جروح غير مرئية: الأثر النفسي للحرب على أطفال غزة

منذ السابع من أكتوبر 2023، يشهد قطاع غزة حربًا مستمرة أدت إلى استشهاد ما يزيد على 42 ألف شهيد بينهم أكثر من 16 ألف طفل، ودمار أكثر من 360 ألف مبنى، طبقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، من بينها مبانٍ سكنية ومساجد وكنائس ومدارس وحتى مستشفيات. وبينما يفكر المجتمع الدولي في كيفية إنهاء الحرب وإعادة إعمار غزة، التي تقدرها المنظمات الأممية بالمليارات، وترى أنها قد تستغرق عقودًا، لم يحظَ الضرر النفسي الواقع على أطفال غزة بالاهتمام الكافي بعد، حيث يواجه هؤلاء الأطفال يوميًا صدمات جديدة، فإلى جانب غياب احتياجاتهم الأساسية من الغذاء والماء النظيف والمسكن الآمن، يتعرض هؤلاء الأطفال كل يوم لمشاهد تحكمها الدماء وانتشار الأشلاء وفقدان الأسرة، وهو ما تسبب في جروح قد لا يراها العالم الآن إلا أنها قد تؤدي إلى خلق جيل كامل ليست لديه ثقة في العالم، مليئًا بالغضب والكراهية.

إنّ ما تعرض له الأطفال في غزة على مدار العام الماضي، نتاج جرائم الاحتلال الوحشية، يجب أن يكون محط قلق للعالم فما الذي قد يتوقعه العالم من جيل من الأطفال لن ينجو منه طفل من الاضطرابات النفسية. فبحسب تقديرات اليونيسيف السابقة لهذه الحرب، فإن أكثر من 500 ألف طفل كانوا في حاجة إلى الدعم النفسي والاجتماعي في قطاع غزة. بينما الآن تقدر المنظمة أن جميع الأطفال في غزة بلا استثناء، أي أكثر من مليون طفل تقريبًا، في حاجة إلى الدعم النفسي والاجتماعي. وفي هذا السياق، يُثار التساؤل حول آثار الحرب المدمرة من حيث الأضرار والمعاناة النفسية لأطفال غزة.

 بدأ التأثير النفسي للاضطرابات التي يعاني منها أطفال غزة نتيجة التعرض للصدمات منذ السابع من أكتوبر الماضي يظهر في شكل خوف وعصبية وتشنجات وتبول ليلي وقلق مستمر، كرد فعل على الصدمة النفسية المعقدة والمستمرة، والتي تنطوي على ضغوطات متراكمة تطغى على قدرة الفرد على التأقلم والتكيف.

بالرغم من أن الأثر النفسي للحرب قد يختلف من شخص لآخر، فإنه من المتفق عليه أن الحروب غالبًا ما تؤدي لاضطراب “كرب ما بعد الصدمة”، إذ تُعرف المشاعر والظروف المرتبطة بالحرب باسم “صدمة الحرب” التي لا يقف أثرها عند اللحظة الحالية فقط، بل قد تؤدي إلى عواقب طويلة الأمد على الصحة العقلية والنفسية لدى الشخص.

ينطوي اضطراب “كرب ما بعد الصدمة” على عدة أعراض منها: خدر عاطفي، وصعوبات في الإدراك والذاكرة، والانفصال عن الواقع، وانخفاض أو انعدام المتعة تمامًا للأشياء، والألم الجسدي بدون سبب، والتصور السلبي للذات، واضطرابات الهوية الذاتية، واليقظة المفرطة، وسلوكيات التجنب. وعادةً ما تظهر أعراض الصدمة على الأطفال في شكل صعوبة في النوم، وأحلام مخيفة وكوابيس.

وقد ظهر على أطفال غزة عدة أعراض تتعلق بالصدمات النفسية الشديدة، كالتشنجات، والتبول في الفراش، والخوف، والسلوك العدواني، والعصبية، وعدم ترك ذويهم.

ولا يقف الضرر النفسي الذي تعرض له الأطفال على اضطراب كرب ما بعد الصدمة فقط، حيث إن استمرار تعرض الأطفال في غزة للحرب سيؤدي لتفاقم الاضطرابات التي قد تستمر معهم لسنوات بعد الحرب ما بين اكتئاب شديد وقلق ورهاب واضطرابات نوم، كرد فعل طبيعي لما يواجهونه بشكل يومي منذ عام. وبناءً عليه، يرى خبراء علم النفس أن ما يمر به أطفال غزة يجب إعادة النظر في تصنيفه كاضطراب جديد، حيث إنه لا يمكن أن نطلق على ما يصاب به أطفال غزة “كرب ما بعد الصدمة”، فالصدمة في غزة مستمرة لا تتوقف.

