السياسة الخارجية فى إقليم مضطرب

فى الشرق الأوسط المضطرب، تسعى السياسة الخارجية المصرية لتحقيق مصالح مصر العليا متجنبة التورط فى الصراعات الدامية الدائرة فى الإقليم. تجنب التورط فى صراعات الإقليم المسلحة هو هدف وخط سياسى صائب وسليم تماما. الحروب فى الشرق الأوسط تتكاثر كالفطر. حروب الشرق الأوسط طويلة، فالحروب التى بدأت فى المنطقة قبل عقد ونصف لم تنته ولا واحدة منها حتى الآن، بل أضيفت إليها حروب جديدة. حروب الشرق الأوسط لها بداية لكن ليس لها نهاية، الدخول فيها سهل جدا، بينما الخروج منها شديد الصعوبة.من الأفضل تجنب التورط فى الحرب لأن الخروج منها ليس بالأمر الهين.

مصر فى سباق مع الزمن لبناء نفسها وتعويض ما فاتها من فرص التنمية. تركز مصر مواردها الشحيحة من أجل البناء والتنمية، ولا تسمح لأجندات الآخرين بصرف نظرها عن المهمة المقدسة. التنمية فى مصر ليست فقط من أجل رفع مستوى المعيشة والرفاهية، فهى أيضا ضرورة من أجل الأمن القومي. حماية الأمن القومى فى عصر التقدم التكنولوجى والوفرة المالية هى مهمة باهظة التكلفة، تحتاج إلى اقتصاد متطور قادر على توليد فائض كاف لتمويل مهام حماية الأمن القومى، وتحتاج إلى قوة عمل راقية التكوين تعليما وتدريب الإنتاج وإدارة تكنولوجيات متقدمة لا غنى عنها لحماية الأمن القومي. تحقيق التنمية وحماية الأمن القومى مهمتان متلازمتان لا انفصال بينهما.

تحرص مصر على تجنب التورط فى صراعات الإقليم المسلحة، غير أن الشرق الأوسط المضطرب لا يكف عن إيصال التهديدات إلى باب دارنا، والإضرار بمصالحنا الحيوية. اليمين الحاكم فى إسرائيل يتحين اللحظة التى يمكنه فيها تهجير الآلاف من أهل غزة إلى سيناء المصرية، لتفريغ فلسطين من أهلها، والإجهاز على القضية، وتصدير أزمة إسرائيل إلى مصر. تهديد الملاحة فى البحر الأحمر، ومنع السفن والناقلات من الوصول إلى قناة السويس حرم مصر من مصدر للدخل بالنقد الأجنبى شديد الأهمية. السياسة المائية العدوانية التى تطبقها إثيوبيا تهدد نصيب مصر من مياه النيل، وتهدد الحياة والتنمية فى مصر. التراشق بالصواريخ والمسيرات بين الأطراف المتقاتلة يعرض أمن مصر للخطر. صراعات المذاهب والأديان والعرقيات فى الجوار البعيد والقريب توفر بيئة تلائم ازدهار جماعات الإرهاب التى عانينا منها الكثير. مصر لم تتحرش بأحد، ولم تسع للدخول فى صراعات، غير أن هذا لم يمنع حمم الاضطراب الإقليمى من الوصول إلى عتباتنا، ولم يردع بعضهم عن التحرش بنا.

الصراعات المتعددة فى الشرق الأوسط والاضطراب الشديد الذى تشهده المنطقة هو مخاض عسير لمنطقة يعاد تشكيلها. إسرائيل وإيران وقادة الميليشيات، كلهم يتحدثون عن تغيير وجه الشرق الأوسط. عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط هى عملية تاريخية طويلة، بدأت منذ غزا الأمريكيون العراق عام 2003، ومرت بمحطة الاضطرابات الثورية لعام 2011، ووصلت الآن إلى ذروة عالية غير مسبوقة، وإن كانت مازالت مفتوحة على مزيد من التصعيد.

بعض الدول من حولنا أصبحت أكبر حجما، تسيطر على أراض كانت حتى وقت قريب تابعة لدول أخرى. بعض الدول الأخرى أصبحت تقتسم السلطة والحكم مع الحكومات الشرعية فى دول مجاورة، فحولتها إلى كيانات تابعة. بعض البلاد من حولنا تم تقسيمها فعليا بين حكومات متصارعة، فيما يمكن اعتباره تقسيما فعليا قد يتحول لاحقا إلى تقسيم رسمى. بعد ثلاثة عقود من إعلان جمهورية أرض الصومال، تأتى إثيوبيا لتمنحها اعترافا رسميا. هذا نموذج قابل للتكرار مع دول أخرى فى إقليمنا المضطرب. قد تختفى دول، وتظهر أخرى، وقد يعاد رسم حدود دول، وتتغير أنظمة حكم، فيما تفشل بعض الدول تماما.هذا هو محتوى عملية إعادة التشكيل الراهن الجارية فى الشرق الأوسط.

لا أحد يعرف الشكل النهائى الذى ستأخذه المنطقة فى نهاية الاضطراب الراهن. منحتنا اتفاقات سايكس – بيكو شرق أوسط لم نرض عنه تماما، لكننا عرفناه وتعودنا عليه، وتعلمنا كيف نحمى مصالحنا فى إطاره. يصعب التنبؤ بشكل الشرق الأوسط الجارى تشكيله، وما إذا كنا سنجده ملائما يراعى مصالحنا الوطنية، وهو ما يستدعى المتابعة اللصيقة والدقيقة لما يجرى فى الإقليم من حولنا، والوجود قريبا من مواقع الأحداث، مستعدين لاتخاذ إجراءات مناسبة تحمى مصالح مصر الوطنية. ليس لدى مصر أحلام للتوسع والهيمنة مثلما هو الحال مع دول حولنا، وليس لديها خطط أو نيات لاقتناص أواختطاف شىء من أحد. مصر، فقط، تسعى لتجنب الإضرار بمصالحها الحيوية.التحدى هو أن حتى هذا الهدف المنطقى والمشروع يصعب تحقيقه بغير سياسة خارجية تمشى بعض خطوات قليلة فيما وراء تجنب التورط فى صراعات الإقليم. ربما كان ضروريا القبول ببعض المخاطرات المحدودة لتجنب مخاطر شديدة الخطورة. سياسة خارجية فعالة، تحمى المصالح الوطنية فى إقليم يتغير، وتتجنب التورط فى صراعات غير ضرورية. قاعدة تجنب التورط فى الصراعات هى نقطة الانطلاق الصحيحة، فى اتجاه تقدم انتقائى حذر يطبق نوعا من الدفاع المتقدم عن المصالح الوطنية.

التمسك بالدولة الوطنية وتعزيز قوتها ودورها هو موقف مصر المبدئى، وهو المبدأ الموجه لسياسة مصر الخارجية فى ظل كل هذا الاضطراب. السياسة الخارجية المصرية هى سياسة أخلاقية، والدولة هى أساسها الأخلاقى. أخلاق الدولة، فى مواجهة أخلاق العرقيات والقبائل والطوائف والمذاهب والأيديولوجيات والميليشيات هى الموجه للسياسة الخارجية المصرية فى زمن الاضطراب.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M