خطة الخداع الاستراتيجي في حرب أكتوبر 1973: عبقرية التخطيط ودقة التنفيذ

تُعرف خطط “الخداع الاستراتيجي” في العلوم العسكرية على أنها “مجموعة الإجراءات والأنشطة المنسقة والمخطط لها بعناية بالغة، بغية إخفاء التفاصيل الخاصة بالاستعدادات الجارية لشن هجوم مرتقب، والتي قد يؤثر اطّلاع العدو عليها، في مجريات الحرب بصفة عامة”. تشمل هذه الإجراءات طائفة واسعة من الإجراءات التي لا تشمل فقط الجانب التعبوي أو التكتيكي، بل تشمل أيضًا الجوانب السياسية والاقتصادية والإعلامية المرتبطة بعمليات التجهيز لبدء الهجوم المرتقب، وهذا كله بهدف أساسي وهو منع الأجهزة الاستخباراتية والمعلوماتية المعادية من التقدير الصحيح للموقف الاستراتيجي والتكتيكي، وتوجيه تقديراتها وجهودها نحو اتجاهات زائفة؛ تؤدي إلى قرارات ميدانية واستراتيجية تصب في صالح القوات الصديقة.

في هذا الصدد، من الجائز اعتبار تحقيق عامل المفاجأة والمباغتة أحد أهم العناصر الأساسية التي راعتها القيادة السياسية والعسكرية المصرية، خلال عملية التخطيط والإعداد للعمليات الهجومية المصرية في حرب 6 أكتوبر 1973. وقد أثبتت وقائع المعارك الميدانية وحالة “التخبط” و”التوتر” التي شابت القيادة العسكرية الإسرائيلية في الأيام الأولى لبدء القتال أن تحقيق هذا العامل قد تم بطريقة احترافية، وأن “خطة الخداع الاستراتيجي” التي اتبعتها القيادة المصرية لتأمين سرية الاستعدادات المضنية لبدء معركة التحرير شكلت نقطة ترجيح أساسية حسمت نتيجة الحرب، ومثلت نقطة مضيئة متميزة في التاريخ العسكري على المستويات كافة.

بدأ التحضير لبنود وعناصر خطة الخداع الاستراتيجي –المكملة للخطة الهجومية العامة – منتصف مايو 1971، حين أصدرت القيادة السياسية المصرية قرارًا بتعيين المشير “أحمد إسماعيل” رئيسًا لجهاز المخابرات العامة، مع تكليفه بإعداد خطة الخداع الاستراتيجي بشقيها المدني والعسكري، وهو ما شرع فيه “إسماعيل” بشكل فوري، بالتعاون مع جهاز المخابرات الحربية وهيئة العمليات بالقوات المسلحة، حيث تولى فرع التخطيط في الهيئة مهمة التنسيق مع المخابرات العامة والمخابرات الحربية لإعداد البنود النهائية لهذه الخطة، ومن ثَمّ تم بحث الشكل الأولي لخطة الخداع الاستراتيجي خلال اجتماع عقده الرئيس الراحل “أنور السادات” أوائل يوليو 1972 في مقر المخابرات العامة، بحضور القيادات العسكرية العليا، ورئيس المخابرات الحربية، وقادة الأقسام الرئيسية بجهاز المخابرات العامة.

في هذا الاجتماع، شدد “السادات” على أهمية خطة الخداع الاستراتيجي، كوسيلة أساسية للتغلب على آثار الخلل في التوازن العسكري والعلمي والتكنولوجي بين مصر وإسرائيل، وكذا على ضرورة ضمان تأمين السرية الكاملة لكل ما يتعلق بأي عملية هجومية مصرية محتملة، نظرًا لوجود خطط إسرائيلية جاهزة ومعدة مسبقًا، لتنفيذ ضربات إجهاضية على القطاعات العسكرية المصرية في حالة استشعار احتمالية تنفيذ مصر لعمليات هجومية نحو شرق قناة السويس.

وقد اعتمدت خطة الخداع الاستراتيجي المصرية في جوهرها، على المزج بين جهود الأجهزة التنفيذية للدولة المصرية كافة، وعلى رأسها وزارات الإعلام والخارجية والحربية قبل بدء العمليات العسكرية الفعلية بنحو ستة أشهر، على أن تتماشى هذه الجهود مع إجراءات الخداع العسكرية لتنفيذ مجموعة من الأعمال والتصريحات والتحركات والمبادرات التي تهدف في أساسها إلى تحقيق هدفين أساسيين؛ الأول: هو حجب الاستعداد المصري العسكري للقيام بعمليات هجومية، وإعطاء انطباع أن العكس هو ما يحدث، وأن مصر لن تحارب في المدى المنظور. والثاني: هو إخفاء الموعد الدقيق لبدء الهجوم المصري السوري لأطول فترة ممكنة لتفادي إجهاض الاستعدادات المصرية والسورية وفقدان عنصر المفاجأة الذي يعتبر في مثل هذه العمليات الهجومية عاملًا حاسمًا في تحديد النتيجة النهائية للمواجهة الميدانية.

