قصف دمشق… من العثمانيين والفرنسيين إلى الإسرائيليين

في مثل هذا اليوم قبل 99 سنة، استيقظ أهالي دمشق على أصوات القنابل الممطرة، بعد أن بدأت سلطة الانتداب الفرنسي بقصفهم رداً على اقتحام الثوار السوريين سوق البزورية وتحصنّهم في قصر العظم الأثري. كان ذلك سنة 1925 في أعقاب الثورة السورية الكبرى ضد الفرنسيين، وكانت مدينة دمشق لم تشهد قصفاً على أحيائها السكنية الآمنة منذ عام 1831، باستثناء قنبلة يتيمة سقطت في الدقائق الأخيرة من الحرب العالمية الأولى سنة 1918، أودت بحياة الصحافي المعروف أديب نظمي، المقعد في حينها والذي فارق الحياة عند خروجه إلى فسحة داره على كرسيه المتحرك.

ظنّ الدمشقيون يومها أن هذه القنبلة الوحيدة ستكون نهاية المآسي، ولكن قصف المدينة تجدد مرة ثانية وثالثة على يد الفرنسيين في الأعوام 1925 و1945، ثم من قبل الإسرائيليين مرتين سنة 1948 ومرة ثالثة في أثناء حرب أكتوبر 1973.

 

الطاعنون في السن يذكرون جيداً قصف الفرنسيين لمدينتهم عام 1945 ويصفونه باليوم المرعب، ويذكرون أيضاً قصف إسرائيل في حرب عام 1948 وحرب أكتوبر 1973

 

 

تجدد قصف العاصمة السورية مراراً في السنوات 2012-2018، من قبل “جيش الإسلام” الموجود في غوطة دمشق الشرقية، الذي كان يُمطر الأحياء السكنية بقذائف الهاون بصورة عشوائية، ما خلّف دماراً كبيراً في الأحياء السكنية والمدارس، وقلّما أصاب هدفاً عسكرياً. ومؤخراً كان قصف العاصمة السورية من قبل الإسرائيليين، الذي بلغ ذروته في السنة الماضية مع استهداف القنصلية الإيرانية في 1 أبريل/نيسان الماضي، وتركّز في الأسابيع الأخيرة على حيّ المزة السكنية، مستهدفاً عناصر لبنانية من “حزب الله“.

الطاعنون في السن يذكرون جيداً قصف الفرنسيين لمدينتهم عام 1945 ويصفونه باليوم المرعب، ويذكرون أيضاً قصف إسرائيل في حرب عام 1948 وحرب أكتوبر 1973. لم يبق من الأحياء أي شاهد على القصف الفرنسي الأول عام 1925، ولكن أحفادهم موجودون. ومن المفارقة أن من بين الشهداء المدنيين الذي قتلوا في العدوان الإسرائيلي الأخير يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول شابة من آل الغزي، حفيدة واضع دستور سوريا الجمهوري الأول فوزي الغزي، الذي نجا من الموت أثناء قصف الفرنسيين سنة 1925، لتفارق حفيدته الحياة في قصف إسرائيلي مماثل سنة 2024.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

غارة إسرائيلية على العاصمة السورية دمشق في 2 أكتوبر 2024 

تعود “المجلة” إلى تاريخ دمشق الحديث وإلى أكبر الهجمات التي تعرضت لها “عاصمة الأمويين” منذ منتصف القرن التاسع عشر ولغاية عام 1973.

القصف الأول (1831):

انتفضت دمشق ضد ضريبة عقارية فرضها الوالي العثماني سليم باشا على المسلمين. أغضبت هذه الضريبة أهالي دمشق وتجمهروا ضدها في منطقة باب الجابية غرب سور دمشق، وأقاموا الحواجز والمتاريس، تعبيراً عن غضبهم. وقد فشلت المفاوضات مع الأعيان، وهاجم الناس السراي الحكومي، فهرب الوالي مع أسرته وأعوانه، وأمر بقصف دمشق طوال الليل، بعد رمي قطع كبيرة من الأخشاب في الشوارع لكي تلتهمها النيران وتزيد من الحرائق. دُمرت الأسواق المحيطة بقلعة دمشق، وطلب الباشا الأمان من الأهالي، ولكنهم اعتقلوه وأعدموه.

