أدت الحملة العسكرية لإسرائيل إلى تقليص قوة “حزب الله” بشكل كبير، مما يتيح فرصة لبيروت لإنهاء الحرب والوقوف في وجه الحزب وداعميه الإيرانيين – إذا كانت النخب اللبنانية مستعدة لهذه المهمة.
في 30 أيلول/سبتمبر، وبعد عشرة أيام مدمرة بلغت ذروتها بقيام إسرائيل بقتل زعيم “حزب الله” حسن نصرالله، أعلن رئيس وزراء لبنان المؤقت نجيب ميقاتي عن دعم حكومته لتنفيذ “قرار مجلس الأمن رقم 1701”. وقد أيدت بيروت هذا القرار، الذي أُقِر عام 2006، لكن لبنان لم تنفذ أبداً أهم بند فيه وهو: إنهاء وجود “حزب الله” جنوب نهر الليطاني، المتاخم لإسرائيل. وفي الأشهر الأخيرة، حاولت إدارة بايدن إقناع “حزب الله” بقبول وقف إطلاق النار يستند إلى إحياء هذا القرار، دون نجاح. والآن، ومع تدهور القدرات العسكرية لـ “حزب الله” وتعطل قيادته وسيطرته، قد يعيد الحزب النظر في موقفه المعارض.
وفي الوقت الحالي، فإن الحديث عن وقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية تفاوضية أمر سابق لأوانه. فما زالت إسرائيل تنفذ عملياتها البرية التي تستهدف شبكة الأنفاق الواسعة لـ “حزب الله” في جنوب لبنان، وهو إجراء ضروري لتمكين 70,000 نازح إسرائيلي من العودة بأمان إلى منازلهم. وبالنظر إلى السوابق، تفتقر إسرائيل إلى الثقة في أن الأمم المتحدة ستفرض القرار بالفعل. ومع ذلك، من المرجح أن يكون “القرار 1701” واحداً من عدة التزامات يتعين على بيروت اتخاذها لتخفيف حدة الصراع. ومع ضعف “حزب الله”، لدى الحكومة اللبنانية فرصة ليس فقط لإنهاء الحرب، ولكن أيضاً لتقليص هيمنة “حزب الله” وإيران، وتأكيد سيادة الدولة. ولكن، للأسف، من غير الواضح ما إذا كانت النخب السياسية في لبنان – حتى مع الدعم من واشنطن وباريس – قادرة على القيام بهذه المهمة.
دور الجيش اللبناني
تم تمرير قرار “مجلس الأمن رقم 1701” في أعقاب الحرب السابقة بين “حزب الله” وإسرائيل، حيث نص القرار على أن “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”) ستساعد الجيش اللبناني على ضمان أن تكون المنطقة الواقعة بين نهر الليطاني والحدود مع إسرائيل “خالية من أي عناصر مسلحة، أو أصول، أو أسلحة” غير حكومية. وعلى الرغم من القرار، وسع “حزب الله” وجوده ونشاطاته في هذه المنطقة. فمنذ عام 2006 وإلى عام 2023، مُنعت دوريات “اليونيفيل” بانتظام من الوصول إلى مساحات واسعة من الأراضي في الجنوب يُعتقد أنها قواعد لـ “حزب الله”، وكان أفراد حفظ السلام يتعرضون للتحرش والهجوم بشكل روتيني، والقتل بشكل دوري.
ويقيناً، كانت “اليونيفيل” عاجزة، لكن “القرار 1701” فشل إلى حد كبير لعدم التزام الجيش اللبناني والحكومة اللبنانية بتنفيذ المهمة، حيث تعاون الجيش اللبناني في بعض الأحيان مع “حزب الله” لتعطيل أنشطة “اليونيفيل”. والمشكلة هنا هي الافتقار إلى الإرادة، وليس نقص الموارد. ويبلغ تعداد الجيش اللبناني ما يقرب من 70,000 جندي، وكان يُعتبر – على الأقل قبل الانهيار المالي في عام 2020 وانخفاض قيمة الليرة اللبنانية – “من بين أكثر الجيوش الشريكة كفاءة” للولايات المتحدة في المنطقة، وفقاً للجنرال جوزيف فوتيل، الرئيس السابق “للقيادة المركزية الأمريكية”. وفي الواقع، قاتل الجيش بشجاعة وكفاءة خلال الانتصارات العسكرية السابقة ضد جماعات سنية مسلحة. ومع أن الأزمة المالية أدت إلى انخفاض رواتب الجنود إلى أقل من 100 دولار شهرياً، مما تسبب في ارتفاع معدلات الغياب، إلّا أن الجيش اللبناني لا يزال يحتفظ بما يكفي من القوى البشرية والقدرات لنشر قواته في الجنوب.
