السياسيات الإسرائيلية بعد عام من طوفان الأقصى: مسارات جديدة أم مستمرة؟

تأتي الذكرى الأولى لـ “طوفان الأقصى” أو “أحداث السابع من أكتوبر” لتعكس إعادة إحياء القضية الفلسطينية، والنضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولتسلط الضوء على مدى وحشية الجرائم التي ترتكبها دولة وجيش الاحتلال. تعكس هذه الأحداث أيضًا استمرار الحرب الطويلة بين الفلسطينيين وإسرائيل. في هذا الإطار، ينبغي تحليل السياسات الإسرائيلية ومدى توافقها مع الأهداف الاستراتيجية للحرب، ومعرفة ما إذا كانت هذه الأهداف قد تغيرت على مدار العام. بالإضافة إلى ذلك، يجب النظر في انعكاسات هذه السياسات على الأوضاع الإنسانية المتدهورة في غزة، والجرائم المستمرة لجيش الاحتلال حتى الوقت الحالي. كما ينبغي توضيح مخطط “اليوم التالي” من الناحية الإسرائيلية بما يتماشى مع الأهداف الاستراتيجية للحرب، وهو ما يشكل الموقف الحالي لإسرائيل بعد مرور 365 يومًا على الحرب.

شنت إسرائيل حربًا على قطاع غزة فيما أسمته حرب “السيوف الحديدية” بعد أن وضعت مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي أعلنت عنها قبل عام من التاريخ الحالي، ويمكن قياس مدى تحقيقها لتلك الأهداف فيما يلي:

أولًا: هدف القضاء على حماس “سياسيًا وعسكريًا”:

تشير الشواهد الحالية إلى أن إسرائيل تعجز عن إخماد أنشطة حركة المقاومة حماس في غزة بعد مرور عام من المواجهات، بالرغم من تفوق قدراتها العسكرية على قدرات حماس بكثير، لكن من المهم الإشارة إلى أن الحركة تستمر حتى الآن في إعادة تنظيم صفوفها رغم فقدان العديد من القيادات وخسارة غالبية مخزون الحركة من الصواريخ، مستخدمة تكتيكات حرب العصابات ونصب الكمائن للجنود الإسرائيليين لضمان استمرار نشاطها، كما أن تحول تركيز الجيش الإسرائيلي في الآونة الأخيرة إلى مواجهة حزب الله في الشمال، منح حماس مساحة أكبر.

ومن الناحية السياسية، فمن المهم الإشارة إلى أن حماس حركة مقاومة قائمة على أيدولوجية. وعلى الرغم من تراجع شعبيتها وفقًا للمسموحات الفلسطينية، والذي يعزى إلى استمرار الهجمات الإسرائيلية، التي أسفرت عن خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات بين سكان غزة، إلا أن القضاء عليها كليًا ليس بالأمر السهل، وتراجع شعبيتها لا يعني بالضرورة القضاء على وجودها أو نفوذها، ويظهر استطلاع أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” في سبتمبر 2024، أن نسبة الرضا عن حماس 61%، وهو ما يشير إلى أن الرضا عن الحركة لا يزال مرتفعًا على الرغم من تراجعه. وهو ما يؤكد أنه من الممكن أن تكون إسرائيل قد أضعفت حماس عسكريًا، لكنها لم تقضِ على قواتها العسكرية تمامًا. كما أنها لم تتمكن من القضاء على حماس سياسيًا، حيث تظل الحركة فكرة وأيديولوجية لها جذور طويلة وشعبية قوية يصعب القضاء عليها.

ثانيًا: ملف تحرير الأسرى:

قامت حركة حماس في السابع من أكتوبر الماضي بأسر 251 إسرائيليًا ومن جنسيات أخرى،  ووضعت الحكومة الإسرائيلية وجيشها هدف إعادة الأسرى كأحد الأهداف المعلنة للحرب الجارية على قطاع غزة، لكن حتى اليوم استطاعت إسرائيل أن تعيد عددًا محدودًا من الأسرى. وحتى الآن يُعتقد أن هنا 66 أسيرًا على قيد الحياة في غزة.

