مقدمة:
شهدت الساحة الدولية تطورات عديدة أدت إلى حدوث تحولات وتغيرات في طبيعة التهديدات الأمنية والقضايا الدولية،كنتيجة لهذه التحولات في العلاقات الدولية المعاصرة، تتفاعل العديد من القضايا بمستويات وتأثيرات متنوعة،و توسعت الأجندة الأمنية لتشمل مواضيع متعددة أصبحت تفرض نفسها على المهتمين والباحثين في مجال العلاقات الدولية.
أصبحت المعضلة الأمنية في منطقة الساحل والصحراء معقدة للغاية، حيث ينظر إليها الكثيرون بتشاؤم وقلق كبيرين، ويصفونها بأنها مشكلة أمنية معقدة، ولم تقتصر تهديداتها على أفريقيا فقط بل امتدت آثارها غير المباشرة لتمثل تهديداً لأمن الدول العربية المجاورة والدول الأوروبية أيضاً، وبما أن ليبيا تقع بالقرب من هذه المنطقة الملتهبة، فإن الوضع الأمني في منطقة الساحل الإفريقي والصحراء يمثل تهديدًا كبيرًا للأمن القوميالليبي، كما تُعتبر هذه المنطقة محورًا لتحديات أمنية متعددة تشمل الجريمة المنظمة، والمخاطر السياسية، والاقتصادية، والقضايا الاجتماعية، والجرائم السيبرانية، والأنشطة الإرهابية التقليدية والمتقدمة، وتوفر البيئة الخصبة في هذه المنطقة ملاذًا للمنظمات الإرهابية المتطرفة، مما يجعلها مصدر قلق كبير للمؤسسات الأمنية الإقليمية والدولية، يمكن أن تؤدي الأنشطة الإرهابية والجريمة المنظمة في الساحل إلى زعزعة الاستقرار في ليبيا، مما يزيد من تفاقم التحديات الأمنية الداخلية ويؤثر بشكل كبير على الأمن القومي الليبي.
تعود نشأة مصطلح منطقة الساحل والصحراء إلى حقبة السبعينيات من القرن الماضي لتشير إلى الكتلة الجغرافية الممتدة من المحيط الأطلسي غرباً إلى البحر الأحمر شرقاً، وتضم تلك المنطقة دولاً مثل السنغال وموريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد والسودان ونيجيريا، كما دفعت الأحداث وتطوراتها المتلاحقة إلى أن يأخذ هذا المصطلح بُعداً جيوسياسياً لتندرج تحته مجموعة دول شمال أفريقيا[1]، ومن أبرز الملامح والقواسم التي تشترك فيها تلك الدول وعرفت بها هذه المنطقة أنها ساحل من الأزمات الممتدة على حدود تتجاوز 6343 كيلومتراً، وهذا الساحل المأزوم يرتبط بعدد من المعضلات الأمنية في مقدمتها أزمة بناء الدولة في هذه المنطقة، وتنامي الصراعات الإثنية مع ضعف شديد في الانتماء الوطني لسكانها والبنى الاقتصادية الهشة، إضافةً إلى ضعف الأداء السياسي وعدم الاستقرار، وتعاقب الانقلابات في معظم دولها (موريتانيا، ومالي، وبوركينافاسو، والنيجر)، وأخطر تلك المعضلات الانتشار الواسع لجميع أشكال الجريمة والعنف البنيوي، والجماعات الإرهابية المتطرفة[2].
إشكالية الدراسة:
تنطوي الدراسة على البعد الأمني في منطقة الساحل والصحراء وما مدى قدرة دولالجوار على تحقيق الاستقرار والأمن داخل هذه الدول المهددة بالانفصال، وكيفية الاستفادة من تجارب الدول المجاورة من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية كأحد الركائز التي يمكن أن تعتمد عليها الدولة بغية القضاء على التهديدات التي تأخذ النمط التقليدي والنمط غير التقليدي.
انطلاقا مما سبق يمكن عرض الاشكالية الرئيسية للدراسة على النحو التالي:
ما هي التداعيات المترتبة على تدهور الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل والصحراء على الأمن الوطني الليبي (سياسياً.. اقتصادياً.. اجتماعياً.. أمنياً).
أهداف الدراسة:
تهدف الدراسة إلى التركيز على أهم التحديات الأمنية والتهديدات في منطقة الساحل الافريقي التي تقف عائقا أمام تحقيق الاستقرار والأمن في ليبيا والتوجه نحو إرساء الدعائم الأساسية والضرورية قصدبناء الدولة، وكيف تؤثر هذه التحديات على عملية بناء الدولة في ليبيا.
أهمية الدراسة:
تكمن أهمية هذه الدراسة في ارتباطها بالوضع الحالي، حيث تعتبر منطقة الساحل والصحراء العمق الاستراتيجي للأمن القومي الليبي، مع تزايد التهديدات اللاتماثلية في المنطقة، أصبح الأمن القومي الليبي أكثر تهديدًا من أي وقت مضى، بالإضافة إلى الطموحات الأجنبية في بسط نفوذها على المنطقة على حساب أمن واستقرار الدول المجاورة، من هذا المنطلق أصبحت التهديدات الأمنية العابرة للحدود، خاصة في منطقة الساحل الأفريقي التي تمثل الامتداد الجغرافي لليبيا، ميداناً خصباً للدراسات الأمنية والأكاديمية بهدف رصد التهديدات والتحديات للدول المجاورة لهذه المنطقة.
فرضيات الدراسة:
- تدهور الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل والصحراء يؤثر سلبيا وبشكل كبير على الأمن الوطني الليبي.
- دور التحولات الاقليمية والدولية ينعكس سلبا على تدهور أوضاع الاقليم.
- تأثير الفواعل الاقليمية والدولية على استقرار دول الساحل جنوب الصحراء يساهم في اختلال المعادلة الامنية وارتدادات هذا الامر على تسوية الأزمة في ليبيا.
- كلما عززت الدول الإقليمية تعاونها، زادت قدرة دول الساحل والصحراء التغلب على التحديات والتهديدات الأمنية بالمنطقة.
منهجية الدراسة:
المنهج الوصفي:
هو طريقة من طرق التحيل والتفسير بشكل علمي منظم من أجل الوصول إلى أغراض محددة، ويعتمد على دراسة الظاهرة كما توجد في الواقع ويهتم بوصفها وصفا دقيقاً ويعبر عنها كميا وكيفا، من خلال البحث في الموضوع استخدمنا المنهج الوصفي لتوصيفالاوضاع الأمنية في منطقة الساحل والصحراء وأثارها على الأمن الوطني الليبي.
دراسة حالة:
وهو منهج يهدف الوصول إلى معلومات شاملة عن الحالة المدروسة، وذلك بالاهتمام بمختلف جوانبها وكذلك مختلف العوامل المؤثرة فيها، حيث يهدف الى التعمق في جوانب حالة لظاهرة معينة بهدف تثبيت الفهم بناء على كافة العوامل المؤثرة في تلك الحالة، وفي هذا الشأن قمنا باستخدام دراسة حالة الاوضاع الأمنية في منطقة الساحل والصحراء وأثارها على الأمن الوطني الليبي.
خطة البحث
ستتم دراسة الموضوع باعتماد تقسيم يشمل ثلاثة مباحث أساسية وكل مبحث ينبثق منه عدد من المطالب على النحو التالي:
- المبحث الأول: الأوضاع الأمنية من الناحية المفاهيمية.
- المطلب الأول: النماذج الدولية والإقليمية.
- المطلب الثاني: أهم الاستراتيجيات الاقليمية والدولية في التعامل مع التهديدات الأمنية.
- المبحث الثاني: منطقة الساحل والصحراء التهديدات الأمنية وأزمة بناء الدولة.
