يشهد إقليم القرن الإفريقي حالة من التأهب منذ مطلع العام الجاري بتوقيع إثيوبيا اتفاقًا مع إقليم “أرض الصومال”، تتمكن إثيوبيا، وهي دولة غير ساحلية، بموجبه من الوصول التجاري والعسكري المباشر إلى البحر الأحمر. وأثارت هذه الخطوة غضب الصومال الذي يرفض الاعتراف بمطالبة أرض الصومال بالاستقلال الذي أعلنته لأول مرة في عام 1991. وفي خضم هذه التوترات، احتضنت العاصمة الصينية بكين مطلع شهر سبتمبر 2024 أعمال قمة منتدى التعاون الصيني-الإفريقي (FOCAC) لعام 2024، بمشاركة الرئيس الصيني شي جين بينج وقادة الدول الإفريقية. ومن هذا المنطلق، يحاول المقال تسليط الضوء على الاستجابة الصينية للتوترات في القرن الإفريقي، وكيف تفاعلت الصين تحديدًا مع التصعيد بين إثيوبيا والصومال، وما هي الرؤية الصينية لحل الأزمة في القرن الإفريقي؟
المصالح الصينية في القرن الإفريقي
يمثل إقليم القرن الإفريقي أهمية بالغة للصين، وذلك لعدد من الاعتبارات الاستراتيجية والاقتصادية؛ إذ إن الإقليم يُمثل نقطة انطلاق لتحقيق الرؤية الاقتصادية للصين في إفريقيا، والتي تتمثل في مبادرة “الحزام والطريق”، ما يؤكد الثقل الاستراتيجي الذي يحتله الإقليم لدى مدركات صانع السياسة الخارجية الصينية. كما تعمل الصين على تشبيك المصالح الاقتصادية، وذلك من خلال تعزيز التجارة وضخ استثمارات في دول الإقليم، وذلك من خلال تحسين البنية التحتية وتشيد موانئ جديدة وخطوط سكة حديد، لتسهيل حركة نقل الأشخاص والبضائع وتعزيز حركة التجارة، وهو ما يتضح جليًا في بناء خطوط سكة حديد وموانئ في جيبوتي، وتدشين خط سكة حديد جديد يربط نيروبي بمومباسا بين المناطق الداخلية والساحلية. وقامت كذلك بتدشين خط سكك حديدية بطول 750 كيلومترًا عام 2017، يربط جيبوتي بأديس أبابا لتسهيل حركة نقل البضائع الصينية، كما شيَّدت الصين محطة “غاريسا” في كينيا للطاقة الكهروضوئية.
واتصالًا بما سبق ذكره، نجد أن الصين عملت على تعزيز حضورها العسكري في القرن الإفريقي من خلال افتتاح قاعدتها العسكرية في جيبوتي في 2017، والتي تضم عشرة آلاف جندي، وتسهم القاعدة في تعزيز التعاون العسكري مع بلدان الإقليم، والعمل على الحفاظ على الممرات البحرية الاستراتيجية، وهو ما سيسهم في حماية المصالح الاقتصادية الصينية.
التعاطي الصيني مع التصعيد بين الصومال وإثيوبيا
يمكن النظر إلى محددات التعاطي الصيني مع الأزمة الراهنة في القرن الإفريقي من خلال عدة نقاط يمكن توضيحها على النحو التالي:
الاحتفاظ بعلاقات متميزة مع طرفي الأزمة: حرصت الصين على تعميق العلاقات مع كل من إثيوبيا والصومال (طرفي الأزمة)، وهو ما أتضح جليًا في القمة التاسعة لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC)، فقد تم الإعلان عن رفع مستوى العلاقات الصينية-الصومالية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، والتأكيد على دعم الصين للصومال في حماية السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية ودعم عملية السلام والتنمية في الصومال، إلى جانب تعزيز التعاون بين البلدين في مختلف المجالات مثل الاقتصاد والتجارة ومصايد الأسماك وتدريب الموارد البشرية، وكذلك التأكيد على مواصلة الصين تقديم الدعم المالي للبعثة الدولية لحفظ السلام في الصومال ودعم الصومال في تعزيز قدرته على التنمية المستقلة ومكافحة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار.