ومن المهم الإشارة إلى أن النسبة الأكبر من المفرج عنهم كانت خلال مفاوضات نوفمبر الماضي التي أسفرت عن تحرير 81 أسيرًا إسرائيليًا، والباقي تم استعادة جثثهم، وهناك عدد محدود للغاية تم الإفراج عنهم خلال عمليات عسكرية. وتلقي عائلات الأسرى اللوم حاليًا على حكومة نتنياهو، حيث أصبحت ترى بوضوح في الوقت الحالي أن رئيس وزراء دولتهم هو من يعرقل الوصول إلى صفقة والعودة إلى طاولة المفاوضات، وأنه يراهن فقط على الحل العسكري لتحقيق أهدافه، وأن ملف الأسرى لا يُعتبر على رأس أولويات الحكومة الإسرائيلية في الوقت الحالي بالأساس.

وفي ذلك الإطار يمكن القول بأن الهدف لا يزال بعيدًا، ذلك على الرغم من تدمير 700 نفق لحماس في غزة، وأيضًا قتل ما يزيد عن 41 ألف فلسطيني في القطاع، وتدمير 90% من البنية التحتية فيه، لم تنجح حتى الآن في استعادة الأسرى.

ثالثًا: الأمان للداخل الإسرائيلي:

عُدَّ هدف “استعادة الأمن الداخلي” في إسرائيل أحد الأهداف الرئيسية المعلنة للحرب على قطاع غزة، لكن وبعد مرور عام، يبدو أن الواقع يشير إلى أن التهديدات قد زادت، ويمكن الإشارة في ذلك الإطار إلى عاملين أساسيين يعكسان ذلك؛ الأول هو ظهور جبهة الإسناد المدعومة من إيران، والتي توجه ضربات وغارات جوية على كافة إسرائيل، كان آخرها الضربة الإيرانية المكونة من 250 صاروخًا على كافة الأراضي الإسرائيلية في نهاية سبتمبر 2024. من ناحية أخرى وفي الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر، أطلقت كتائب القسام صواريخ في تل أبيب. مما يعني أن التهديدات لا تزال مستمرة وأن الحكومة الإسرائيلية لم تنجح في حماية مواطنيها كما تدعي. أما العامل الثاني فهو فقدان الشعور بالأمن على المستوى الداخلي أو المستوى الشعبي. وهو ما أظهره استطلاع رأي أجرته هيئة البث العبرية، من أن 61% من الإسرائيليين لا يشعرون بالأمان في البلاد، فيما يقول 86% إنهم غير مستعدين للعيش في مستوطنات غلاف غزة بعد الحرب.

ويعكس ما سبق أن التهديدات على الداخل الإسرائيلي لا تزال مستمرة من ناحية، وأيضًا عدم استعداد المواطنين الإسرائيليين للعودة لمجاورة قطاع غزة الذي أصبح يشكل تهديدًا طويل الأمد للشعب الإسرائيلي، مما يعكس أيضًا الفشل الإسرائيلي في تحقيق الهدف.

عادةً ما تتغنّى إسرائيل في المحافل الدولية بأنها الدولة الأكثر ديمقراطية وحفاظًا على حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، لكن تُثبت قرارات الحكومة الإسرائيلية اللاإنسانية وغير الرشيدة أنها الحكومة الأكثر وحشية وتطرفًا في الوقت الحالي، فبعد مرور عام على الحرب تُواصل قوات الاحتلال عدوانها على قطاع غزة، براً وبحرًا وجوًا مما أسفر عن استشهاد 41870.

وحاليًا يعاني قطاع غزة، الذي يعيش فيه حوالي 2.3 مليون فلسطيني، من أزمة نزوح حادة نتيجة لأوامر الإخلاء والقصف المستمر في مختلف مناطقه. أدى هذا النزوح إلى اكتظاظ السكان في مناطق ضيقة، حيث أصبحت الكثافة السكانية في القطاع واحدة من الأعلى في العالم، إذ تبلغ أكثر من 6,000 شخص لكل كيلومتر مربع. ونتيجة القصف، تعرضت البنية التحتية لتدمير واسع، شمل شبكات الكهرباء والمخابز، مما زاد من تفاقم أزمة الغذاء والمياه وجعل غزة واحدة من أكثر المناطق جوعًا في العالم. تضمنت الخسائر تضرر نحو 297 ألف وحدة سكنية، ودمار نحو 156,423 مبنى، مما يجعل الظروف المعيشية فيها غير صالحة.