- المطلب الأول: جيوسياسية منطقة الساحل والصحراء.
- المطلب الثاني:التهديدات الأمنية بمنطقة الساحل والصحراء.
- المطلب الثالث:أزمة بناء الدولة في منطقة الساحل والصحراء.
- المبحث الثالث:أثر التحديات والتهديدات على الأمن الوطني الليبي.
- المطلب الأول: مفهوم ومقومات عملية بناء الدولة.
- المطلب الثاني: تأثير التحديات الأمنية على بناء الدولة الليبية.
- المطلب الثالث: طبيعة التهديدات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء على ليبيا.
- المطلب الرابع:استراتيجية ليبيا تجاه الساحل الافريقي.
- الخاتمة
المبحث الأول: الأوضاع الأمنية من الناحية المفاهيمية
تُعَد الأوضاع الأمنية في مناطق الساحل والصحراء معقدة وصعبة للغاية، وتعكس تحديات متعددة الأبعاد تواجهها الدول في هذه المناطق. من الناحية المفاهيمية، يمكن تحليل الأوضاع الأمنية من خلال عدة جوانب أهمها:
- التهديدات الإرهابية والتطرف: تنتشر في هذه المناطق جماعات مسلحة وتنظيمات إرهابية تستغل الفراغ الأمني والتضاريس الوعرة لتنفيذ هجماتها. ومن أبرز هذه التنظيمات “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” و”الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”.
- الصراعات الداخلية: تعاني بعض الدول من نزاعات داخلية بين الفصائل المسلحة والحكومة، كما هو الحال في مالي وتشاد. هذه الصراعات تُضعف قدرة الدول على بسط سيطرتها وتوفير الأمن.
- تهريب الأسلحة والمخدرات: يُعَد تهريب الأسلحة والمخدرات من أبرز التحديات الأمنية في هذه المناطق. الشبكات الإجرامية تستغل الحدود غير المحكمة وضعف الرقابة لتنفيذ عملياتها، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني.
4.النزوح والهجرة غير الشرعية: تتسبب النزاعات وانعدام الأمن في نزوح أعداد كبيرة من السكان، مما يؤدي إلى أزمات إنسانية. كما أن هذه المناطق تُستخدم كطرق عبور للمهاجرين غير الشرعيين نحو شمال أفريقيا وأوروبا.
5.التغير المناخي وتأثيراته: التغيرات المناخية تؤثر سلباً على الزراعة والرعي، مما يزيد من حدة الفقر والتنافس على الموارد الشحيحة، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى نزاعات إضافية.
6.ضعف البنية التحتية الأمنية: تعاني العديد من دول الساحل والصحراء من ضعف المؤسسات الأمنية وقلة التدريب والمعدات. هذا الضعف يُعقِّد من جهود التصدي للتهديدات الأمنية.
7.التدخلات الخارجية: تلعب القوى الإقليمية والدولية دوراً في المشهد الأمني، سواء من خلال التدخل العسكري المباشر أو الدعم اللوجستي والتدريبي للحكومات المحلية. هذه التدخلات قد تساعد في بعض الأحيان، لكنها قد تزيد من تعقيد الوضع في أحيان أخرى.
من خلال هذه الجوانب، يمكن فهم الأوضاع الأمنية في دول الساحل والصحراء بوصفها حالة من التداخل بين التحديات المحلية والإقليمية والدولية، مما يتطلب جهوداً منسقة وشاملة للتعامل معها.
- المطلب الأول: التكتلات الدولية والإقليمية لمواجهة التحديات المنية.
منطقة الساحل والصحراء تواجه تحديات أمنية واقتصادية متعددة، وللتعامل مع هذه التحديات، تم تشكيل عدة نماذج وتجمعات دولية وإقليمية تهدف إلى تعزيز التعاون بين دول المنطقة. وعلى سبيلالمثال:
- مجموعة دول الساحل الخمس (G5 Sahel).
تأسست في عام 2014 وتضم موريتانيا، مالي، بوركينا فاسو، النيجر، وتشاد. تهدف هذه المجموعة إلى تعزيز التعاون الأمني والتنموي بين الدول الأعضاء، مع التركيز على مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف، وتحقيق التنمية المستدامة.
- الاتحاد الأفريقي.
يعد الاتحاد الأفريقي منظمة قارية تشمل جميع الدول الأفريقية. يلعب الاتحاد دورًا هامًا في دعم السلام والأمن في منطقة الساحل والصحراء من خلال مبادرات متعددة مثل بعثات حفظ السلام ودعم العمليات العسكرية ضد الجماعات الإرهابية.
- الأمم المتحدة.
تقوم الأمم المتحدة عبر بعثات حفظ السلام مثل MINUSMA (بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي) بتقديم الدعم الأمني والإنساني لدول المنطقة. كما تقدم الأمم المتحدة مساعدات تنموية وإغاثية للتعامل مع الأزمات الإنسانية.
- الاتحاد الأوروبي.
يدعم الاتحاد الأوروبي دول الساحل والصحراء من خلال مبادرات مثل “تحالف الساحل”، الذي يهدف إلى تعزيز التنمية والأمن في المنطقة عبر تقديم الدعم المالي والتقني.
- برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP).
يعمل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي على تعزيز التنمية المستدامة في منطقة الساحل والصحراء من خلال مشروعات متعددة تهدف إلى تحسين الظروف المعيشية للسكان وتقوية البنية التحتية.
- البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
تقدم هذه المؤسسات المالية الدولية الدعم المالي والفني لدول المنطقة بهدف تعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار المالي.
- التعاون الثنائي والإقليمي.
بالإضافة إلى التجمعات الدولية، تقوم بعض الدول بتعزيز التعاون الثنائي والإقليمي فيما بينها لمواجهة التحديات المشتركة. مثال على ذلك هو التعاون بين الجزائر ومالي في مجال مكافحة الإرهاب.
- مبادرات المجتمع المدني.
تلعب منظمات المجتمع المدني دورًا كبيرًا في تعزيز السلام والتنمية المستدامة في المنطقة من خلال مشاريع تهدف إلى تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية.
- مبادرة الساحل الأفريقية.
هي مبادرة إقليمية تضم عدة دول تهدف إلى تعزيز التعاون في مجال الأمن والتنمية، وتعتبر امتدادًا لمبادرات سابقة مثل مجموعة دول الساحل الخمس.
من خلال هذه النماذج والتجمعات، تسعى دول الساحل والصحراء إلى التصدي للتحديات المعقدة التي تواجهها وتحقيق التنمية المستدامة لشعوبها.
- المطلب الثاني: أهم الاستراتيجيات الاقليمية والدولية في التعامل مع التهديدات الأمنية.
أهم الاستراتيجيات الاقليمية والدولية في التعامل مع التهديدات الأمنية لمنطقة:
- التعاون الإقليمي:
- مجموعة دول الساحل الخمس:(G5 Sahel)تضم موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد. تعمل هذه المجموعة على تعزيز التعاون الأمني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة.
- المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا:(ECOWAS) تعمل على تعزيز الاستقرار السياسي والأمني في المنطقة من خلال بعثات حفظ السلام والتعاون الأمني.
- الدعم الدولي:
- بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (MINUSMA) تهدف إلى استعادة الاستقرار والأمن في مالي بعد النزاعات المسلحة.
- عملية برخان: تقودها فرنسا وتهدف إلى مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل، مع تركيز خاص على مالي والنيجر وتشاد.
- التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
- مبادرات التنمية والتمويل: تقوم منظمات مثل البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي بتمويل مشاريع تنموية لتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية وتقليل الفقر، مما يساهم في تقليل التوترات الاجتماعية التي قد تؤدي إلى التطرف.
