مشاهد إيرانية من المسافة صفر

بعد اغتيال إسماعيل هنية فى قلب طهران، عقب ساعات معدودة من حدث يفترض أنه الأبرز على صعيد الدولة الإيرانية، وهو حفل تنصيب الرئيس الجديد. كان هنية أحد أهم المدعوين فالرجل قادم من خضم معركة استثنائية، يخوضها ضد إسرائيل، ومع الولايات المتحدة تفاوضيا لترتيب إنهائها والتباحث فيما بعدها من مستقبل للقطاع (دولته الافتراضية) ولحركته السياسية والمسلحة فيها. موقع الرجل من الدولة الإيرانية، ارتفع البعض بحده الأعلى ليصف «طوفان الأقصي» باعتبارها حربا إيرانية خالصة استخدمت فيها حماس بشكل مباشر، واستنفرت جميع الأذرع الإيرانية لتدخلها بأدوار متباينة غير مباشرة، تحت مظلة «وحدة الساحات». الحد الأدنى لمن اعتبر ما سبق مبالغة كبيرة، لم ينكر أن طهران هى الدولة الإقليمية الوحيدة تقريبا التى أعطت تأييدها السياسى للخطوة التى أشعلت الحرب على غزة، مع تزويد حماس وحركة «الجهاد» ببعض الإمداد التسليحى.

لذلك؛ وقبل ساعة واحدة كان هنية يحتل صدارة صور الاحتفال بتنصيب الرئيس مسعود بزشكيان، ولهذا أيضا مثلت عملية اغتيال هنية نقطة فارقة فى التعاطى الإيرانى مع مجمل المشهد، فالرمزية المكانية والزمانية ووزن الرجل فى علاقته بطهران، فضلا عن الغضب والحرج البالغ من استشعار حجم الاختراق الاستخباراتي. دفع الولايات المتحدة إلى المسارعة بتسخين وتطوير قنوات الاتصال بينها وبين طهران، فلديها قراءات دقيقة لمستويات احتمال الأجهزة الإيرانية لضربات من هذا النوع، وليس سرا بعد أن أفصح الرئيس بزشكيان فى محطة لاحقة، أن الولايات المتحدة طلبت بشكل جدى من طهران عدم الرد على هذه العملية الإسرائيلية انتظارا للوصول إلى تسوية، ستبدأ من غزة ولن تقف عند لبنان وترتيب أوضاع الحدود الجنوبية لها. واشنطن عادة فى مثل تلك المنعطفات الدقيقة، وتحت النار، لديها تكتيك تفاوضى عادة ما يحقق نجاحا بصورة أو أخري، هى تدفع الطرف المقابل إلى ترك المواقف التكتيكية التى يمكن تجاوزها والانتقال إلى التباحث على مستوى القضايا الاستراتيجية، كون الولايات المتحدة بمكانتها وبما يضمها مع الآخرين أيا كان موقعهم، لديها القدرة على صياغة حلول استراتيجية ترضى الطرف الآخر بالتأكيد فى حال الوصول لتحقيق مصالحه.