التنفيذ الفعلي لهذه الخطة بدأ عمليًا في 26 من أكتوبر 1972، بتعيين “إسماعيل” وزيرًا للحربية، وهو ما شكل نقطة انطلاق مسارات تنفيذ هذه الخطة، التي تضمنت إجراءات تتعلق بالجانب السياسي، وأخرى تتعلق بالجانب الإعلامي والجبهة الداخلية، بجانب البنود المرتبطة بالجانب العسكري، وعلى رأسها مسألة تحديد توقيت بدء العمليات القتالية، وهي مسألة تتسم -على عكس الاعتقاد السائد- بأكبر قدر من الخطورة والتعقيد، وكان التوفيق فيها بمثابة عامل ترجيح أساسي، مكن القوات المصرية والسورية من تحقيق عامل المفاجأة والمباغتة بشكل باهر، انعكس على المجريات الميدانية والنتائج العامة للعمليات القتالية في ما بعد.

كان من أهم السمات التي اتسمت بها خطة الخداع الاستراتيجي المصرية هو انخراط المستوى السياسي الأعلى في مصر ممثلًا في السادات في تنفيذ بنودها، بجانب كل الجهات التنفيذية الحكومية، حيث حرص “السادات” على تصدير صورة للعالم تحمل في ملامحها “تناقضًا” يوحي بأن الخيارات المصرية الاستراتيجية لا تشمل أي عمل عسكري نحو شرق القناة، وأن كل التحركات العسكرية المصرية موجهة بشكل رئيسي لاتخاذ مواقف دفاعية محضة.

هذه “الرؤية المتناقضة” التي تعمدت القيادة السياسية المصرية تصديرها لصانع القرار الإسرائيلي، بدأت عمليًا عبر سلسلة من التصريحات عالية السقف، كان أبرزها ما قاله “السادات”، خلال لقائه بضباط القوات البحرية في قاعدة أبي قير البحرية في 22 من يونيو 1971: “إنني أقول لكم ولشعبنا بكل أمانة ووضوح إن سنة 1971 هي سنة حاسمة، ولا يمكن أن يطول انتظارنا إلى الأبد، فلنكن دائمًا مستعدين”. عاد “السادات” في العام التالي، وتحديدًا في 13 من يناير 1972، ليلمح لمعنى مناقض تمامًا لما أوحى به في الإسكندرية، حيث قال في خطاب أمام مجلس الشعب: “أنا قلت إن عام 71 عام الحسم، وتعليماتي للقائد العام الفريق الأول صادق كانت جاهزة، واتنفذت إلى آخر مرحلة، وقفت زي ما حكيت لكم بسبب الضباب اللي حصل، لأن الضباب ده مماثل لضباب يوم الأحد 9 يوليو سنة 67، بس حصل في جنوب شرق آسيا هناك، والاتحاد السوفيتي صديقي اللي واقف معايا، كان في هذه المعركة”. أسهم هذا التناقض، بجانب نشوء حالة من الغضب في الأوساط الطلابية المصرية، بدءًا من 15 يناير 1972، في خطة الخداع الاستراتيجي المصرية، وأكد على حالة “عدم الرغبة المصرية في القتال”، التي أرادت القاهرة تصديرها لتل أبيب.

وقد دعم “السادات” هذا التوجه، عبر إصداره قرار رئاسي في مصر في 17 يوليو 1972 -بعد نحو عام من توقيعه معاهدة الصداقة مع الاتحاد السوفيتي- بإنهاء وجود نحو 20 ألف خبير عسكري سوفيتي، وهو ما أرسل إشارة أولية إلى تل أبيب، بأن الخلافات بين القاهرة وموسكو حول التسليح قد بلغت ذروتها، وأن انخراط الاتحاد السوفيتي في ذلك التوقيت مع الولايات المتحدة الأمريكية في مباحثات حول الانفراج الدولي قد قلل بشكل كبير من هامش الحركة العسكرية المتاح للقاهرة، بشكل جعلها تتراجع بشكل كامل عن أي نوايا لتحريك الموقف العسكري على الجبهة.

امتدت عملية التمويه والخداع المصرية إلى أنشطة وتحركات الدبلوماسيين والوزراء وكبار الشخصيات قبيل بدء العمليات العسكرية مباشرة، فبالإضافة إلى سفر وزير الخارجية المصري إلى الولايات المتحدة الأمريكية، سافر وزير المالية والاقتصاد “عبد العزيز حجازي” إلى بريطانيا، ووزير النقل والمواصلات “الحسيني عبد اللطيف” إلى إسبانيا، وتم الإعلان عن دخول قرينة وزير الحربية أحد مستشفيات العاصمة البريطانية لإجراء جراحة عاجلة لها، وشرعت السفارات المصرية في الخارج إلى إبراز عدم جاهزية مصر في ذلك الوقت لخوض أي حرب.