- البرامج التنموية للاتحاد الأوروبي: يدعم الاتحاد الأوروبي مشاريع تنموية تهدف إلى تعزيز الاستقرار في المنطقة.
- التدريب وبناء القدرات:
- البرامج التدريبية: تقدم دول مثل الولايات المتحدة وفرنسا برامج تدريبية لقوات الأمن المحلية لتعزيز قدراتها في مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة.
- مبادرات بناء القدرات: تعمل المنظمات الدولية مثل الاتحاد الإفريقي على تعزيز القدرات الأمنية للدول الأعضاء من خلال برامج تدريب وتطوير.
الجهود الدبلوماسية والسياسية:
- المفاوضات السلمية: تدعم الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي وغيرها من الجهات الفاعلة الدولية المفاوضات بين الحكومات والمجموعات المسلحة للوصول إلى حلول سلمية للنزاعات.
- تعزيز الحكم الرشيد: تعمل منظمات المجتمع المدني والدول المانحة على تعزيز الحكم الرشيد ومكافحة الفساد، مما يساهم في تعزيز الاستقرار.
تتطلب هذه الاستراتيجيات تنسيقاً وتعاوناً مكثفاً بين الدول والمنظمات المختلفة للتعامل بشكل فعال مع التحديات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء.
المبحث الثاني:منطقة الساحل والصحراء: التهديدات الأمنية وأزمة بناء الدولة
- المطلب الأول: جيوسياسية منطقة الساحل والصحراء.
يواجه الباحثون صعوبات منهجية تتمثل في التوصل إلى صياغة تعريف دقيق ومحدد لمنطقة الساحل والصحراء، حيث لم تتشكل صورة متماسكة في البحوث السياسية والأمنية حول هذا الفضاء، فالطبيعة الديناميكية الجيواستراتيجية التي تتميز بها المنطقة حالت دون وضع مفهوم حدود متفق عليها، وكنتيجة لهذه الاختلافات في تحديد المفهوم الجغرافي، لجأ الكثير من الباحثين والدارسين إلى رسم حدود أكثر مرونة للساحل الأفريقي، بحصره بين منطقة شمال أفريقيا وغربها.عرف الساحل الأفريقي في الأدبيات التاريخية بوصفه حزام التماس بين أفريقيا الشمالية (البيضاء) وأفريقيا جنوب الصحراء (السوداء)[3]،كما كانت تعرف هذه المنطقة ببلاد السودان، غير أن هذه التسمية يتم التمييز فيها بين السودان الغربي والسودان الشرقي، فالأول يضم المجال الذي يمتد من غرب دافور إلى المحيط الأطلسي بين موريتانيا والسنغال وغامبيا بين الشمال الشرقي في دارفور وما يليها شرقاً، أي السودان الحالي وأريتريا وجيبوتي، وظل هذان المحوران – أي الشرق والغرب – نشيطين وفاعلين، أما الصحراء الوسطى الداخلية، فإنها لم تشكل محوراً بنفس أهمية المحورين الشرقي والغربي، إلا أن التفاعلاتالحديثة، أخذت تشكل محوراً تاريخياً للصحراء يتأثر بمؤثرات المحورين معاً[4].
خريطة رقم (1) دول الساحل الأفريقي.
(المصدر:https%3A%2F%2Fwww.albayan.ae%2Fworld)
تحدد بعض الأبحاث الجغرافية لنادي الساحل وغرب أفريقيا الملحق بمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية كدراسة “فيليب هينريغ” بعنوان “التأثيرات الأمنية للتغير المناخي في الساحل: آفاق سياسية،” تلك المنطقة التي تقع بين خطي العرض °12و ،°22وبحسب الدراسة فإن الساحل يشمل أجزاء من اثني عشر بلداً وهي: جنوب موريتانيا ووسطها وشمال السنغال وغامبيا، وجنوب مالي، والنيجر وتشاد وأقصى شمال بوركينافاسو ونيجريا ووسط السودان وجنوبه وأريتريا وأقصى شمال أثيوبيا وجيبوتي، وبعض الدراسات تدمج دولاً كثيرة ضمن هذا المفهوم مثل: الجزائر أو أقاليم مثل: شمال مالي والنيجر[5].
كما يعرف الساحل الأفريقي انطلاقا من المشاكل والأزمات الأثنية التي يعرفها، وهو بذلك يضم كل من السودان، مالي، النيجر، تشاد، موريتانيا، وهو ما يعرف بقوس الأزمات[6].
إلا أن المفهوم السياسي للساحل والصحراء، عرف تمدداً واتساعاً، فهو لم يعد محصوراً في بلدان الساحل والصحراء المعروفة، ووفقاً للمعنى الجغرافي، وإنما توسع بحسب إعادة التعاريف المتكررة للإقليم، ويلاحظ أن منظمة “تجمع دول الساحل والصحراء” تضم عدداً من البلدان الأفريقية التي لا يسري عليها المفهوم المحدد جغرافياً للساحل والصحراء، مثل أفريقيا الوسطى. ويشار هذا إلى أن الاتفاقية المعدلة لهذا التجمع – إثر قمة أنجمينا في فبراير 2013م – تضمنت ما يفيد تحديد بلدان التجمع في بلدان الساحل والصحراء والبلدان المتاخمة، ومن جهة أخرى، غالباً ما ُتقحم الأبحاث السياسية والاقتصادية بلداناً شبيهة سياسياً أو اقتصاديا بباقي بلدان الساحل، أو متفاعلة معه ضمن هذا المفهوم[7].يضاف إلى ذلك، أن “تجمع دول الساحل والصحراء” يعكس بدوره هذا المزج بين دول ساحلية صحراوية وأخرى أفريقية متاخمة أو مجاورة للساحل، هو بذلك يعكس هذه النزعة الجيوسياسية، وبالتالي فإن شساعة المجال الجغرافي للساحل الأفريقي خلقت نوعا من الاختلاف حول أي من الدول هي التي تنتمي إلى هذا المجال.
- المطلب الثاني: التهديدات الأمنية بالمنطقة.
إن العلاقة بين مفهومي “الأمن” و”التهديد” علاقة تأثير متبادل، ولتفسير مفهوم “الأمن” لابد من تحديد مصادر التهديد أولاً، فالباعث على الشعور بالخطر أو التهديد يستدعي الحاجة إلى اتخاذ إجراءات تهدف إلى تحقيق الأمن، تلك الحاجة التي من الطبيعي أن تكون متوافقة مع المخاطر أو التهديدات الفعلية أو المحتملة[8].
إن مفهوم الأمن من المفاهيم التي ليس لها تعريف محدد متفق عليه، باعتباره مفهوم نسبي ومتغير ومركب وذو أبعاد عدة ومستويات متنوعة، يتعرض لتحديات وتهديدات مباشرة وغير مباشرة من مصادر مختلفة من حيث درجاتها وأنواعها وأبعادها، فقد عرف بأنه “تأمين سلامة الدولة ضد أخطار خارجية وداخلية قد تؤدي بها إلى الوقوع تحت سيطرة أجنبية نتيجة ضغوط خارجية أو انهيارداخلي[9].
يعرف “ريتشارد أولمن،” التهديد بأنه “ذلك العمل أو تتابع الأحداث الذييهدد بصورة عنيفة نمط العيش الذي يتبناه سكان الدول،أو الذي من شأنه أن يحد من البدائل المطروحة أمام الدول أو الهيئات غير الحكومية (أفراداً، جماعات، ومؤسسات) داخل الدولة. والتهديد في مفهومه الإستراتيجي هو “بلوغ تعارض المصالح والغايات القومية مرحلة يتعذر معها إيجاد حل سلمي يوفر للدول الحد الأدنى من أمنها السياسي والاقتصاديوالاجتماعي والعسكري مقابل قصور قدراتها لموازنة الضغوط الخارجية، الأمر الذي يضطر الأطراف المتصارعة إلى اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية، معرضة الأطراف الأخرى للتهديد[10].