لا نستطيع تجاهل أطفال غزة المصابين باضطرابات عقلية ونفسية، لا سيما أطفال التوحد، المُقدر عددهم بنحو ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف طفل توحدي، ومعاناتهم التي تضاعفت خلال الحرب، وبالرغم من أن تلك الفئة كانت مهمشة من قبل الحرب في ظل غياب مؤسسات رسمية ترعى شؤونهم وتقدّم لهم خدمات التأهيل، لا شك أن أوضاعهم قد تدهورت منذ السابع من أكتوبر.

 لقد ازدادت حالة أطفال التوحد تعقيدًا بعد الحرب فمعاناتهم في ظل الحرب أضعاف معاناة سائر الأطفال، خاصة أن خصائص الاضطراب تجعلهم عُرضة للخطر بشكل أكبر في مناطق الصراع. فمع محدودية التواصل، ونقص اللغة التعبيرية، وصعوبة التكيف مع التغييرات المرتبطة بالحرب من نزوح ودمار وفقدان الأسر، سيكون رد فعلهم صعب وغير متوقع تجاه تلك الظروف الكارثية، وقد يعبرون عن مخاوفهم بمجموعة واسعة من السلوكيات، التي قد تكون في شكل انسحاب أو زيادة السلوك العنيف والعدواني، أو تدهور إعاقاتهم. هذا فضلًا عن أن عَرض مثل الحساسية الحسية، التي قد يعاني منها بعض مصابي التوحد وتتسبب في عدم احتمالهم للضوضاء الصاخبة والبيئات الفوضوية، قد يؤدي إلى ارتفاع شعورهم بالخوف والارتباك، وهو ما قد يتسبب في الإصابة بحالات من الهياج العصبي، والتي قد تدفع المصابين بدورها نحو محاولة الفرار من دون إدراك.

بالإضافة إلى نقص الأدوية، التي تعد جانبًا أساسيًا في مسار علاج أغلب الحالات، وتدمير مراكز التأهيل المحدودة، وفقدان البيئات المألوفة والحاجة إلى التكيف مع بيئات جديدة وعدائية، والتي يمكن أن تتسبب في تراجع بالمهارات والسلوك، فقد أضافت الحرب لمعاناة هؤلاء الأطفال معاناة إضافية، وذلك جراء ما تعرضوا له من نزوح وتخلٍّ عن بيئتهم الآمنة وإحساس مستمر بالرعب من القصف. فكغيرهم من الأطفال، قد تؤدي بهم الحرب لاضطراب كرب ما بعد الصدمة، وقد يظهر الاضطراب لدى أطفال التوحد في شكل: زيادة الانفعال أو العدوانية، الانسحاب من الأنشطة المعتادة، اضطرابات النوم، تراجع في الكلام أو السلوكيات، زيادة الحساسية الحسية، الانهيارات العصبية المتكررة.

بينما يهدف العالم للاهتمام بالصحة العقلية والنفسية للأطفال والمراهقين، ويسعى للتأكيد على توفير الاحتياجات الأساسية لضمان تنشئة أجيال سوية، لم يهتم أحد باحتياجات النمو بشكل عام، والنمو النفسي والاجتماعي بشكل خاص، التي فقدها أطفال غزة في خضم الصراع.

في هذا الإطار، أشار عالم النفس “إبراهام ماسلو” في نظريته للاحتياجات الأساسية التي تحقق للإنسان حياة مُرضية ومكتملة، إلى أنه لضمان التقدم والنمو كإنسان يجب أن تتوافر الاحتياجات التي أشار لها فيما أسماه “هرم ماسلو للاحتياجات”.

https://i2.wp.com/dr-khalid.net/Learn/wp-content/uploads/2020/06/Maslow.png?fit=800%2C450&ssl=1

طبقًا لماسلو، فإن أبرز احتياجات الإنسان هي الحاجات الفسيولوجية (غذاء، وماء، والراحة الصحة الجسدية) يليها الحاجة للأمان (الأمن النفسي والمعنوي المتمثل في السلامة الجسدية بعيدًا عن العنف والأمن داخل الأسرة) ويتبعها الحاجات الاجتماعية (العلاقات الأسرية السليمة-الانتماء) وتعد تلك الحاجات الثلاث الأولية هي أساس النمو الصحي لأي إنسان.