على المستوى الداخلي، كان من الضروري العمل ضمن خطة الخداع الاستراتيجي على مسارين أساسيين؛ الأول: هو تجهيز الجبهة الداخلية للإيفاء بمتطلبات بدء العمليات الهجومية في الجبهة، والثاني: هو دعم الجوانب الأخرى المتضمنة في خطة الخداع الاستراتيجي. كان من الضروري إخلاء عدد من المستشفيات وإعدادها لاستقبال الجرحى الذين سيتوافدون مع بداية المعركة، وهذا يعتبر من أهم مبادئ الإعداد للحرب، ولما كان إجراء بمثل هذه الضخامة سيثير بالتأكيد شك المخابرات الإسرائيلية، كان لزامًا على المخطط العسكري المصري أن يوجد حلًا يسمح بإخلاء عدد المستشفيات المطلوب بدون إثارة أدنى شك.

لتحقيق ذلك، تم إعداد خطة محكمة تم بموجبها تسريح أحد الضباط المجندين في السلاح الطبي، وإعادته إلى وظيفته السابقة في مستشفى الدمرداش التابع لجامعة عين شمس التي وقع عليها الاختيار لكبر حجمها لتكون في أول قائمة المستشفيات. حسب الخطة، اكتشف الطبيب بعد وصوله إلى المستشفى أن ميكروب التيتانوس يلوث العنابر الرئيسية للمرضى، ولأن هذا الطبيب كان قلقًا من هذا الميكروب الذي يهدد حياة المرضى، أرسل عددًا من الرسائل لوزارة الصحة، وعليه أمرت وزارة الصحة بإخلاء المستشفى من المرضى تمامًا وتطهيره، وتم تكليف الطبيب بالمرور على بقية المستشفيات لاستكشاف درجة تلوثها، وقد قامت الصحف بنشر التحقيقات الصحفية حول المستشفيات الملوثة ونشر الصور وعمال التطهير وهم يرشون المبيدات الخاصة بالتطهير في عنابر المستشفيات. أدت هذه الخطة، إلى إخلاء العدد اللازم من المستشفيات نهائيًا بحلول أول أيام شهر أكتوبر، وباتت على أتم استعداد لاستقبال الجرحى والمصابين كإجراء احتياطي مهم وحيوي للعمليات العسكرية المقبلة.

كان توفير السلع التموينية أيضًا من التحديات المهمة فيما يتعلق بعملية الاستعداد للحرب، خاصة وأن توفر مخزونات كافية من المواد الاستراتيجية، كالقمح والسكر والأرز، لا يقل أهمية عن توفر الذخائر والأسلحة للقوات المسلحة، لذا كان من الضروري استيراد وتخزين كميات كافية من هذه المواد –خاصة القمح- لصعوبة استيراده في حالة بدء العمليات العسكرية، بشرط أن تتم عمليات الاستيراد هذه، بشكل لا تقرأه أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، على أنه مؤشر لقرب بدء العمليات العسكرية. لتحقيق هذا الأمر، سرب جهاز المخابرات العامة معلومات بأن أضرارًا بالغة قد أصابت مخزونات القمح المحلية، نتيجة لعدة عوامل من بينها؛ غمر أمطار الشتاء بعض صوامع القمح، ونشوب عدة حرائق في صوامع أخرى، بجانب إصابة كميات من القمح المخزن بنوع من أنواع الفطريات، وقد حُول الأمر لفضيحة تداولتها وسائل الإعلام، واستوردت مصر على إثرها الكميات المطلوبة من القمح دون إثارة أي شبهة.

يضاف إلى ما سبق، طائفة أخرى من الإجراءات التي استهدفت دعم العمليات العسكرية، وتنفيذ خطة الخداع الاستراتيجي، من بينها توفير مضخات المياه التي سيستخدمها سلاح المهندسين لفتح الثغرات في الساتر الترابي، حيث روعي أن تتم عملية استيراد هذه المضخات بشكل لا يثير ريبة إسرائيل، فسافر مجموعة من مهندسي الزراعة والري، وضباط تابعين للدفاع المدني بشكل منفصل إلى كل من ألمانيا وبريطانيا لشراء مضخات المياه الثقيلة ومدافع إطلاق المياه الخاصة بالمطافئ، بحجة أن مصر تسعى لتأمين وسائل الري اللازمة لتنفيذ مشروع أُعلن عنه عام 1972، لزراعة 900 ألف فدان بالخضروات خلال 5 سنوات.