إن تحليل مفهوم التهديدات ينطلق من فهم حقيقة التحولات الدولية والإقليمية وانعكاساتها على صعيد الأمن، فتلك التحولات أدت إلى تحولات مماثلة لمصادر التهديد، من بروز إشكالية عدم اليقين وهي وانعدام القدرة على التحديد الدقيق لمصادر التهديد، مما يؤدي إلى تعدد الرؤى حول أساليب ووسائل وإستراتيجيات تحقيق الأمن، وبالتالي فإن دراسة أبعاد ومصادر وأنواع التهديدات ضرورة لابد منها لتحديد العمل الإستراتيجي الجماعي لدرء تلك التهديدات وإدراك أبعادها ومصادرها لصياغة رؤية مشتركة لمواجهتها أو التقليل من مخاطرها.
ويعتبر اتساع نطاق التهديد الأمني وتعدد مصادر التهديد من أهم ملامح الظاهرة الأمنية في الواقع المعاصر، حيث أصبحت هنالك مصادر تهديد داخلية، ومصادر تهديد من دول الجوار، هذا بالإضافة إلى مصادر تهديد سياسية تنتج عن الانقسامات القبلية والطائفية والعرقية وما ينتج عنها من قلاقل داخلية. كما أن هناك مصادر تهديد اجتماعية ناتجة عن البطالة والمشكلات الناتجة عن أساليب توزيع الدخل والإخلال بمعايير العدالة الاجتماعية وغيرها[11].
لقد تغيرت هيكلة وخارطة المخاطر والتهديدات الأمنية من نمط تقليدي، إلى نمط جديد أصطلح عليه بـ”التهديدات اللاتماثلية” وبصورة أحدث “التهديد الهجين”كتعبير عن زيادة التعقيد والحركية والتطور المستمر الذي يمس الظاهرة الأمنية، فالتهديدات التماثلية تطلق علىالنمط التقليدي للتهديدات التي تتميز بالطابع العسكري الذي بين الدول، إلا أن التهديدات اللاتماثلية وهي التهديدات المرتبطة بمشاكل الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي والنزاعات الداخلية وما يصحبها من انتهاكات لحقوق الإنسان والإبادة الجماعية، والتي تجد في الدول غير المسؤولة أو الفاشلة مكاناً مثالياً لها، مشكلة بذلك ما اصطلح عليه بالتهديدات اللاتماثلية أو اللاتناظرية أو غير المتكافئة، حيث تكون بين فاعلين غير متكافئين من حيث القوة، وعادة ما يكون هذا النمط من التهديدات وسيلة للتعويض عن نقص في الموارد المتعلقة بالطرف الضعيف الذي يستخدم التهديد من خلال الاعتماد على أساليب ووسائل متعددة يستهدف من خلالها المساس بنقاط الضعف للطرف الأقوى، وتم استعمال مصطلح التهديدات اللاتماثلية في الولايات المتحدة لتوصيف المخاطر الجديدة التي تواجه الأمن القومي الأمريكي على النحو الآتي:
- التهديدات الجديدة التي تتميز بعنصر المفاجأة والحركية وغير المألوفة.
- الأساليب والتكتيكات العملية الجديدة التي تستخدمها المجموعات لتهديد الأمن القومي الأمريكي.
- غموض وصعوبة تحديد ماهية العدو المهدد للأمن القومي الأمريكي.
إضافة إلى التهديدات اللاتماثلية ظهر مفهوم آخر هو “التهديدات الهجينة “والتي يعرفها “فرانك هوفمان” بأنها “تتضمن مجموعة كاملة من الوسائط المختلفة من الحرب بمافي ذلك القدراتالنظامية والتكتيكات والتشكيلات غير النظامية والأعمال الإرهابية، بما في ذلك العنف العشوائي والإكراهوالإجرام، وتتواجد التهديدات الهجينة بكثرة في الأقاليم التيلم تعد خاضعة لسيطرة الدولة، وتتميز بسرعة الانتشار وتتعلق بفواعل غير دولية تجمعبين استخدامالوسائل التقليدية والوسائل الحديثة في عملية التهديد مثل الحرب والجريمة المنظمة والإرهاب والأعمالالتخريبية والتحكم في التكنولوجيا واختراق المواقع الإلكترونية، وتتميز أيضاً بتعدد أشكالها وطبيعتهاالمستعصية الفهم، نظراً لغموضها وكثرة تفاعلاتها وتفرعاتها، كما تمثل التهديدات الهجينةخصمايصعب معرفته وتحديده وتوقع أعماله ونتائجها[12].
- المطلب الثالث: أزمة بناء الدولة في منطقة الساحل والصحراء.
تعكس أزمة بناء الدولة إحدى المعضلات الأمنية الخطيرة التي تعانيها أفريقيا عامة ومنطقة الساحل الأفريقي على وجه الخصوص، ومن هنا فقد تمحورت التساؤلات الأساسية حول محددات السياق والمضمون لظاهرة أزمة بناء الدولة في هذه الدول، إذ يذهب فريق من الباحثين إلى اعتبار العامل الإثني والتقسيم التعسفي للحدود دون مراعاة للخصوصية المجتمعية متغيراً رئيساً على غرار دراسات “توال فرانسوا” وهناك من يرجعها إلى الطبيعة القيادية في ظل أنظمة زبائنية، قامة عل التسييس والشخصنة لخدمة المصلحة الخاصة ومن ذلك دراسات “رينيهلومارشون”. كما رجح فريق آخر على دور العوامل الاقتصادية وضعف التنمية، فيما ركز آخرون على ما يعرف حالياً بـ “اقتصاد الحرب” ما يحدثه من انعكاسات محفزة على الانقسام وعدم الاستقرار وإفراز بيئة من اللاأمن تغيب فيها سلطة الدولة.
إن فكرة الدولة في حد ذاتها تتجسد في كل من شخص الرئيس القائد والزعيم والحزب القائد الطليعي الواحد، وكذا القبيلة والمنطقة والجهة والعرق، وعليه عرفت الدولة الأفريقية عموماً وفي منطقة الساحل والصحراء بصفة خاصة ما يسمى “العصب العسكرية – المدنية، وهي العوامل التي جعلت الدولة في الساحل والصحراء تفشل في بناء كيانات حديثة تضمن الوحدة الترابية لأقاليمها، وهو ما يدفع إلى القول أن العجز الوظيفي للدولة في هذه المنطقة هو أحد المسببات الرئيسية للمشاكل الممتدة على المستوى المحلي والإقليمي والدولي[13].
تعاني الدول في منطقة الساحل والصحراء من عُدة أزمات، منها:
.1أزمة الهوية والاندماج الوطني:
رافقت هذه الأزمة عملية بناء الدولة في منطقة الساحل والصحراء نتيجة للفشل الذي عرفته تلك الدول في التعامل مع التعدد الإثني واللغوي والديني الذي تتميز به تلك المجتمعات المحلية، فمن الخصائص الرئيسية في منطقة الساحل والصحراء التنوع العرقي والإثني، حيث تنقسم الأجناس العرقية إلى قسمين رئيسيين، الجنس الأبيض، ذو البشرة الفاتحة، الذي يتمركز في الجزء الشمالي للساحل، “والجنس الأسود” ذو البشرة السوداء الذي يتمركز في الجزء الجنوبي، لكن ضمن هذين القسمين الرئيسيين تتفرع مجموعات إثنية أخرى الأمر الذي جعل هذه المنطقة تعرف نزاعات إثنية وعرقية عديدة، أبرزها على الخصوص قضية الطوارق ، وما تطرحه من تحديات سياسية ومجتمعية وأمنية على حد سواء، وخصوصاً وأن هذه الأقلية عاشت في كنف التهميش والإقصاء في الدول التي تحتضنها [14].