وعلى وجه التحديد، يشير مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون إلى أن تنفيذ “قرار مجلس الأمن رقم 1701” سيتطلب نشر حوالي 6,000 جندي من الجيش اللبناني للقيام بدوريات في منطقة الحدود اللبنانية مع إسرائيل، بالتعاون مع حوالي 11,500 من “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”). وبعد انسحاب جميع العناصر المسلحة لـ “حزب الله”، سيكون من المفترض أن تتمكن هذه القوات من التحرك بحرية في جميع المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني، والبحث بنشاط عن الأسلحة المتبقية والاستحواذ عليها، وتفكيك مواقع “حزب الله”، وبنيته الأساسية، ومنصات الإطلاق والأنفاق التابعة له، وضمان عدم إعادة تسلل عناصر الميليشيا إلى المنطقة. ورغم أن هذه العملية المشتركة بين الجيش اللبناني و”قوات اليونيفيل” تبدو غير محتملة، إلّا أن موافقة “حزب الله” قد تتيح تنفيذ هذه الجهود وتجنب المواجهة العسكرية المباشرة بين الدولة والميليشيا المدعومة من إيران.
مشكلة الإرادة
لتنفيذ “القرار 1701” فعلياً، يجب على الحكومة اللبنانية المؤقتة أن تنشر الجيش اللبناني بشكل استباقي في الجنوب وتوجهه لتنفيذ هذه المهمة. ولكن حتى مع تدهور قوات “حزب الله” وتشرذم قيادته، فإن هذا الأمر سيمثل اختباراً صعباً للنخب السياسية في الدولة. فبالإضافة إلى السجل الهائل لـ “حزب الله” في ترهيب واغتيال المعارضين الداخليين، يسيطر الحزب وحلفاؤه على نحو نصف مقاعد مجلس النواب، بما في ذلك رئيس المجلس نبيه بري، الذي أظهر باستمرار دعمه لـ “حزب الله” طوال 32 عاماً في منصبه. وعلى الرغم من أن رئيس الوزراء نجيب ميقاتي يمكنه أن يأذن بنشر الجيش اللبناني، إلا أنه من غير الواضح ما إذا كان سيأمر بمصادرة وتدمير ترسانة “حزب الله” وبنيته الأساسية. ولا يُعَد ميقاتي الوحيد في هذا الموقف، إذ يخشى العديد من النخب اللبنانية من إعادة تشكيل “حزب الله” وسيكونون مترددين في مواجهته بشكل مباشر. ولتجنب استفزاز الحزب وإرضاء الغرب في الوقت نفسه، قد يميل بعضهم إلى تعديل القرار ليشمل “دمج” «حزب الله» في الجيش اللبناني، ولكن هذا لن يكون مقبولاً.
ويواجه الجيش اللبناني بدوره بعض العقبات المؤسسية والثقافية في مواجهة “حزب الله”. فقد تبنى الجيش لسنوات شعار الميليشيا: “الجيش، الشعب، والمقاومة”. وحتى اليوم، تُدرِّس كتيبات التوجيه الخاصة بالجيش اللبناني المجندين الجدد أن “دعم المقاومة” (أي «حزب الله») هو “حق مشروع للبنانيين”. بالإضافة إلى ذلك، نظراً للتركيبة الطائفية للجيش اللبناني واختراقه من قبل مؤيدي “حزب الله”، قد تصبح مسألة الانضباط والتماسك قضية إشكالية خلال تنفيذ مثل هذه المهمة المثيرة للجدل.
وفي الماضي، تجاهل الجيش اللبناني أوامر الحكومة واعتبرها استفزازية. ففي عام 2008، تجاهل الجيش أمراً بتفكيك شبكة الألياف الضوئية المخصصة لـ “حزب الله” وإقالة ضابط حليف من الجيش اللبناني لـ “حزب الله” كان مسؤولاً عن أمن مطار بيروت. ورد “حزب الله” على هذه الأوامر الحكومية بإرسال قواته إلى شوارع بيروت، مما أسفر عن مقتل نحو مائة مدني. وخلال هذا الهجوم، كان الجيش اللبناني غائباً فعلياً ولم يتخذ أي خطوات لحماية المؤسسات الوطنية.
