- تفاقمت أزمة التلوث البيئي في العراق، ما جعله يحتل المرتبة الثانية عالمياً في تدهور جودة الهواء إلى 80.1 ميكروغرام من جزيئات بي أم 2.5 (الجسيمات المحمولة جواً الضارة بالرئة) لكل متر مكعب.
- يشير واقع الحال في العراق إلى صعوبة إحداث متغيرات ملموسة وسريعة في الواقع البيئي، في ضوء منظومة المصالح الاقتصادية الحزبية التي تصوغ برامج الموازنات المالية العراقية، وتُشرف على القرارات الحكومية، وتنتج القوانين الحاكمة في مجلس النواب.
- في ظل غياب المعالجات الجذرية، يتوقع أن تزداد مشكلة التلوث البيئي في العراق تفاقماً، وأن تتكرر أزمة أكتوبر البيئية، التي شهدها العراق هذا العام، في فصلي الربيع والخريف المقبلين.
سجَّلت بغداد ومدن رئيسة في العراق، طوال النصف الأول من شهر أكتوبر الجاري، نسبَ تلوث هواء غير مسبوقة، تراوحت بين 70 و125 ميكروغرام/متر مكعب، قادت إلى استغاثات شعبية، وكشفت عن غياب متراكم للاستراتيجيات البيئية وانكشاف أمام متغيرات مناخية خطرة تهدد هذا البلد، فيما اكتفت الجهات الرسمية العراقية بتحذير الأهالي والمراهنة على عودة “رياح الشمال”.
أزمة تلوث متفاقمة
ساهمت عوامل عديدة في وضع العراق في مقدمة الدول العربية والسادسة عالمياً في مؤشرات التلوث البيئي في خلال العام 2023، وهذه النسبة تفاقمت في عام 2024 ليحتل العراق المرتبة الثانية عالمياً في تدهور جودة الهواء إلى 80.1 ميكروغرام من جزيئات بي أم 2.5 لكل متر مكعب. وعلى رغم هذه المؤشرات الخطرة، فإن النصف الأول من شهر أكتوبر الجاري حمل أنباءً أكثر سوءًا، فقد شهدت مدن بغداد والبصرة والموصل وأربيل تسجيل نسب تلوث غير مسبوقة، وصلت في أوجها إلى 125 ميكروغرام/متر مكعب، وشعَرَ السكان بروائح الكبريت في الأجواء، ما اضطر وزارة البيئة العراقية إلى الاعتراف بوجود تلوث كبير بسبب حرق الوقود الثقيل بالقرب من المدن، والمخلّفات الناتجة عن محطات توليد الكهرباء ومعامل الإسفلت، مُرجعةً سبب انتشار الروائح مؤخراً إلى “ظواهر مناخية وطقسية نتيجة تعرض العراق إلى تيارات مختلفة، بالإضافة لتغير اتجاه الرياح وارتفاع درجات الرطوبة”.
ووفق المعطيات التي سجلتها منظمات بيئية وجامعات عراقية، بالإضافة إلى مصادر رسمية علمية، فإن هناك أسباباً متعددة تقف خلف ارتفاع نسب التلوث، من بينها الآتي:
أولاً، استمرار الهدر في الغاز المصاحب لاستخراج النفط العراقي، وتراجع الآمال في إمكانية تحقق تعهدات الحكومة العراقية باستثمار الغاز المصاحب بعد جولة التراخيص الخامسة في فبراير 2023.
ثانياً، سوء التوزيع الجغرافي لمصافي النفط بالقرب من مراكز المدن، وخصوصاً في بغداد، حيث باتت طاقة التكرير لمصفى الدورة النفطي تصل إلى 120 ألف برميل نفط يومياً. وعدم خضوع المصافي العراقية لعمليات تطوير في تقنيات الإنتاج لتقليل الانبعاثات.
ثالثاً، اضطراب الخطط العراقية لتوليد الطاقة الكهربائية، فقد مُنِحَت تراخيص لعشرات من محطات التوليد الغازية قريباً من مراكز المدن مع عدم توافر الغاز اللازم لتشغيلها لفترات طويلة من العام، ما يضطر معظم المحطات إلى استخدام الوقود الثقيل الذي يتسبب بانبعاثات كبيرة، ويسرّع من استهلاك منشآت الإنتاج.
رابعاً، اتساع رقعة مصانع “الإسفلت المؤكسد” التي وُزِّعَت في خلال السنوات الأخيرة قريباً من المدن الرئيسة، وقد جرى الكشف عن أن معظم هذه المصانع وهمية ومرتبطة بمليشيات تقوم بتهريب زيت الوقود الذي تحصل عليه بأسعار مدعومة من الدولة إلى إيران، ما اُضطُر الحكومة العراقية -بضغوط أمريكية- إلى إيقاف تزويد بعض المصانع بالوقود، ما دفع معظمها إلى توسيع إنتاجها المحلي لإثبات عملها الفعلي وتجنُّب العقوبات، الأمر الذي انعكس سلباً على الانبعاثات الملوثة للبيئة التي صاحبت الإنتاج.
خامساً، بُطء العراق في تطوير مشاريع الطاقة المتجددة، ويمكن الإشارة هنا، مثلاً، إلى معوقات وعراقيل إدارية وسياسية واجهت اتفاقاً وُقِّعَ في يونيو 2021 بين الحكومة العراقية وشركة “مصدر” الإماراتية لتطوير مشاريع طاقة شمسية كهروضوئية بقدرة إنتاجية 2 جيجاوات، وتطلب الأمر حتى يونيو 2024 للشروع في تنفيذ الاتفاقية.