وبالتالي فإن التركيبة الاجتماعية والديمغرافية المتنوعة لهذه الدول جعلت من مستوى التجانس الاجتماعي ضعيفاً، خاصة مع غياب الثقافة الوطنية الموحدة التي نتج منها ُعدة أزمات واضطرابات عرقية كما في موريتانيا والحرب الأهلية في دارفور والصراعات القبلية والإثنية في تشاد، والتي تتغذى في أغلبها على انعدام العدالة التوزيعية وسوء توزيع الثروات الاقتصادية. يضاف إلى ذلك إخفاق عمليات الاندماج الوطني في هذه الدول نتيجة للسياسات الاستعمارية في ترسيم الحدود التي لم تراع خصوصيات توزيع المجتمع، ولذلك عانت هذه الدول من غياب الشعور المشترك بين الجماعات العرقية بالانتماء إلى كيان سياسي موحد خاصة عندما تكون تلك المجموعات موزعة في أكثر من دولة، وبالتالي غياب فكرة المواطنة بين افراد المجتمع، مع تعدد الولاءات السياسية داخل المجتمع الواحد.
لذلك فإن مؤسسات الدولة تتحول إلى مجرد عاملة في خدمة العصبية وتعميق أزمة الاندماج، كما أن غياب المؤسسية هو السمة المشتركة في كثير من مؤسسات دول الساحل الأفريقي لارتباطهاباتجاهات عرقية وقبلية وطائفية. كما أدى غياب وضعف فلسفة المواطنة في هذه الدول إلى انتشار الفساد السياسي، وضعف الأداء المؤسسي، إلى استحالة بناء آليات الوقاية أو حل النزاعات الداخلية.
.2أزمة التغلغل:
إن ضعف الدول في ممارسة الرقابة على المجال مرتبط بمشكلة بنيوية لتشّكل الدول، فالرقابة على المجالات الصحراوية الواسعة لا يمكن أن تشبه في كل الحالات الرقابة على السهول الصالحة للزراعة، ففي الأخيرة تميل الجماعات إلى تنظيم نفسها سريعاً للاستفادة من عائدات السهول، و على العكس من ذلك ففي الصحراء تركز الحكومات جهودها على أماكن الثروة مثل: حقول النفط، وتحتاج الدولة إلى موارد هائلة لممارسة مستوى دائم من التأهب الأمني والعسكري في الصحراء [15].
فالدولة في الساحل والصحراء تعيش صعوبات تتعلق بالجغرافية السياسية الداخلية، نظراً لعدم التحكم والسيطرة على أراضيها الشاسعة، ومرد ذلك إلى قلة الإمكانيات المتاحة والفشل الذي تعيش فيه، وهو الأمر الذي من شأنه أن يُغذي حالة عدم الاستقرار في هذه المنطقة، من خلال تقاسم فواعل من غير الدول السُلطة مع السلطة المركزية، وهو ما جعل العديد من الخبراء يعتقدون أن منطقة الساحل والصحراء منطقة تعاني من سوء الإدارة والتسيير، ولذا فإن انكشافية الدولة في الساحل والصحراء في العمق تنبع من انكشافية الدولة نفسها.
.3أزمة الشرعية السياسية:
تمثل شرعية النظام السياسي أحد اهم مقومات الدولة واستمراريتها، تتعلق هذه الأزمة بعدم قابلية المواطنين لنظام سياسي معين، على اعتبار أنه غير شرعي ولها ارتباط أيضاً بطبيعة الُسلطة ومسؤوليات الحكومة، بحيث ُتثار العلاقة بين السلطة المركزية والسلطة المحلية، إضافة إلى غياب التداول السلمي للسلطة، حيث يكون انتقال السلطة بموت الحاكم أو بانقلاب عسكري أو بتوريث سياسي.
وقد ارتبطت أزمة الشرعية ارتباطا وثيقاً بعملية بناء الدولة في أفريقيا عامة، ودول الساحل والصحراء على وجه الخصوص، حيث تمثلت في أساليب القمع والإرهاب، وفرض القوانين والدساتير التي عادة ما تعلق ويتم العمل بالأحكام العرفية، بالإضافة إلى الاعتماد على الانقلابات العسكرية كطريقة للوصول إلى السلطة، وهو ما يتنافى والديمقراطية، أما بالنسبة لحق المشاركة السياسية فنجد كثيراً من القيادات الحاكمة تغلق المجال السياسي، أو تقننه بما يخدم مصالحها وأهدافها.
.4أزمة المشاركة السياسية:
تقدم إشكالية المشاركة السياسية وجهاً من وجوه ازمة السياسة والحياة السياسية في منطقة الساحلوالصحراء، ويفترض مفهوم المشاركة السياسية أن ثمة مواطن ينبغي أن يشارك في الشؤون السياسية، كما يعني ضمناً أن هناك اعتقاد أن مشاركة المواطن لها تأثير في عملية صنع القرار، فالمشاركة السياسية هي “إسهام أو انشغال المواطن بالمسائل السياسية داخل نطاق مجتمع معين، سواء كان هذا الانشغال عن طريق الرفض أو التأييد أو المقاومة أو التظاهر السلمي.
تميزت العملية السياسية في جميع بلدان الساحل والصحراء باختلالات هيكلية عميقة، بالإضافة إلى طبيعة الأنظمة السياسية المغلقة وضعف المشاركة السياسية، وانعدام وتقييد حرية التعبير والإعلام، وهي من السمات الأصلية للواقع في دول الساحل والصحراء، فضلاً عن علاقة ذلك بدرجة “المأسسة” وهي السمة الغالبة بدى جميع دول الساحل والصحراء، ولهذا يربط “صاموئيل هنتغتون” بين المأسسة والمشاركة السياسية و الاستقرار السياسي، حيث يرى أن تحقيق هذا الأمر مرهون بمدى بناء مؤسسات سياسة تنظم عمليةالمشاركة السياسية وفي ذات الوقت تحول دون انعدامالاستقرار {16}.
.5أزمة التوزيع والفشل الاقتصادي:
عكس أزمة التنمية في الساحل والصحراء أحد أهم جوانب المشكلة الأمنية في المنطقة، ويمثل توزيع الموارد في هذه الدول إحدى الظواهر البارزة فيها، حيث تنفرد القلة بمعظم الموارد المتاحة، ويقع عبء الحرمان على الأغلبية، وتبرز أزمة التوزيع إشكالية تفاوت طبقي حاد وهو ما يتسبب في صراعات داخلية.
كما أن من شأن هذا التفاوت الطبقي إثارة الاستقرار وتهديده، وهو ما يظهر جلياً في مالي، والنيجر من خلال العصيان والتمرد المستمر من مختلف الأقليات، ويمكن إيعاز تفاقم هذه الأزمة إلىظاهرة الفساد السياسي التي قوامها استخدام السلطة من أجل تحقيق أهداف ذاتية، ويُعد الفساد المزمن أحد الأسباب الرئيسية لانعدام الاستقرار وغياب الأمن في المنطقة وأحد أكبر معوقات العدالة الاجتماعية. ويلاحظ أن الدول المعنية تعرف مستويات مؤكدة من الفساد والذي يسهم في إضعافها، وهي لا تعيش وضعية إدارية داخلية مستقرة.