ارتكز المخطط العسكري المصري خلال إعداده للجانب العسكري من خطة الخداع الاستراتيجية على أوجه القصور الأساسية في نظرية الأمن الإسرائيلية، ومن أهمها الاعتماد بشكل كامل على تلقي إنذار مسبق قبل 48 ساعة لتعبئة الاحتياط، وهي نقطة جوهرية تم بناءً عليها تأسيس الجانب العسكري من خطة الخداع الاستراتيجي، والذي يشمل تمويه عمليات حشد القوات، وإعطاء انطباع دائم لدى الجانب الآخر بتراخي القوات المصرية، وعدم وجود نية للقيام بأي أعمال عسكرية، سوى ما تتطلبه المناورات ومشروعات الحرب الدورية. استفادت القاهرة بشكل كبير من طبيعة التقديرات الأساسية التي بنت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عليها تحليلاتها للنوايا المصرية.

فمنذ مطلع عام 1972، وصلت الأوساط العسكرية الإسرائيلية إلى قناعة مفادها أن مصر لن تحارب إلا في حالة تحقق شرطين أساسيين؛ الأول: هو امتلاكها مقاتلات قاذفة بعيدة المدى، تمنح لها القدرة على ضرب العمق الإسرائيلي، والثاني: هو امتلاك قدرات صاروخية بالستية، وتحديدًا صواريخ “سكود” السوفيتية. هذه القناعة تولدت نتيجة لعدة عوامل أهمها الطرح المتكرر لهذين البندين خلال الزيارات التي أجرتها القيادة السياسية المصرية، سواء الرئيس الراحل “جمال عبد الناصر”، الذي طرح على السوفييت هذه المسألة خلال زيارته لموسكو في يناير 1970، أو “السادات” الذي تناول الموضوع نفسه خلال لقائه مع الزعيم السوفيتي “ليونيد بريجينيف” في أغسطس 1972.

بناءً على هذا التقدير، اعتبرت أوساط المخابرات العسكرية الإسرائيلية أن الاستعدادات العسكرية الميدانية المصرية لا ترتبط بنوايا هجومية، بل هي جزء من التدريبات الدورية التي تنفذها القوات المصرية بشكل دوري، وهذا كان واضحًا بشكل أكبر خلال التقييم العام الذي أعدته المخابرات العسكرية الإسرائيلية في أبريل 1973، والذي أفاد أن احتمالات تنفيذ عمليات هجومية من الجانب المصري منخفضة، وأن الجانب السوري -رغم وجود مؤشرات على استعداده للقتال- لا يزال يفتقر لمكونات عسكرية أساسية. ولعل استمرار اعتماد اسرائيل على هذا التقدير أسهم فيه عدة إجراءات اتخذتها مصر على المستوى الميداني والتي استهدفت إخفاء الاستعدادات الجارية لبدء عملية العبور.

نقطة انطلاق هذه الإجراءات هو إنشاء ساتر ترابي على الضفة الغربية للقناة نهاية عام 1972، بلغت تكلفته زهاء 30 مليون جنيه. وعلى الرغم من أن الهدف الأساسي من وراء إنشاء هذا الساتر كان توفير المزيد من الحماية ضد أي هجوم اسرائيلي، لكنه في الحقيقة ساعد إلى حد كبير على إخفاء حشود المدفعية والدبابات المصرية، خاصة وأنه تم عقب إنشائه، تأسيس عدد من السواتر الرملية المماثلة في الخطوط الخلفية، وقد حققت هذه السواتر أهدافها؛ إذ جعلت الجانب الإسرائيلي يقتنع بأن الجيش المصري قد لجأ إلى استراتيجية دفاعية في حماية هذه السواتر.

عملية نقل المعدات العسكرية الثقيلة والدبابات إلى الجبهة حازت على جانب مهم من خطة الخداع العسكري، فعندما حان موعد دفع قوافل الدبابات إلى الجبهة، تم نقل ورش التصليح الرئيسية إلى الخطوط الأمامية، ثم بدأ دفع الدبابات إلى هناك في طوابير بحجة إصابتها بأعطال، وهو ما فسرته إسرائيل على أنه يعكس تدهورًا حادًا في حالة المدرعات المصرية، نتيجة نقص قطع الغيار بعد طرد الخبراء الروس، كما أسهمت هذه الخطوة في تضليل الجانب الإسرائيلي بشأن أسباب وجود أعداد كبيرة من الدبابات قرب قناة السويس. يضاف إلى ذلك ابتكار المخطط العسكري المصري لخدعة مستوحاة من “حصان طروادة“، من خلالها تم إعداد ماكيتات هيكلية ضخمة لدبابات روعي في تصميمها أن تسمح بتخزين معدات عسكرية أو دبابات حقيقية بداخلها، وهو ما سمح بوجود أعداد كبيرة من الدبابات داخل هذه الماكيتات.