القضايا الإستراتيجية بالنسبة لإيران تتصدرها حماية البرنامج النووي، ورفع العقوبات المصحوب بإفساح المجال لها للعودة بشكل طبيعى إلى المجتمع الدولي، مع التسليم لها بهامش من حرية رعاية مصالحها بجوارها الإقليمي. هذه القضايا تعلمها واشنطن جيدا واستمعت لها مرارا من إيران، طوال جولات التفاوض مع إدارة الرئيس باراك أوباما، ويبدو أنه حتى اللحظة لا تمتلك واشنطن إجابات حاسمة بشأنها، لكنها فى أى الأحوال قامت باستخدام طرحها هذه المرة من أجل مغازلة الرئيس الإيرانى الجديد. وهو بدوره التقط الخيط وأعطى موافقته على اختبار هذا المسار، والتزم بما يقتضيه التباحث حول القضايا الاستراتيجية من الابتعاد خطوات للخلف عن مشاهد السخونة التكتيكية، التى تضرب الإقليم بتفاعلاتها كل ساعة. إسرائيل لعبت دور المخرب لمثل تلك التوافقات أكثر من مرة سابقا، فهى تتسمع طوال الوقت لجميع تفاصيلها وتزنها على ميزان معقد ومركب يتجاوز بكثير ما تفكر فيه الولايات المتحدة. نجحت من قبل فى إجهاض حصول إيران على مكاسب فى محطات إدارة أوباما، وعززت الأمر وقت إدارة الرئيس ترامب فتجمد كل ما جرى التوصل إليه، هذه المرة وهى فى خضم حرب مستعرة خططت لاستثمار خطوات التراجع الإيرانى المؤقت، بالضغط بأقصى ما يمكنها عمله على الساحة اللبنانية بحق قدرات «حزب الله» الذراع الأقوى لإيران، والأكثر تهديدا للمصالح الإسرائيلية المباشرة كما تبين خلال شهور «الحرب على غزة».

السباق مع الوقت؛ شهد إعداد الرئيس الإيرانى لجدول أعماله فى نيويورك للظهور بإيران جديدة نسبيا وواعدة أيضا، فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وأمام شاشات الإعلام الدولية. وبدا أنه نجح فى الحصول على موافقة من المرشد الأعلى وسماح مشروط من قيادات الحرس الثوري، دلالة ذلك أنه قام بتفكيك إشكاليات ضم «جواد ظريف» إلى طاقم العمل الرئاسي، وكان هذا بحسب توصية أمريكية لأهمية وجود وزير الخارجية السابق على رأس قناة الاتصال والتنسيق، لهذا كان عضوا بارزا فى الوفد الإيرانى ولعب هناك أدوارا أعدت مسبقا من أجل تعميق وتعزيز ما جرى الاتفاق بشأنه. على الجانب الآخر من السباق دفعت إسرائيل بكل قوة لتنفيذ عملية كبرى فى لبنان كل يوم، بدأت بما عرف بـ»هجمات البيجر» وصولا إلى اغتيال الأمين العام لحزب الله، وبينهما كانت هناك ضربات قوية للصفوف القيادية لا تقل تأثيرا على قدرات الحزب. المثير أن هذا التسارع كان يجرى فى وقت تحرك الوفد الإيرانى من طهران فى الوجهة إلى الولايات المتحدة، ولا سبيل أمامه للتراجع عن أجندته للحد الذى جعله يتابع عملية اغتيال حسن نصر الله من غرف إقامة الوفد فى نيويورك!

أحكمت إسرائيل مسوغات قيامها بشن حرب مفتوحة على لبنان، وتطوير مواجهتها مع إيران ممثلة فى حزب الله إلى مستوى متقدم، يتجاوز بمراحل دورهما فى الحرب على غزة. ودارت نشوة الانتصار برأس نيتانياهو للحد الذى جعله يتحدث عن ترتيبات جديدة للإقليم، يتم تفصيلها على المقياس السياسى والأمنى الإسرائيلى وحدها. هذه الانقلابات المتسارعة فى الأحداث، دفعت إيران دون شك لمراجعة هذا المسار، والبحث عن عودة من جديد لعقائدها السابقة ما أمكن. بدأت ذلك بتنفيذ هجومها الصاروخى المؤجل على إسرائيل، وبالتأكيد حمل من الرسائل ما يتجاوز رمزية هجوم أبريل الماضى، وتعكف حاليا على ترميم انكشافات السمعة التى تضررت بشدة داخل صفوف أذرعها، ناهيك عن الثغرات الأمنية الفادحة. لكن بحسب الطبيعة الإيرانية؛ حرصت فى الوقت ذاته على إبلاغ الولايات المتحدة بتلك الضربة مسبقا، تعبيرا عن استشعارها بإحباط وخذلان كبير، وضمانا لترك مساحات ولو ضيقة من الأبواب التى تعلم يقينا أنها ستحتاج لطرقها طوال الوقت.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M