السبيل إلى المضي قدماً
عندما بدأت إسرائيل عملياتها البرية في لبنان، قام الجيش اللبناني “بإعادة التموضع” شمالاً إلى الثكنات خارج منطقة الصراع. وسيستغرق بعض الوقت إلى أن يهدأ القتال وتٌستأنف المفاوضات بشأن “القرار 1701”. وفي غضون ذلك، ينبغي على الحكومة اللبنانية أن تنشر الجيش اللبناني في المدن اللبنانية، حيث يمكن أن يساعد وجوده في منع أي عنف طائفي محتمل وحماية المنتقدين من ترهيب أنصار “حزب الله” – وهو ما يحدث بالفعل. كما يمكن للجيش اللبناني أن يساعد في حماية المدنيين عبر تسهيل إجلائهم من المناطق التي تصنفها إسرائيل بأنها غير آمنة. إن وجود الجيش اللبناني المستمر والظاهر قد يعزز ثقة السكان القلقين ويشير إلى عودة الدولة (إلى الظهور) بعد غياب طويل. وقد يكون هذا مفيداً إذا قررت الحكومة في النهاية نشر القوات في الجنوب لاستهداف أصول “حزب الله”.
ونظراً للجمود السياسي المزمن في لبنان وتأثير إيران العميق، فإن تغيير المسار العام للسياسة اللبنانية أمر بعيد المنال في أفضل الأحوال. ولكن مع ضعف “حزب الله”، فإن هذه لحظة نادرة لتغيير الوضع الراهن المتعثر في الجنوب، إن لم يكن في بيروت. ولتحقيق ذلك، يجب على الولايات المتحدة وفرنسا التنسيق عن كثب. وتشير التقارير الأخيرة إلى أنه بعد ما يقرب من عامين بدون رئيس لبناني – بسبب تعنت “حزب الله” إلى حد كبير – قد يكون مجلس النواب على وشك التصويت على رئيس جديد. وسيكون هذا تطوراً مرحباً به، لكنه ليس بالضرورة تغييراً جوهرياً للبنان، خاصة إذا كان الرئيس الجديد يفتقر إلى رؤية جريئة للدولة.
والأمر الأكثر أهمية، وخاصة في المدى القريب هو سد الفراغ على الحدود. وباعتبار واشنطن الممول الرئيسي للجيش اللبناني، ينبغي عليها أن تطالب الحكومة اللبنانية ليس فقط بنشر الجيش في الجنوب، ولكن أيضاً بتنفيذ المهمة فعلياً هذه المرة. وبالفعل، يجب أن تربط واشنطن وباريس التمويل المستقبلي للبنان بتنفيذ كامل لـ “قرار مجلس الأمن رقم 1701”. يجب على فرنسا أيضاً أن تركز على حشد الدعم الدولي الدبلوماسي والمالي لتحقيق عدة أهداف: وعلى وجه التحديد، تنفيذ مهمة الجيش اللبناني في جنوب لبنان بعد أن تبدأ، وتأمين حدود لبنان مع سوريا، وتعزيز مبادرة للحد من تهريب الأسلحة الإيرانية التي تعيد تسليح “حزب الله”. وفي جميع الأحوال، يجب على المسؤولين الأمريكيين والفرنسيين أن يوضحوا أنهم لن يضغطوا على إسرائيل لوقف إطلاق النار إلى أن تلتزم بيروت والجيش اللبناني علناً بهذا القرار من الأمم المتحدة. وبطبيعة الحال، سوف تتحمل إسرائيل أيضاً التزامات بموجب “القرار 1701”.
وعلى نفس القدر من الأهمية لتحقيق الأمل البعيد في (قيام) لبنان مستقر وذو سيادة هو تنفيذ “قرار مجلس الأمن رقم 1559″، الذي ينص على نزع سلاح الميليشيات مثل “حزب الله”. وفي الوقت الحالي، قد يبدو تنفيذ “القرار 1559” هدفاً بعيد المنال، ولكنه يجب أن يكون الهدف النهائي – ليس فقط بالنسبة لواشنطن وباريس، بل أيضاً للبنانيين الذين سئموا الحروب المتواصلة. ومع ذلك، ففي المدى القريب، يجب أن تكون الأولوية لتنفيذ “القرار 1701” وتفعيل الجيش اللبناني بفاعلية في جميع أنحاء لبنان، وخاصة في الجنوب.
وإذا كان لبنان يأمل في الحد من هيمنة “حزب الله” والتحوّل إلى دولة حقيقية، فإن الوقت قد حان للنخب السياسية الشجاعة – وهي نادرة تاريخياً في لبنان – لاتخاذ الخطوة المطلوبة. والبديل هو أن تستمر إسرائيل في استهداف أصول “حزب الله” وإيران في جنوب لبنان بشكل أكثر نشاطاً واستمرارية، كما فعلت في سوريا منذ عام 2013.