجمعيين.
حوصر المغزاوي بمواقفه المساندة لسعيد بلا تحفظ طيلة سنوات العهدة الرئاسية الخمسة، وبمواقفه المتذبذبة، فهو وحزبه من المعارضين الراديكاليين لحركة “النهضة”
فاجأ المغزاوي المتابعين للمشهد الانتخابي، بخطابه الحاد تجاه منافسه قيس سعيد، ومن كم الاتهامات الخطيرة التي وجهها له مع بداية الحملة. لكن هذا الخطاب وتعهدات الإصلاح والإفراج عن الموقوفين السياسيين، واستئناف المسار الديمقراطي، فشلت في توسيع دائرة المساندين أو في إحداث ديناميكية تخرجه من مرشح حزب إلى “مرشح مشروع إصلاحي”.
حوصر المغزاوي بمواقفه المساندة لسعيد بلا تحفظ طيلة سنوات العهدة الرئاسية الخمسة، وبمواقفه المتذبذبة، فهو وحزبه من المعارضين الراديكاليين لحركة “النهضة”، لكن هذه المعارضة لم تمنعه من مشاركتها الحكم في حكومة الفخفاخ.
رجل أعمال وسياسي في الوقت ذاته؟
برز في المقابل المترشح الثالث والأخير، العياشي زمال، أصغرهم سنا (47 عاما)، المهندس الوافد حديثا على عالم السياسة، والتي دخلها نهاية عام 2019 بعد أن اختير لرئاسة قائمة حزب “تحيا تونس” في الانتخابات التشريعية وفق معيار “الوجاهة الجهوية” باعتباره أحد أهم رجال أعمال محافظة سليانة (شمال غربي البلاد).
في عالم المال والأعمال، يعتبر زمال قصة نجاح حقيقية لمهندس طور مشروعا فلاحيا عائليا، وحوله إلى مجمع له صيت في الخارج، لكن من سوء حظ زمال أنه جاء في لحظتين غير ملائمتين لتحقيق طموحات سياسية، تضاف لنجاحه المهني الهام، الأولى هي ذكرى التجارب الفاشلة لكل رجال الأعمال مع السياسة. أما اللحظة الثانية فهي اختياره الترشح في فترة أصبح فيها كل صاحب ثروة موصوما بالفساد إلى أن يثبت العكس.
رمزي الجبابلي، مدير الحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي المسجون العياشي زمال، يعلن عن انطلاق الحملة الانتخابية في 16 سبتمبر 2024 في تونس
لكن زمال المترشح بلا تاريخ سياسي أو نضالي، تحول إلى بديل ممكن بعد إفراغ الساحة السياسية من كل المتنافسين تقريبا، كما أصبح الخيار الأفضل لمختلف مجموعات معارضي قيس سعيد، مستفيدا من نقاط ضعفه، وهي انعدام التجربة السياسية، التي جعلت منه شخصية لها مقبولية من مختلف التيارات، عكس منافسه على الخزان نفسه زهير المغزاوي.
هذا البديل الممكن في السجن، بعد استصدار بطاقة إيداع في شأنه قبل أيام من انطلاق الحملة الانتخابية، وصدرت في شأنه بشكل متتال عدة بطاقات إيداع بالسجن وصلت إلى 12 عاما في قضايا تتعلق بجرائم انتخابية.
زمال المترشح بلا تاريخ سياسي أو نضالي، تحول إلى بديل ممكن بعد إفراغ الساحة السياسية من كل المتنافسين تقريبا، كما أصبح الخيار الأفضل لمختلف مجموعات معارضي قيس سعيد
وجهت للزمال تهم تدليس تزكيات شعبية، وهو منذ أيام يجوب البلاد من محكمة إلى أخرى، وتصدر فيه مرة بعد أخرى أحكام بسرعة قياسية، يقول محاموه إنها “تهدف إلى تسريع إصدار أحكام نهائية تمكن من إسقاط الأصوات التي قد يتحصل عليها في الانتخابات الرئاسية”.
واستنادا إلى ذلك، يبدو المترشح قيس سعيد في طريق مفتوح للفوز بعهدة خماسية ثانية تحمل شعارات “البناء والتشييد، والسيادة الوطنية والتعويل على الذات، ولا عودة إلى الوراء”. وهي شعارات تجد رواجا إلى حد اليوم في صفوف مسانديه وأنصاره بحثا عن التغيير وعن عدالة اجتماعية حقيقية، وتساوي الفرص، وأيضا رفضا لطبقة سياسية تحمل مسؤولية الانهيار الذي بلغته البلاد.
انتخابات 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 تختلف عن كل سابقاتها من حيث السياقات والمناخات، وقد تفتح باب المجهول مع بدء الإعداد لحملة عدم اعتراف بالفائز فيها، وتشكيك مسبق في نتائجها، وسيكون قيس سعيد أمام امتحان نسبة المشاركة بعد فشل ذريع في كل الاستحقاقات الانتخابية التي عرفتها البلاد بعد 25 يوليو 2021، نتيجة نجاح حملات المقاطعة.
هذه هي انتخابات الكواليس والأروقة بامتياز، ستجرى تحت طبول الحرب، وتهديد كل منظومة بالمحاسبة في صورة الفوز بهذا السباق، بعد أن خرج الصراع عن أطره المؤسساتية بشكل أصبح يثير مخاوف المتابعين، لا سيما مع الحملات المكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تجاوزت كل الحدود والخطوط الحمراء.