بالنظر لما يعانيه أطفال غزة منذ السابع من أكتوبر الماضي، فهم يفتقدون الاحتياجات الأساسية الثلاثة، إذ يصارعون كل يوم للحصول على أبسط حقوقهم من غذاء وماء نظيف، ولا ينعمون بالأمان في ظل القصف المتواصل والتهديد المستمر بالقتل في كل لحظة، وافتقدوا الحاجات الاجتماعية وفقدوا أسرهم وبيوتهم والوطن الذي ينتمون إليه.

وإن استطاع العالم توفير ولو بشكل بسيط أساس الحاجات الفسيولوجية لأطفال غزة، فإن تعويضهم عن الحاجة للأمان والحاجات الاجتماعية، قد يكون مهمة مستحيلة. فإلى جانب ما يعاصرونه من تدمير لمنازلهم وفقدانهم المدينة التي ينتمون إليها، تشير تقديرات اليونيسف إلى أن ما لا يقل عن 17.000 طفل، أو 1% من الـ 1.7 مليون نازح في قطاع غزة، منفصلون عن ذويهم، ما يجعل تعويضهم عن الحاجات الاجتماعية المفقودة أمرًا مستحيلًا.

في ضوء ما خلفته الحرب من أزمة إنسانية ودمار واسع، حازت مسألة تقديم الدعم النفسي لأطفال القطاع على انتباه العديد من الجهات الفاعلة، الدولية والإقليمية، والحكومية وغير الحكومية أيضًا.

على الصعيد الحكومي الرسمي، فإلى جانب جهودها المبذولة للتوصل بشكل عاجل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، وضمان إدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية الضرورية العاجلة إلى القطاع بشكل فوري، حرصت الدولة المصرية أيضًا على تكثيف جهود إيصال الدعم النفسي لأهالي القطاع. فمنذ نوفمبر 2023، شكلت الأمانة العامة للصحة النفسية وعلاج الإدمان، التابعة لوزارة الصحة المصرية، العديد من الفرق الطبية المعنية بتقديم الدعم النفسي للمصابين القادمين من قطاع غزة للعلاج في المستشفيات المصرية، وكذلك لدعم الفرق الطبية القائمة على علاجهم.

كما عملت الأمانة على رفع جاهزية الخط الساخن للاستشارات النفسية لاستقبال الاتصالات من فلسطين، وقد استقبل الخط بالفعل العديد من الاتصالات من داخل القطاع لطلب الدعم النفسي.

وعلى الصعيد الدولي، أكدت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين، الأونروا، التزامهم بتقديم الدعم النفسي والاجتماعي لأطفال القطاع، بجانب تيسير وصول المساعدات الإنسانية الحيوية للنازحين في القطاع. فيما دعت اليونسكو الدول الأعضاء بالمنظمة، في نوفمبر 2023، إلى “تزويد الأطفال النازحين وأسرهم بتوفير الرعاية في مجال الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، والتكيف مع الاحتياجات الناشئة على أرض الواقع”. وخلال الفترة من فبراير حتى مايو 2024، قدمت المنظمة، بالتعاون مع مركز إبداع المعلم في خان يونس ورفح، الدعم النفسي والاجتماعي ل 1580 طفل باستخدام الفن وحرية التعبير وتقنيات الاسترخاء، كما قدمت المنظمة مجموعة من ورش عمل الدعم النفسي والاجتماعي لأهالي الأطفال ومقدمين الرعاية لتعزيز قدرتهم على تقديم الدعم لأنفسهم وللأطفال الذين تحت رعايتهم.

وعلى صعيد المنظمات الدولية غير الحكومية، شكلت مهام الدعم النفسي جزءً من أعمال العديد من هذه المنظمات المنخرطة في مهام تقديم خدمات الإغاثة لسكان القطاع. على سبيل المثال، قدمت منظمة “أطباء بلا حدود” أكثر من 8,800 جلسة دعم نفسي واجتماعي لأهالي غزة، كما عملت المنظمة على تقديم الدعم النفسي للأطفال في غزة بداخل عيادة المنظمة في مخيم المواصي برفح، وفي مستشفى ناصر في خان يونس، من خلال مساعدة الأطفال على التفريغ واستخدام اللعب كجزء من علاج لتجاوز الصدمة والألم وإدارة المشاعر. كما عملت هيئة الإغاثة الإنسانية التركية، على تقديم العديد من الأنشطة الترفيهية بهدف التخفيف من الصدمات على الأطفال.