أما فيما يتعلق بعملية نقل المعدات الهندسية الخاصة بعبور قناة السويس خاصة الزوارق المطاطية، فقد كانت هذه العملية معضلة كبيرة في حد ذاتها؛ لأنها تضمنت بين طياتها مسألة أساسية تتعلق بكيفية استيراد هذا العدد الكبير من الزوارق المطاطية دون لفت نظر إسرائيل. وقد تم حل هذه المسألة عن طريق نقل الزوارق المستوردة بسفن مدنية إلى ميناء الإسكندرية، ثم تم تركها ملقاة بإهمال على أحد أرصفة الميناء لمدة يومين حتى المساء في ظل إجراءات أمنية توحي بالاستهتار واللا مبالاة، ثم جاءت شاحنات تابعة للجيش ونقلت نصف الكمية إلى منطقة صحراوية قرب منطقة “حلوان”، وتم تكديسها على مرمى البصر فوق مصاطب لتبدو ضعف حجمها الأصلي، وتمت تغطيتها بشباك مهترئة تكشف منها أكثر مما تستر، فيما قامت شاحنات مدنية تحمل شعار شركة مقاولات خاصة بنقل الكمية المتبقية من الزوارق للجبهة مباشرة، وقد خبئت في باطن الماكيتات الهيكلية السالف الإشارة إليها. كانت هذه الخطة محكمة ودقيقة لدرجة أنها تضمنت نقل كباري العبور مفككة ومجزأة على عربات خاصة ليلًا فقط، كما صدرت أوامر مشددة بعدم نفخ قوارب العبور قبل بدء الضربة الجوية، لأن التجارب أثبتت أن الأصوات الناجمة عن عملية ملء هذه القوارب بالهواء يمكن أن تُسمع على مسافة 800 متر.

فيما يتعلق بقوات المشاة، لجأ المخطط العسكري المصري إلى تطوير خطة التعبئة العامة واستدعاء القوات الاحتياطية في مصر بعد قرار إيقاف نقل الجنود إلى الاحتياط الذي صدر عام 1967، وقد تضمن هذا التخطيط تسريح نحو 30 ألف جندي في يوليو 1972، والبدء في استدعاء الضباط والجنود الاحتياط بشكل دوري، وبالفعل تم عمل 22 استدعاء حتى تاريخ العبور، وكان الاستدعاء رقم 23 هو استدعاء بدء العمليات. دورية عمليات استدعاء الاحتياط خلق انطباعًا لدى إسرائيل بعدم نية الجيش المصري خوض أي معركة في الوقت الراهن. كما أن تكرار تسريب معلومات مغلوطة إلى الجانب الإسرائيلي تفيد بأن القوات المصرية ستقوم بعمل عسكري موسع في ديسمبر 1971، وأبريل 1972، ومايو وأغسطس 1973، جعل إسرائيل تعلن التعبئة العامة عدة مرات، في حين كانت القوات المصرية في حالة استرخاء تام، وهو ما مثل ضغطًا ماليًا ولوجستيًا على تل أبيب، جعلها تفكر مليًا في أي قرار مقبل للتعبئة العامة، وهو ما صب في مصلحة مصر وسوريا في أكتوبر 1973.

عمليات التدريب الخاصة بقوات العبور كانت تحتاج إلى خطة منفصلة يمكن من خلالها التضليل التدريجي للأجهزة المعلوماتية الإسرائيلية عبر تكرار المناورات التدريبية الدورية. فطوال صيف عام 1972، كانت القوات المصرية تتدرب على عبور القناة تحت سمع وبصر العدو، حيث أعد المصريون شواطئ للنزول عليها، وقام الجيش المصري مرة واحدة في عام 1973 بتمثيل عملية العبور بأقل تفاصيل ممكنة. وقد نقلت الصحف المصرية سير هذه العملية التي شهدها جنود العدو في خنادقهم على الضفة الشرقية للممر المائي. 

إن عمليات التدريب الدورية هذه تضمنت الإعلان عن تنفيذ مناورة عسكرية عام 1973 تحت اسم “تحرير 23″، خلال الفترة بين 1-7 أكتوبر، وهي عبارة عن مشروع استراتيجي تعبوي مكرر في خطة التدريب أكثر من مرة سنويًا، تتم فيه الإجراءات الهجومية الكاملة من تحرك وانفتاح للقوات، وقيامها برفع درجة الاستعداد القصوى للجيش، وإعلان حالة التأهب في المطارات والقواعد الجوية. وحقيقة الأمر أن هذه المناورة كانت غطاء لتنفيذ تحركات عسكرية مصرية عرضية داخل الجبهة استعدادًا لعملية العبور. وقد استغرق تجميع القوات المشاركة في العبور نحو 3- 4 أشهر، وذلك بدفع الوحدات في مفارز صغيرة، وتكديس الاحتياجات تباعًا في الجبهة قبل ثلاثة أسابيع من بدء الهجوم، تحت ستار القيام بأعمال هندسية خاصة بمشروع الحرب السالف ذكره.