تعتبر منطقة الساحل والصحراء من أفقر مناطق العالم، وتتميز اقتصاديات دولها بالهشاشة والتدهور حيث أن معظمها تصنف حالياً ضمن فئة البلدان الأقل نمواً، والتي تعاني من ُعدة اختلالاتاقتصادية ومن فساد سياسي واقتصادي، وبالإضافة إلى الديون الكبيرة التي تعاني منها هذه الدول.
كذلك فإن دول الساحل والصحراء تعاني من اقتصاديات متدهورة، ففي الميدان الزراعي، نجد ان الموارد الزراعية غير مستقرة في معظم دول الساحل والصحراء نتيجة للظروف المناخية الصعبة (الجفاف والتصحر). كذلك فإن الفقر والبطالة المتزايدة هي مصادر لفقدان الأمل، مما يهيئ أرضية خصبة للتمرد والتطرف ومن ثم العسكرة، وهو ما يشكل أرضية غير مواتية للاستثمار الأجنبي المباشر والذي يعتبر شرطاً أساسياً لعملية التصنيع
لذلك تعتبر أزمة بناء الدولة الوطنية إحدى المعضلات الأمنية الجسام التي تعانيها دول منطقة الساحل والصحراء، وذلك على خلفية الرواسب التاريخية التي أنتجتها مشكلة الحدود الجغرافية المتوارثة عن الحقبة الاستعمارية والتي لم تراع خصوصيات المجتمعات المختلفة، مما جعل العملية السياسية في هذه الدول تتميز باختلالات هيكلية عميقة، وبالتالي عجزت هذه الدول عن بناء كيانات حديثة تضمن الوحدة الترابية لأقاليمها.
المبحث الثالث: أثر التحديات والتهديدات على الأمن الوطني الليبي
المطلب الأول: أثر التحديات الأمنية على عملية بناء الدولة في ليبيا
أولاُ: بناء الدولة:
يعرف القانون الدولة “: بأنّا مؤسسة تمارس سيطرتها السياسية على إقليم وشعب محددين ” أو أنّا “التنظيم السياسي والقانوني للأمة التي تجسدها”. ويضيف مؤلف ومعجم الحقوق الدستورية ” بأن الدولة شخصية اعتبارية تمتاز بحيازة سلطات القدرة العامة، بإخضاع التبعيات المرتبطة بها.
أما بناء الدولة هو مصطلح عام يستخدم لوصف (إعادة) البناء الوظيفي البلدان، وبعبارة أخرى البلدان التي قادرة على تزويد مواطنيها بالوظائف والخدمات الأساسية، بناء الدولة هو دائما ذاتي المنشأ العملية التي يجب أن تتم على المستوى المحلي. يجب على الأطراف الخارجية تقديم الدعم فقط
يعرف فرانسيس فوكوياما بناء الدولة على أنّها تقوية المؤسسات القائمة وبناء مؤسسات جديدة فاعلة وقادرة على الاكتفاء الذاتي، ومدى قدرتها عبر مختلف وظائفها وأنشطتها ومجالاتها على توفير الأمن والنظام والمرافق والخدمات على المستوى الداخلي من جهة، والدفاع عن الوطن ضد الغزو الخارجي والتعليم وحماية البيئة، ورسم السياسات الصناعية والاجتماعية وإعادة توزيع الثروات، بمعنى قوة الدولة وقدرتها المؤسساتية والإدارية على تنظيم السياسات وسن الأنظمة والقوانين ووضعها موضع التنفيذ[17].
وبناء الدولة هو خلق وتقوية المؤسسات اللازمة لدعم الاقتصاد والتنمية الاجتماعية والسياسية على المدى الطويل وتشمل مؤسسات الدولة.
الهيئة التشريعية: لسن القوانين.
الأنظمة القضائية: لتفسير القوانين.
الوكالات التنفيذية: مثل الإدارات، الخزنة، التعليم، النقل والتجارة.
قوات الشرطة والجيش: لتوفير الأمن.
ثانيا: عوامل بناء الدولة:
ويبرز إسهام ابن خلدون في التنظير لعملية بناء الدولة من خلال تحديد العوامل الفاعلة ذات الأثر الحاسم في التجربة الحضارية الإسلامية عموما، وتشكل الدولة تحديدا فهذه العوامل هي:[18]
- الايدولوجيا، مما يقصده في هذا المجال الدين، الذي يعتبر شرطا ضروريا لقيام دولة العرب ولكن غير كافي لان الدعوة الدينية نفسها، وهي تستهدف تغيير الأوضاع القائمة، لا تتم إلا عندما تتبناها جماعة قوية بعددها، ملتحمة بعصبيتها.
- العصبية التي لعبت دورا كبيرا وأساسيا في عدم استقرار الحكم في تاريخ الإسلام وقصر أمد الدولة فيه. إنالتاريخ الإسلامي في نظر ابن خلدون كان تاريخ صراع عصبيات، اكتسى في معظم الأحوال غطاءات دينيا، لكنفي العمق كان يحركه “النحلة المعاشية”.
- مما يدل على حضور العامل الاقتصادي بقوة في تفسير هذه الظاهرة، بالإضافة إلى تأثير الطبيعة والمناخ “الخصب والجدب” كما يسميه.
بشكل عام تتمثل مقومات الدولة أساسا فيما يلي:
– القدرة على بسط الأمن.
– ترسيخ سلطة الدولة على كامل التراب الوطني.
ومنه تعتبر عملية بناء الدولة من مستلزمات تحقيق التنمية والأمن والاستقرار، ذلك أن مفهوم بناء الدولة يعني إنشاء مؤسسات حكومية جديدة وتقوية الموجودة منها على أسس دستوريةوقانونية تتميز بالفاعلية والرشادة الحكيمةفي أداء مهامها، وتؤسس لبناء الثقة بين الحاكموالمحكوم، مع وجود أبنية اجتماعية مستقرة يحكمها التفاعل، والتراضيوالتعايش بين مختلف مكونات المجتمع.
- المطلب الثاني: تأثير التحديات الأمنية على بناء الدولة الليبية.
يبرز أثر التحديات الأمنية على عملية بناء الدولة في ليبيا من خلال مجموعة من النقاط أهمها التأثير الكبير والمباشر للتدخلات الدولية سواء من الإقليمية أو الدولية، وكذا الانتشار الكبير للأسلحة في الداخل الليبي وما صاحبه من زيادة كبيرة في عدد الميليشيات والذي ساهم في تأزم كبير للوضع الأمني في ليبيا.
أولاً: أثر التدخل الدولي على بناء الدولة في ليبيا:
تثير تجربة التدخل الدولي في ليبيا، عبر الأمم المتحدة، الجدل حول أهداف الأمم المتحدة وسياساتها تجاه الاستقرار السياسي، وخصوصا فيما يرتبط بالآثار السياسية المترتبة على قرارات مجلس الأمن منذ اندلاع ثورة 17 فيفري .2011وهنا يمكن الإشارة إلى انه على الرغم من سقوط معمر القذافي، فقد تراجعت المساهمات الدولية في بناء نظام سياسي جديد في ليبيا، بشكل أدى إلى دخول الدولة في حالة فوضى دستورية وسياسية[19].