وفيما يتعلق بالعلاقات مع إثيوبيا، فقد حرصت الصين على ترسيخ التعاون مع أديس أبابا في كافة المجالات وهو ما اتضح جليًا في قمة المنتدى التعاون الصيني الإفريقي، حيث يتمتع البلدان بأساس متين من الثقة السياسية المتبادلة، وهو ما ينعكس على التعاون الاقتصادي بين البلدين وحرص الصين على تعزيز تطوير البنية التحتية والصناعات في إثيوبيا، وبناء شبكة نقل مشتركة بين البحر والسكك الحديدية. كما عملت الصين على تعزيز التعاون العسكري مع إثيوبيا من خلال التوقيع على اتفاقية جديدة من شأنها تعزيز القدرات الدفاعية الإثيوبية، ونقل تكنولوجيا الأسلحة المتقدمة وبناء القدرات والإنتاج المشترك للمعدات العسكرية. إلى جانب ذلك ستتمكن إثيوبيا من الاستحواذ على إثيوبيا على أحدث الطائرات بدون طيار الشبح CH-7 الصينة.
التأكيد على مبدأ عدم الاعتراف بالحركات الانفصالية: نجد أن الصين تعمل على التأكيد على مبدأ “الصومال الواحدة”، وهو ما يعنى رفض الاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة، وكذلك رفض التفاعلات بين أرض الصومال وتايوان التي تسعى للاستقلال عن الصين، فالصين تعتبر تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، وتعارض أي تفاعلات رسمية بين تايوان ودول أخرى، ولذا نجد أن الصين عارضت قيام تايوان بافتتاح مكتب تمثيل لها في عاصمة أرض الصومال هرجيسا عام 2020. وفى ضوء ذلك، ستتعاون الصين والصومال لإجهاض أي محاولة لانتهكاك السلامة الإقليمية لكلا البلدين.
الدعم الصيني للمبادرات الإقليمية: تدعم الصين مبادرة جيبوتي للحد من التوتر في القرن الإفريقي، فقد قدمت جيبوتي على هامش منتدى التعاون الصيني الإفريقي مقترحًا للحد من التوتر في القرن الإفريقي، فعرضت منح إثيوبيا “إدارة بنسبة 100٪” لميناء في تاجورة ، الواقع على طول ساحل جيبوتي، وفى حال قبول إثيوبيا لهذا العرض، ستتمكن من تحقيق مساعيها للوصول المباشر إلى البحر، منذ أن أصبحت دولة غير ساحلية بعد استقلال إريتريا عام 1991. بالإضافة إلى ذلك، سيؤدى قبول إثيوبيا لهذا المقترح حل النزاع الدبلوماسي الذي نشب بين إثيوبيا والصومال في اعقاب مذكره التفاهم التي وقعتها إثيوبيا مع سلطات أرض الصومال للحصول على حق الوصول إلى البحر من خلال الامتياز.
احتمالية الانخراط المباشر: وفقًا للرؤية الصينية، فإن السلام والأمن في منطقة القرن الإفريقي ركيزة أساسية لاستقرار التنمية والتجارة الدولية، ولكن نجد أن الأزمة الراهنة التي يشهدها الإقليم ستهدد استقرار المنطقة، وهو ما يؤثر سلبًا على المصالح الصينية هناك؛ إذ إن توتر العلاقات بين الصومال وإثيوبيا سيؤدى إلى تراجع التنسيق الأمني بين البلدين، وهو ما سيكون بمثابة فرصة لحركة “الشباب” الإرهابية لشن المزيد من الهجمات الإرهابية، وزعزعة استقرار القرن الإفريقي. وفى ضوء العلاقات المتميزة التي تتمتع بها الصين مع كافة دول المنطقة، فإن هناك احتمالية للانخراط الصيني المباشر في الأزمة الراهنة من خلال قيام المبعوث الصيني للقرن الإفريقي بوساطة محتملة بين طرفي الأزمة الراهنة للوصول إلى حل وسط يؤدى إلى خفض التصعيد في المنطقة، وهو ما سيصب في صالح الصين التي لديها مصالح اقتصادية ضخمة في القرن الإفريقي.
وفى الختام، يمكن القول إن الصين تنتهج سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والعمل على معالجة الصراعات بشكل دبلوماسي، وهو ما اتضح جليًا فيما يتعلق بالتوتر الراهن بين إثيوبيا والصومال، وذلك على خلفية التقارب بين إثيوبيا وأرض الصومال. ونجد أن استجابة الصين لهذه الأزمة قد اتسمت بالبرجماتية؛ وذلك لحماية مصالحها الاقتصادية الحيوية في إقليم القرن الإفريقي، لاسيما تنفيذ مبادرة “الحزام والطريق”، فضلًا عن التأكيد على مبدأ الحفاظ على السلامة الإقليمية، حيث تنظر الصين إلى أرض الصومال على أنها جزء من أراضي الصومال ومسألة داخلية، وهو ما يمكن استنتاج أن الصين تعارض المساعي الإثيوبية للاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة، على اعتبار أنه في حال حدوث ذلك سيكون له انعكاسات مباشرة على الداخل الصيني، فيما يتعلق بالاعتراف بتايوان كدولة منفصلة عن الصين.