وقد كانت الطريقة التي وزعت بها القوات المسلحة منذ سنوات على الجبهة المصرية دليلًا آخر على نجاعة خطة الخداع الاستراتيجية، حيث مكنت هذه الطريقة التدريجية من حشد العدد المطلوب من القوات، وفي الوقت نفسه عدم لفت الإنظار إلى هذا الحشد الكبير، الذي تألف من خمس فرق مشاة في النسق الأول، يليها على مسافة 25 كيلو متر فرقتان مدرعتان في النسق الثاني، وتم إعداد خطة الحرب بحيث لا تتطلب عمليات الحشد تغييرات واسعة على الأرض تسمح لوسائل الاستطلاع الجوية الإسرائيلية معرفة النوايا المصرية، حيث اعتمدت الخطة على أن تقوم فرق المشاة الخمس باقتحام قناة السويس، بحيث تهاجم كل فرقة قطاعًا معينًا يدخل ضمن حدود القطاع الذي كانت مكلفة بالدفاع عنه خلال تمركزها في الضفة الغربية للقناة، وهو أسلوب سمح للقوات المهاجمة بالاستغناء عن أي تحركات غير ضرورية كانت في حالة حدوثها لتلفت نظر الجانب الآخر.

القوات الجوية المصرية كانت في مراحل ما قبل العبور في حالة تدريب واستنفار مستمر، وقد استغلت الإعلان عن مشروع الحرب التدريبي “تحرير 23” لتبرير رفع درجة الاستعداد القصوى وإعلان حالة التأهب في جميع المطارات والقواعد الجوية المصرية، وبالتالي كانت تل أبيب ترصد تتابع خروج الطلعات الجوية المصرية في محيط المطارات المختلفة، وتقوم بإطلاق طائراتها تحسبًا لأن تكون الطلعات المصرية هجومية. لذا، كانت هذه التجربة طوال شهر سبتمبر عاملًا أساسيًا كي تعتبر قيادة سلاح الجو الإسرائيلي أن التحركات الجوية المصرية التي انطلقت ظهر الخامس من أكتوبر، كانت ضمن إطار التدريبات الجوية الدورية. وقد عزز هذا الاعتقاد، إعلان قيادة سلاح الجو المصري أن قائد السلاح سوف يسافر في مهمة عاجلة إلى ليبيا في الخامس من أكتوبر، ثم تقرر تأجيل هذه المهمة لعصر اليوم التالي، وهو الموعد الحقيقي والفعلي لبدء تنفيذ الضربة الجوية الأولى.

على مستوى القوات البحرية، ولإخفاء نيتها لإغلاق مضيق باب المندب مع بدء العمليات العسكرية، نُشر خبر صغير في سبتمبر 1973 عن توجه ثلاث قطع بحرية مصرية إلى أحد الموانئ الباكستانية لإجراء العمرات وأعمال الصيانة الدورية لها، وبالفعل تحركت القطع الثلاث إلى ميناء عدن، وهناك أمضت أسبوعًا ثم صدر لها الأمر بالتوجه إلى أحد الموانئ الصومالية في زيارة رسمية استغرقت أسبوعًا آخر، ثم عادت القطع الثلاث من جديد إلى عدن، وهناك جاءتهم الإشارة الكودية مساء 5 أكتوبر 1973 بالتوجه إلى مواقع محددة لها عند مضيق باب المندب في سرية تامة، عند نقط تسمح لها بمتابعة حركة جميع السفن العابرة في البحر الأحمر راداريًا وتفتيشها ومنع السفن الإسرائيلية من عبور المضيق.

لقد كان تحديد يوم (ي) أي “ساعة الصفر” عملًا علميًا على مستوى رفيع، وقد مثل في حد ذاته حدثًا فريدًا في التاريخ العلمي للحروب كنموذج من نماذج الدقة المتناهية. فقد كان اختيار أنسب التوقيتات لتنفيذ العملية الهجومية من أهم العوامل التي أسهمت في تحقيق المفاجأة الكاملة، والواقع أن هذا الاختيار لم يكن من السهل بمكان، حيث كان من الضروري اختيار الشهر واليوم والتوقيت المناسبين لبدء الهجوم.