سادساً، غياب تطبيق الحدود المطلوبة من المعايير الدولية حول اتفاقات المناخ الموقّعة عراقياً.
سابعاً، الاستيراد غير المنظم للسيارات، فطبقاً لآخر إحصائية بلغ عدد السيارات في العراق قرابة 8 ملايين سيارة يتكدس نصفها في مدينة بغداد التي تعاني من اختناقات مرورية دائمة وانبعاثات ضارة من العوادم، فيما لم تقُد الجهود الحكومية لتشجيع استيراد المركبات الكهربائية إلى توسع هذا القطاع بسبب تذبذب الطاقة الكهربائية في معظم المدن العراقية، وعدم توافر البنى التحتية اللازمة لنشر هذا النوع من السيارات.
ثامناً، غياب الاستراتيجيات الوطنية لمواجهة التغيرات المناخية، والتي باتت تنعكس بشكل واسع في زحف التصحر وتقلص المساحات الخضراء مع غياب التقنيات الزراعية الحديثة، وشح مياه نهري دجلة والفرات. وتجدر الإشارة إلى أن مناخ العراق يتأثر معظم شهور السنة برياح شمالية وشمالية شرقية تدفع معظم مسببات التلوث باتجاه المناطق الغربية الصحراوية ودول الخليج، غير أن العراق يتأثر في فصلي الربيع والخريف برياح جنوبية غربية تدفع في العادة العواصف الترابية والمخلفات الصناعية والنفطية باتجاه المدن. وقد شهد العراق في خلال السنوات الأخيرة تطرفاً في مواعيد الرياح الموسمية.
السياسة تخنق البيئة
لاشك في أن قرار رئيس الحكومة الأسبق حيدر العبادي إلغاء وزارة البيئة العراقية ودمجها بوصفها مديرية في وزارة الصحة، ضمن سلسلة قرارات “إصلاحية” في أغسطس 2015، كان من بين الأسباب التي أثَّرت سلباً في قدرة العراق على إنتاج استراتيجية بيئية جادة تحمل منجزاً تراكمياً. ومع أن الوزارة أعيدت مرة أخرى بقرار من حكومة مصطفى الكاظمي عام 2021، واختير وزير لها في حكومة محمد شياع السوداني عام 2022، إلا أنها ظلت خاضعة -حال باقي الوزارات العراقية- لنظام المحاصصة الحزبي، وفقيرة في إمكاناتها وكوادرها، ولم تتمكن فعلياً من تجاوز العراقيل القانونية والسياسية التي تمنع منحها الصلاحيات اللازمة لفرض اللوائح البيئية الكفيلة بإزالة مسببات التلوث أو معالجتها.
وكانت الحكومة العراقية قد أطلقت في سبتمبر الماضي خطةً للحفاظ على البيئة تمتد حتى عام 2030، وتتضمن العديد من المعالجات المطلوبة في هذا المجال على مستوى معالجة النفايات، وتطوير المحميات الطبيعية، وتطوير القوانين الناظمة وبرامج الحوكمة البيئية، وتعزيز قطاع المياه، ونشر الثقافة البيئية، وفرض المعايير البيئية على المنشآت الحكومية والأهلية. لكن واقع الحال في العراق لا يشير إلى إمكان إحداث متغيرات ملموسة وسريعة في الواقع البيئي، في ضوء منظومة المصالح الاقتصادية الحزبية التي تصوغ برامج الموازنات المالية العراقية، وتُشرف على القرارات الحكومية، وتنتج القوانين الحاكمة في مجلس النواب. وتلك المعالجات تحتاج إلى موازنات مالية كبيرة، وإلى قرارات تتطلب عمليات نقل لمصانع ومنشآت إلى مواقع أخرى، وإجراء تغييرات في جوهر الآليات الاقتصادية الحالية، وكل ذلك يتعارض مع تلك المصالح.
ويُذكر أن وزارة البيئة العراقية وقَّعت مع وزارة التغير المناخي والبيئة بدولة الامارات العربية المتحدة مذكرة تفاهم بشأن التعاون البيئي في أكتوبر 2023، وبهدف تحقيق الشراكة الاستراتيجية بما يخص التنمية المستدامة ودعم الإطار المؤسسي والتشريعي والتنظيمي في مجال حماية البيئة، إلا أن قدرة العراق على تحقيق الالتزامات في هذا المجال ستظل محل تساؤل في ظل الإمكانات والصلاحيات المحدودة لوزارة البيئة العراقية.
استنتاجات
على الرغم من أن زخم الاستغاثة الشعبية التي انطلقت في خلال الأسابيع الأخيرة مع تفاقم أزمة التلوث في المدن العراقية، سيتراجع تدريجياً مع قدوم الرياح الشمالية التي من المتوقع أن تعالج جزءًا من المشكلة الحالية، فإن الأزمة المركبة التي تشهدها البيئة في العراق تتطلب جهوداً وموازنات واستثمارات كبيرة لتجاوز آثارها المتفاقمة في خلال السنوات المقبلة. وتبدو إمكانية تحقيق تضامن سياسي لحل هذه الأزمة صعبة في ضوء المعرقلات السياسية والاقتصادية والقانونية، لكنها غير مستحيلة في حال وُجِدَت قناعات راسخة بأن العراق يواجه تحدياً بيئياً لا يقل خطورة عن التحديات الأمنية. ومع غياب المعالجة الجذرية، فإن من المتوقع أن تتفاقم مشكلة التلوث البيئي، وأن تتكرر أزمة أكتوبر البيئية في فصلي الربيع والخريف المقبلين