من الناحية القانونية، استند التدخل الدولي إلى مفهوم مسؤولية الحماية الذي جاء بمنزلة تطوير سياسات التدخل في الشؤون الداخلية. وفي حالة ليبيا، مرت سياسات الأمم المتحدة بمرحلتين، كانت الأولى متمثلة في التدخل العسكري ( حلف الأطلسي) وفرض عقوبات واسعة على الحكومة الليبية وحصارها دوليا، أما المرحلة الأخرى فقد اتسمت بوضع ليبيا تحت المفهوم الواسع للتدخل، بحيث يمتد دورها إلى متابعة بناء النظام السياسي الجديد ورعايته، فالتدخل هنا يهدف إلى دعم المرحلة الانتقالية ودعم العملية السياسية، وفي حين انحسر الاهتمام التدخل الدولي في الإطاحة بمعمر القذافي، فقد اتسمت المرحلة اللاحقة بغياب تصور لبناء نموذج للانتقال السياسي، فيما انخفض دور المنظمة الدولية من مستوى الإكراه على فرض سياسات لبناء النظام الجديد، إلى مستوى الإشراف على العمليات السياسية ومتابعتها. وكانتسياسات (بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا) أكثر ارتباطا برؤية (المبعوث الخاص)، وهو ما يثير النقاش حول تغير سياسة الأمم المتحدة تجاه التعامل مع الأزمة الليبية[20].
من خلال التدخل الدولي في ليبيا، نجد أن هذا التدخل له تأثير سلبي على ليبيا من خلال:
قيام قوات حلف الناتو إلى بقصف مواقع مدنية ومقرات حكومية لا تتسم بأهمية عسكرية واضحة مما أدى إلى سقوط ضحايا من المدنيين، بالإضافة إلى تقديم الدعم للثوار بكل أنواع الأسلحة ولقد أدى التدخل العسكري المدعوم بالمال والسلاح إلى زيادة الاعتبارات والاختلافات القبلية وتوظيفها بشكل سلبي.
مساعدة التدخل العسكري لانتشار جماعات العنف والسلاح التي ساعدت في تلغيم الساحة الأمنية الليبية، حيث وجدت التنظيمات المتطرفة بيئة مناسبة لممارسة أنشطتها الإرهابية إلى جانب إطالة مدة الصراع وتضاعف عدد الضحايا وتعرض عدد من المدنيين للتعذيب والقتل من قبل ميليشيات مسلحة وكانت بمساعدة غربية، كل ذلك قاد إلى تكريس انتهاك حقوق الإنسان.
تشجيع المزيد من توريد الأسلحة التي وصلت حسب تقديرات الأمم المتحدة إلى ما بين 28 ،22مليون قطعة سلاح ووجود أكثر من عشرة ألاف تاجر سلاح في ليبيا، وهذه التجارة غير الشرعية للسلاح أدت إلى تأثيرات قبلية واجتماعية كبيرةـ وأدت إلى زيادة حدة الصراعات بين القيادات العسكرية.
ساهم التدخل الدولي في نشر الفوضى خصوصا على الحدود، حيث أن تأمين الحدود أصبح من ضمن التحديات التي تواجهها ليبيا[21].
ثانياً: أثر انتشار الأسلحة والميليشيات على الوضع في ليبيا
يعتبر الانتشار الواسع والكثيف للأسلحة في ليبيا، فاعلا رئيسيا في استمرار تأزم الأوضاع الأمنية فيها. من خلال سيطرة كل الفصائل السياسية والقوى الفاعلة فيها عليه، وبالخصوص أن هذه القوى لها أعضاء في مختلف الميليشيات والكتائب التابعة للثوار، وتمتلك السلاح الكثير بمختلف الأنواع، الخفيف منه والمتوسط والثقيل من مسدسات وكلاشينكوف، إلى مضادات الطيران وراجمات الصواريخ ومدافع الهاون وغيرها من الأسلحة الفتاكة والمدمرة التي باتت تهدد الاستقرار السياسي والأمن الإنساني في ليبيا وجوارها، والسيطرة الكاملة على كل مخازن الأسلحة والعتاد الموجود في كل البلاد، والتي كان يعززها القذافي طوال فترة حكمه، ولعل احد أهم تجليات انتشار السلاح داخل ليبيا هو عسكرة القبيلة، حيث تتنافس القبائل على التسلح دفاعا عن مصالحها أو عدم تهميشها في مرحلة تقسيم الثروة والسلطة بعد القذافي، ولعل أبرز دليل على ذلك، الاشتباكات التي دارت في الكفرة جنوب ليبيا بين قبائل التبو ذات الأصول الإفريقية التي تشكو من التهميش، والزوي ذات الأصول العربية[22].
المطلب الثالث: طبيعية التهديدات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء على ليبيا.
أولا- التهديدات الإرهابية
عرف منطقة الساحل الإفريقي حركية متنامية للإرهاب العابر للحدود الذي أصبح يمثل ظاهرة عالمية منتشرة في جميع مناطق العالم، بل أصبحت تنظيمات عالمية متعددة الفروع والشبكات كتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي(AQMI)الذي يعتبر كفرع إقليمي من التنظيم العالمي للقاعدة منذ 2007م، إلى جانب الجماعة الإسلامية للقتال الليبية، والجماعة الإسلامية للقتال التونسية، ، وبوكو حرام، والمرابطين في نيجيريا، وكتائب ماسينا في مالي، مما أدى إلى تنامي التواجد العسكري الأجنبي بطريقة مباشرة وغير مباشرة، أمام هشاشة الدول وعجزها في مواجهة هذه الموجات الإرهابية.
استطاعت التنظيمات الإرهابية استغلال التعقيدات السياسية والامنية في المنطقة، التي تتأرجح بين المناطق الصحراوية الشاسعة، وبين المناطق الاستوائية التي يغلب عليها الطابع الغابي، وهو ما سمح لها بأن تجد بسهولة مهربا ومخبأ إستراتيجيا، وهو ما يصعب مهمة ضبط التنظيمات ومحاربتها. كما تم كذلك استغلال الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية السائدة، حيث تعد المنطقة من أفقر المناطق العالم، كما أنها منطقة تهريب مفتوحة لا يحسب فيها شأن للحدود المحلية، الأمر الذي يسهل من انتشار كل أشكال الجريمة.
تعتمد هذه الجماعات الإرهابية على آليات عمل متعددة، كاعتماد أسلوب الرهائن والمواجهة المسلحة المباشرة مع دول المنطقة، على شاكلة ما وقع في موريتانيا، وكذلك في مالي وغيرها من الدول وكذلك استهداف المواقع الحيوية لدول المنطقة[23].
خريطة رقم (2) أبرز الجماعات المسلحة في الساحل وغرب افريقيا.
(المصدر: وزارة الخارجية الفرنسية، وسائل الاعلام https://www.noonpost.com/44209/amp/)
ثانيا- الارتباط بين الإرهاب والجرائم ذات الصلة
لقد أخذ التهديد الإرهابي في الساحل الإفريقي منحى أخطر بعدما أقامت التنظيمات المسلحة علاقات تعاون وتحالف مع عصابات الجريمة المنظمة، بالنظر إلى وجود شبكة من المصالح المتبادلة بين الطرفين، الأمر الذي يساهم في تعقيد الوضع والمشهد الأمني في المنطقة، خاصة بانتقال جماعات الجريمة المنظمة من جرائم اقتصادية إلى جرائم سياسية، التحالف مع الجماعات الإرهابية مثلما حدث في مالي الأمر الذي عجل وأعطى ذريعة للتدخل الفرنسي في المنطقة، نظرا لضعف دول الساحل عسكريا وإداريا وجمركيا، لمنع تغلغل منظمات الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية، وعرقلة تكامل الأدوار فيما بينهما فالعلاقة بين هذه التنظيمات قائمة على التعاون و التعايش العملي المبني على علاقات المنفعة المتبادلة[24].