لتنفيذ هذه الاختيارات بشكل فعال، أجرت القيادة العسكرية المصرية دراسات مستفيضة، ناقشت المواعيد المحتملة لتنفيذ العبور، والتي يجب أن تستوفي شرطين أساسيين؛ الأول: هو أن تتوافق الظروف الجوية والأحوال الجومائية والهيدروغرافية المتوقعة فيها مع العمليات الهجومية في كلا الجبهتين في الوقت نفسه، والثاني: هو أن يكون الموعد المختار متوافقًا مع خطة الخداع الاستراتيجي، بحيث يؤدى هذا في المجمل إلى إنجاح عملية العبور والاحتفاظ في الوقت نفسه بفاعلية عامل المفاجأة حتى آخر لحظة.

تم تداول المواعيد المقترحة لبدء العمليات العسكرية خلال ورقة عمل قدمت أوائل أبريل 1973 إلى “السادات” من قبل المشير “إسماعيل”، وقد تضمنت تنفيذ العمليات الهجومية إما في شهر مايو وإما شهر أغسطس وإما في الفترة بين شهري سبتمبر وأكتوبر. وقد تم بحث هذه التواريخ خلال الاجتماع التاريخي الذي انعقد في القاهرة بين يومي 21-23 أغسطس، وجمع القادة العسكريين المصريين والسوريين، وسط أجواء طغت عليها السرية التامة والإجراءات الأمنية المشددة. وخلال هذا الاجتماع حدد موعد الهجوم بين 5-11 أكتوبر، وهو ما أُكد لاحقًا بعد سفر المشير “إسماعيل” إلى سوريا في 2 أكتوبر، لتتوافق كل من سوريا ومصر على الموعد النهائي لبدء العمليات الهجومية.

عملية دراسة مواعيد وتوقيتات بدء الهجوم المصري-السوري مرت بعدة مراحل؛ بدايتها كان اختيار أنسب شهور السنة، حيث روعي أن يتوفر في الشهر المختار ظروف جوية مناسبة للقوات المصرية والسورية، وأقل مناسبة بالنسبة للقوات المعادية، خاصة أن اعتدال الطقس وأحوال الجو يعتبر أساسيًا في إنجاح عملية عبور القوات المصرية لقناة السويس، لذا كان من الضروري أن يتم تفادي نهاية فصل الخريف وبداية فصل الشتاء التي تختل فيها الأحوال الهيدروغرافية لقناة السويس، وكذلك الحال فيما يتعلق بالجبهة السورية التي يبدأ فيها موسم تساقط الثلوج أواخر شهر نوفمبر وبداية شهر ديسمبر. كذلك تمت مراعاة أن يتضمن الشهر المختار كل العوامل التي من الممكن الاستفادة منها لتحقيق المفاجأة الهجومية الكاملة، خاصة ما يتعلق بالظروف الداخلية في إسرائيل، بحيث يتضمن وجود أكبر قدر من المناسبات والأعياد التي يتم فيها تعطيل وسائل الإعلام الرسمية في إسرائيل؛ مما يؤثر بالتالي في كفاءة عملية استدعاء الاحتياط.

وقد توفرت كل هذه الشروط في شهر أكتوبر، حيث كانت إسرائيل في طور الاستعداد لإجراء انتخابات الكنيست في يوم 28 أكتوبر، ويزدحم هذا الشهر بالأعياد الإسرائيلية الدينية (وهي: عيد الغفران، وعيد المظال، وعيد التوراة). كما أن تزامن هذا الشهر مع شهر رمضان المبارك أعطى بعدًا إضافيًا يتمثل بالتأثير المعنوي الإيجابي في القوات المصرية، فضلًا عما يمكن تحقيقه من مباغتة استراتيجية بشن الهجوم في شهر الصيام، وهو الأمر الذي لم تتوقعه إسرائيل. يضاف إلى ذلك أن فترة الليل في أيام شهر أكتوبر طويلة، حيث تصل فترة الإظلام في أيام هذا الشهر إلى حوالي 12 ساعة، ناهيك بأن هذا الشهر هو أفضل أشهر السنة بالنسبة للأحوال الجومائية المناسبة للعمليات البحرية، وكذلك بالنسبة لحالة الطقس على كلا الجبهتين.

بالنسبة لليوم المناسب لبدء الهجوم، هدفت مصر إلى اختيار أحد الأيام بحيث يكون عطلة رسمية أو عيدًا أو عطلة نهاية الأسبوع بالنسبة للعدو، وأن يكون فرق المنسوب بين المد والجزر فيه أقل ما يمكن لتوفير ظروف أفضل لإقامة المعابر والكباري على القناة، وأن يتميز بضوء القمر الساطع خاصة في النصف الأول من الليل، حتى يساعد على إقامة المعديات والكباري ليلًا، ثم يبدأ عبور القوات في الظلام خلال النصف الثاني من الليل، وهذا يتطلب ألا تقل مدة الإضاءة القمرية عن 5-6 ساعات قبل أن يغرب القمر. وقد توفرت كل تلك الشروط في يوم 6 أكتوبر 1973، حيث تتوقف الحياة في إسرائيل في هذا اليوم، لأنه يوافق عيد الغفران، فضلًا عن كونه يوم سبت وعطلة نهاية الأسبوع، وبالتالي تتعطل وسائل الإعلام بشكل كامل؛ مما يؤثر في كفاءة عمليات التعبئة. كذلك وافق هذا اليوم العاشر من رمضان، حيث القمر مناسب ومضيء من غروب الشمس حتى منتصف الليل، كما يعتبر فرق منسوب مياه القناة في هذا اليوم مناسبًا، لأنه سيتزايد بعد ذلك مع اكتمال القمر بدرًا.