كما تأثرت القطاعات الاجتماعية الأساسية، خاصة الصحة والتعليم، بشكل كبير. أسفرت الحرب عن استشهاد 16 ألف طفل و11 ألف امرأة و986 من العاملين في مجال الرعاية الصحية، مما أدى إلى انهيار خدمات الرعاية الصحية. بالإضافة إلى ذلك، تم تدمير 122 مدرسة وجامعة بالكامل، و334 آخرين بشكل جزئي. على الصعيد الاقتصادي، يعاني القطاع من ركود شديد، حيث تراجعت مساهمة غزة في الاقتصاد الفلسطيني إلى أقل من 5% بعد أن كانت تمثل 17%، مع انكماش الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 85% وارتفاع معدل البطالة إلى 80%. تتطلب إعادة بناء الاقتصاد بمساعدة دولية واستثمارات ضخمة، بالإضافة إلى سنوات لتعزيز المؤسسات المتضررة.

بعد عام من الحرب، يمكن القول بأن المحادثات المتعلقة بخطط ما يسمى بـ “اليوم التالي” للحرب على قطاع غزة، أصبحت بشكل واضح ترتكز على المصلحة الإسرائيلية وتهميش مصلحة الفلسطينيين في قطاع غزة. وعلى الرغم من الخطط العديدة التي طرحتها الأطراف المختلفة، ومراكز الفكر عالميًا، إلا أن الرؤية التي يتم الدفع لتنفيذها الآن، هي الرؤية التي تركز فقط على مكاسب إسرائيل، والتي تعتمد على الهيمنة الأمنية الإسرائيلية على القطاع كمبرر لاستمرار الوجود الإسرائيلي، وإحكام الحصار على السكان وتفتيت المقاومة الفلسطينية.

ويظهر ذلك من خلال إصرار رئيس الحكومة الإسرائيلية على عدم انسحاب الجيش من قطاع غزة مهما كان مصير صفقة الأسرى على الرغم من مقتل أكثر من نصفهم، وحديثه عن ضمان منع أي احتمال لتهديد أمن إسرائيل.

وحتى الآن ورغم تراجع الحديث عن تصورات اليوم التالي في ظل الحرب المشتعلة في الجبهة الشمالية مع حزب الله، إلا أن ذلك لا يعني أن الحكومة الإسرائيلية غافلة عن تثبيت وجودها في قطاع غزة بعد الحرب، ومن المهم الإشارة إلى أن جولات المفاوضات الأخيرة التي من المفترض أن تناقش وقف إطلاق النار في غزة أولًا، استطاعت إسرائيل أن توجهها نحو تثبيت الوجود الإسرائيلي في المناطق العازلة، ولذلك فإنه يمكن القول بعد عام من الحرب على القطاع، تسعى إسرائيل إلى وجود واقع مؤقت حاليًا، دائم في المستقبل يدعم رؤيتها لليوم التالي.

خلاصة القول؛ من الواضح أن الأهداف الإسرائيلية بعد مرور عام على الحرب قد اختلفت عما تم الإعلان عنه في أكتوبر 2023، وتشمل تقسيم قطاع غزة إلى مناطق عازلة تتواجد فيها القوات العسكرية الإسرائيلية، وإنشاء إدارة مدنية للسكان في مناطق منزوعة السلاح على ألا تكون حماس في المشهد، بالإضافة إلى إضعاف مخططات إقامة الدولة الفلسطينية بل وحتى دثرها، وتعزيز السيطرة الأمنية الإسرائيلية. بيد أن تحقيق تلك الأهداف يتوقف على العديد من العوامل منها التعامل مع أنشطة حماس السياسية والعسكرية، ومواجهة جبهة الإسناد المدعومة من إيران في الشرق الأوسط، وأيضًا رؤية الإدارة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية الداعم الأول والرئيس لإسرائيل، فضلًا عن الضغوطات الداخلية من أجل إعادة الأسرى.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M