العامل الرئيسي الجاذب للإرهاب هو توفر مصادر الدخل في التدفقات التجارية غير المشروعة، هذا ما أدى إلى تعزيز الصلة بين المنظمات الإجرامية والجماعات الإرهابية، لأن هدفهم المشترك هو البقاء والاستمرار، حتى ولو اختلفت دوافعهم وأيديولوجياتهم، إلا أنهم يتعايشون من خلال تبادل الخدمات والمنافع، حيث يبرز الترابط بينهما من خلال:
- بالنسبة للجماعات الإرهابية فان الاتجار بالمخدرات يمثل مصدرا بديلا للتمويل من أجل الحصول على الأسلحة والذخائر، وتجنيد إرهابيين جدد، وذلك من خلال عمليات الخطف والفدية وابتزاز المهربين.
- بالنسبة لتجار المخدرات فإن الجماعات الإرهابية هي بمثابة شركاء موثوق فيهم لضمان نقل المخدرات عبر المنطقة، وذلك من خلال دفع حق العبور لهم في المناطق التي يسيطرون عليها[25].
ثالثا- الهجرة غير الشرعية
تشكل ظاهرة الهجرة غير الشرعية تحديا كبيرا سواء لدول العبور أو دول الاستقبال، حيث تعتبر ليبيا دولة عبور واستقبال في ذات الوقت، ما يضيف تحديا آخر يجب إدارته، لكون ظاهرة الهجرة غير الشرعية تمس مباشرة بالأمن المجتمعي للدول، باعتبارها تشكل تهديدا علىالأمن، وهذا من عدة نواحي ولعدة اعتبارات منها [26]:
- الإخلال بالبناء الديموغرافي.
- الإخلال بالنواحي الأمنية.
- الإخلال بالوضع الاقتصادي.
- التأثير على الأمن الصحي.
المطلب الرابع: استراتيجية ليبيا تجاه الساحل الافريقي.
تشكل منطقة الساحل الإفريقي عمقا استراتيجيا لليبيا، إذ تحتل منطقة الساحل الإفريقي مكانة مميزة في سياسة ليبيا الإفريقية، حيث حرص الرئيس الليبي السابق القذافي على الاهتمام بالمجال الساحلي، واتضح ذلك جليا في طرح العديد من المبادرات السياسية لتوحيدها من خلال إنشاء منظمة إقليمية أطلق عليها تجمع الساحل و الصحراء والذي يضم كل من (مالي، النيجر، التشاد، السودان و بوركينا فاسو)، ثم نجحت ليبيا في إقناع مصر والمغرب بالانضمام إليه، إلا أنّ الجزائر فضلت عدم الانضمام بالرغم من كونها دولة حدودية مع الساحل وتربطها مصالح استراتيجية وأمنية في المنطقة، كل هذا يفسر التنافس الإقليمي الموجود بين الجزائر وليبيا على منطقة الساحل الإفريقي[27].
كما برز جليا اهتمام ليبيا بالقارة الإفريقية ككل من خلال قمة سرت سبتمبر 1999،حيث شكلت منعطفا استراتيجيا مهما وذلك من خلال فكرة الولايات المتحدة الإفريقية، وكذلك طرح مبادرة إنشاءالجيش الإفريقي الموحد بهدف تحقيق السلم والأمن الدوليين، وكل هذه المبادرات لم تتحقق على أ ض الواقع، لكنها ساهمت بشكل كبير في تأسيس الاتحاد الإفريقي عام2001.
لذا فإن السياسة الليبية في المنطقة لها جملة من الأهداف في القارة الإفريقية وهي كما يلي:
- أهداف أمنية: تشكل الدول الإفريقية عمقا استراتيجيا لليبيا وهو ما يتطلب تأمين الحدود منالتهديدات الأمنية.
- أهداف اقتصادية: ضرورة الاستفادة من الثروات الطبيعية الضخمة التي تمتلكها الدولالإفريقية بما يخدم التنمية الاقتصادية في ليبيا.
- أهداف سياسية: تطلع ليبيا لممارسة دور إقليمي محوري في إفريقيا عموما ومنطقة الساحل الإفريقي على وجه الخصوص [28].
أخيرا، نستطيع القولأن تراجع وغياب الدور الليبي في المنطقة خاصة بعد سقوط نظام القذافي في ليبيا عام 2011، وانهيار الدولة الليبية سياسيا وأمنيا، أدى الى إضعاف قدرة الدولة الليبية على السيطرة على الحدود من تهديدات أمنية كالجريمة المنظمة وتجارة السلاح والإرهاب وتحول ليبيا إلى مخزن للأسلحة تتناقله الجماعات المسلحة بين ليبيا ودول الساحل الافريقي.
الخاتمة:
تواجه منطقة الساحل الإفريقي في دوائرها الجيوسياسية المختلفة تهديدات أمنية جديدة، تتمثل في الجريمة المنظمة والتجارة غير المشروعة والاتجار بالبشر والأسلحة، وصولاً إلى تنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية، علاوة على النشاط المتزايد لعصابات التهريب والجماعات الإرهابية، تتغذى هذه الظواهر علىأوضاع اجتماعية وسياسية وثقافية وعسكرية تعيشها المنطقة، وتمتد تأثيراتها إلى الحدود الجنوبية الليبية،ومختلف دول الجوار، بالنظر لهذه المتغيرات، تشير كل الدراسات إلى أن منطقة الساحل الإفريقي ستظل منصة حاضنة لتواجد عسكري أجنبي، وللجماعات الإرهابية ومجموعات الجريمة المنظمة، وبالنظر لعدم وجود سياسة أمنية مشتركة أو مقاربة الأمنية الإقليمية الموحدة من قبل الدول المغاربية تجاه منطقة الساحل الأفريقي، فهذا الاختلاف وعدم التوافق في الرؤى جعل الدول المغاربية عرضة للتهديدات والتحديات الأمنية التي يشهدها إقليم الساحل.
أن هذه التهديدات الأمنية التي باتت تفرزها منطقة الساحل الأفريقي تشكل خطرا على أمن واستقرار ليبيا، ونظرا لعدم وجود اليات لتأمين الحدود الجنوبية، اصبحت منكشفة امام مختلف التهديدات المنبعثة من المنطقة، كما أن تنوع التهديدات الأمنية في منطقة الساحل الأفريقي بين التهديدات الأمنية التقليدية المتمثلة في الفشل الوظيفي والعجز عن بناء الدولة والنزاعات ، إضافة إلى التداعيات الأمنية للطبیعة الجغرافية والمناخية الصعبة للمنطقة، وهي مشكلات متأصلة في منطقة الساحل الأفريقي، وبین التهديدات الأمنية الجدیدة، المتمثلة في النشاط الكثیف للتنظيمات الإرهابية وشبكات الجریمة المنظمة بمختلف اشكالها وتنامي ظاهرة الهجرة غير الشرعية.
إن الارتباط بين هشاشة منطقة الساحل من الناحية الأمنية- حيث عرفت بلدنها انقلابات عسكرية في العقدين الأخيرين وبكثافة كبيرة وتشهد أستقطابات إقليمية جديدة بعد أفول النفوذ الفرنسي وحضور روسيا كفاعل في المنطقة- وانهيار الدولة الليبية أصبح واضحا وجليا، خاصة أن اختراق الحدود أصبح ممكنا في ظل بيئة إقليمية معقدة ودول فاشلة غير قادرة على حماية حدودها مع إغراق البلد بالأسلحة وانتشار الجريمة المنظمة وارتباط الجماعات الارهابية بالمجموعات الاجرامية، مما ساهم نوعا ما في استمرار الأزمة الليبية وتعثر مسار بناء الدول الليبية، مما يحتم على كل الفرقاء الليبيين أخد الامر بعين الاعتبار، كما يفرض على دول المنطقة اختيار صيغ تعاونية ناجحة للقضاء على عوامل الفشل الامني والتي تنقص دون شك وتعيب مقومات الامن القومي الليبي وتضعه في قاعة الانعاش الى أجل غير مسمى.