وعلى صعيد المجتمع المدني، فقد حرصت عدد من المنظمات المدنية الفاعلة بالقطاع على تضمين الدعم النفسي ضمن أولويات نشاطها الميداني هناك. فإلى جانب اهتمامه بتوفير المساعدات المادية والإغاثات الطبية والغذائية، حرص الهلال الأحمر المصري أيضًا على تقديم الدعم النفسي لأهالي القطاع وخاصة الأطفال في محاولة لرفع روحهم المعنوية وللتخفيف من أهوال الحرب.

فيما حفزت الأزمة الإنسانية الراهنة التي يعايشها سكان القطاع، وما أسفرت عنه من تدهور لأوضاعهم النفسية، نحو إطلاق البعض لمبادرات من شأنها علاج ما أنتجته الحرب من صدمات نفسية. فعلى سبيل المثال، أطلقت الفلسطينية المستقرة في مصر، “فرح شناعة”، بالتعاون مع منصة O7 للعلاج النفسي، مبادرة “نور الشفاء – Rays Of Remedy“، والتي تهدف إلى مساعدة العائلات النازحة في التأقلم وتقديم علاج نفسى بالمجان للناجين من الحرب، وذلك من خلال التعاون مع مجموعة من الاستشاريين النفسيين لعلاج الصدمات والحزن المزمن والفقدان والمعاناة، وتعمل المبادرة في هذه الفترة على تأسيس جلسات علاج بالفن لمساعدة الأطفال الناجين، الذين لا يتمكنون من التعبير عن أنفسهم أو المصابين بحالة صدمة شديدة. فيما تستهدف مبادرة أحفاد الزيتون (وهي مبادرة مصرية تطوعية تعليمية وترفيهية) تأهيل أطفال غزة في مصر، مرتكزة على التعافي النفسي، من خلال تبني برامج مخصصة لتعليم أطفال غزة وعلاجهم من صدمات الحرب.

وختامًا، لا يمكن الجزم بمدى فاعلية جهود الدعم النفسي المقدمة إلى أطفال غزة، حيث يظل من المستحيل تحقيق تقدم كبير في مجال الصحة النفسية أو تطوير البرامج النفسية لأطفال غزة دون التوصل إلى حل سياسي يمنح الفلسطينيين الحق في تقرير المصير، حيث لن تكون الحرب الدائرة هي الحرب الأخيرة، طالما لم يفضِ اتفاق وقف إطلاق النار المنتظر إلى مضيّ الأطراف في مسار الحل السياسي الذي يكفل حل الدولتين، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينية، وفقًا لما أقرته الشرعية الدولية، وذلك حتى يتسنى البدء في تمكين الأطفال الفلسطينيين من إعادة بناء حياتهم.

وبناءً عليه، يجب على المجتمع الدولي تسليط الضوء على هؤلاء الأطفال والتفكير في سبل تقديم الدعم والعلاج النفسي لهم بجانب إعادة إعمار مدينتهم المنكوبة، الأمر الذي إذا تعذر تحققه خلال الفترة المقبلة، قد يسفر عن شباب بالغين لا يملكون أي قناعات أو أفكار مؤيدة لمسألة “السلام”، فمن شأن التعرض المستمر للعنف أن يتسبب في نشأة أجيال ترغب في الانتقام بشكل مستمر. كما يزيد من تعقيد هذه الإشكالية ما يتعرض له أطفال غزة من حرمان من الدراسة والتعليم جراء الدمار الذي لحق بالمدارس والمنشآت التعليمية داخل القطاع، الأمر الذي قد يؤدي إلى غياب الوعي لديهم في حال استمرار هذه المشكلة، ويجعلهم أكثر عرضة في المستقبل لتبني أفكار ومعتقدات خاطئة، تحمل أبعادًا متطرفة، وهو ما قد ينتج عنه تحول هؤلاء الأطفال في المستقبل إلى أشخاص متطرفين، يسهل على التنظيمات الإرهابية تجنيدهم داخل صفوفها.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M