أما فيما يتعلق بالتوقيت الدقيق لبدء العمليات العسكرية، فقد هدفت الدراسة التي أجرتها هيئة العمليات بالقوات المسلحة إلى اختيار توقيت يوفر للقوات الجوية السورية والمصرية الوقت الكافي لتوجيه ضربة جوية مركزة في ضوء النهار، وأن تتاح لها فرصة تكرارها قبل آخر ضوء إذا تطلب الموقف ذلك. وفي الوقت نفسه، لا يوفر هامش كافٍ من الوقت للقوات الجوية الإسرائيلية للعمل بكثافة والرد على الضربة الجوية، قبل آخر ضوء. كذلك هدفت الدراسة إلى أن يتضمن التوقيت المختار ظروفًا جوية جيدة تسمح بمراقبة، وتصحيح نيران المدفعية في أثناء التمهيد النيراني للهجوم وفي أثناء هجمات العدو المضادة المتوقعة في الساعات الأولى التي تلي العبور، وأن يكون ضوء الشمس في عين العدو في أثناء عبور القوات المصرية قناة السويس، بما يقلل من كفاءته في المراقبة والتصويب.

بموجب تلك المتطلبات تم اختيار ساعة الهجوم، لتصبح عمليًا قبل آخر ضوء مباشرة، بهامش زمني يسمح بتنفيذ المهام الأساسية المطلوبة في اليوم من القتال، وهي توجيه الضربة الجوية المشتركة، وتحريك الكباري من مناطق تجمعها الخلفية إلى الضفة الغربية للقناة، وبدء إسقاطها في المياه، وتنفيذ التمهيد النيراني بالمدفعية، خلال أربع قصفات مركزة بحوالي 2000 مدفع ولمدة 53 دقيقة، وفتح الممرات في الساتر الترابي، ومن قبل كل ذلك إبرار قوات الصاعقة في عمق الخطوط الإسرائيلية في سيناء لتعطيل إمكانية تقدم الاحتياطيات الإسرائيلية المدرعة، وإحداث ارتباك في منظومة القيادة والسيطرة وخطوط النقل والمواصلات الإسرائيلية.

وقد ظل الموعد النهائي لبدء العمليات العسكرية مشمولًا بالسرية المطلقة حتى عن الضباط والجنود المشاركين في هذه العمليات، حيث علم به قائدا الجيشين الثاني والثالث يوم 1 أكتوبر، وقادة الفرق يوم 3 أكتوبر، وقادة الألوية يوم 4 أكتوبر، وقادة الكتائب والسرايا يوم 5 أكتوبر، وقادة الفصائل والجنود قبل 6 ساعات فقط من بدء الهجوم. توخي السرية في هذا الإطار شمل حتى إخفاء الموعد النهائي لبدء العمليات حتى عن المستشارين العسكريين السوفييت الموجودين في القاهرة، والذين لم يتوصلوا إلى احتمالية قيام الجيش المصري بعمليات هجومية إلا في الرابع من أكتوبر؛ مما دفعهم لبدء سحب جزء كبير من مستشاريهم وعائلاتهم من مصر مساء اليوم نفسه.في الختام، يمكن القول إن مجمل بنود خطة الخداع الاستراتيجي المصرية قد أنتج حالة من التخبط في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية التي لم تتمكن من التيقن من النوايا المصرية رغم وجود عدد من المؤشرات التكتيكية والميدانية المهمة، مثل سحب موسكو مستشاريها من مصر وسوريا قبل يومين فقط من بدء العمليات، والدفع بكتائب الجسور المصرية إلى قرب القناة، وفتح ثغرات حقول الألغام، ورفع حالة الاستعداد في سلاح البحرية المصري، حيث اعتبرت تل أبيب -اعتمادًا على تقديراتها الأساسية- أن كل هذه المؤشرات هي أحداث عرضية، منها ما يرتبط بالتوترات المستجدة على الجبهة السورية، ومنها ما يرتبط بأنشطة تدريبية روتينية لا تشكل أي خطر. بالتالي تحولت إسرائيل -للمرة الأولى في تاريخها- إلى متلقي للضربة لا مسدد لها.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M