القصف الثاني (1925):

في 18 أكتوبر 1925، هجم ثوار غوطة دمشق على قصر العظم، بعد أن وصلتهم أخبار مضللة أن المندوب السامي الفرنسي موريس ساراي موجود في داخله. لم يجدوا المندوب، وعند دخولهم سوق البزورية الضيق في دمشق القديمة، أمر موريس ساراي بقصفهم. قصف سوق البزورية بما فيه ومن فيه، وأحرق معه قصر العظم،وامتدت النيران إلى حي الميدان خارج السور. مُنعت سيارات الإسعاف من الوصول إلى المصابين والجرحى، وطلب ساراي إلى سكان الأحياء المسيحية وضع إشارة الصليب على أسقف أبنيتهم لكي لا يطالهم القصف الجوي. قُتل يومها 140 مواطناً سورياً، جميعهم من المدنيين، وهجرت 336 عائلة، ودمر 150 منزلاً من أفخر قصور دمشق. توجهت السفن الحربية الأميركية إلى شواطئ بيروت لحماية المصالح الأميركية، وأنهي عمل موريس ساراي في سوريا وعند عودته إلى باريس، تجمهر الفرنسيون أمام منزله رافعين شعار: “مجرم”. وقد ألهمت مأساة عام 1925 أمير الشعراء أحمد شوقي كتابة قصيدته الشهيرة  التي غناها محمد عبد الوهاب: سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ … وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ.

 

ويكيبيديا ويكيبيديا

آثار القصف الفرنسي على دمشق في مايو 1945 

القصف الثالث (1945):

جاء القصف الثالث في المرحلة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، في ظل تنامي غضب الفرنسيين من علاقة الرئيس السوري شكري القوتلي بدول الحلفاء، ودعوة سوريا للمشاركة في المؤتمر التأسيسي للأمم المتحدة في 30 أبريل 1945. أرسل الجنرال شارل ديغول تعزيزات عسكرية إلى سوريا وفي 29 مايو/أيار، قصف مبنى البرلمان السوري في محاولة فاشلة لاعتقال رئيسه سعد الله الجابري، وقتل جميع حراسه إلا حارساً واحداً تظاهر بالموت، وعاش ليُلقب بـ”الشهيد الحيّ”. أحرق المبنى وصودرما فيه من أختام ووثائق، وامتد القصف إلى محيط فندق أورينت بالاس في ساحة الحجاز، مقر إقامة سعد الله الجابري، وإلى سوق ساروجا الأثري حيث لجأ أعضاء الحكومة السورية إلى دار زميلهم رئيس الوزراء الأسبق خالد العظم.

أغرقت دمشق بظلام كامل بعد قطع التيار الكهربائي عنها، وطال القصف قلعة دمشق حيث كان سجن المدينة المركزي، وبعض المسعفين في ساحة الحجاز، في مقدمتهم الطبيب مسلم البارودي. نهبت المتاجر من قبل الجنود السنغال العاملين في صفوف القوات الفرنسية، وتوفي مواطنان بريطانيان، ومعهم 27 شهيداً سورياً. وقد أدى هذا القصف إلى تدخل مباشر من الجيش البريطاني في 1 يونيو/حزيران، تمهيداً لإنهاء الانتداب الفرنسي وإعلان استقلال سوريا في 17 أبريل 1946.

القصف الرابع (1948):

بدأت حرب فلسطين الأولى مع إعلان ديفيد بن غوريون ولادة دولة إسرائيل منتصف شهر مايو، وفي 15 يونيو، قصف الطيران الإسرائيلي دمشق، رداً على تقدم القوات السورية في الميدان، مخلفاً 22 شهيداً من المدنيين. ردت الحكومة السورية بفرض الأحكام العرفية ومنع التجول ليلاً، وكان القصف الثاني في 19 يوليو/تموز من العام نفسه، وقبلها بيومين وصل 150 جريحاً سورياً من فلسطين، مات أغلبهم في مستشفيات دمشق.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

آثار لقصف إسرائيلي على دمشق خلال حرب أكتوبر 1973 العربية – الإسرائيلية 

القصف الخامس (1973):

في 9 أكتوبر 1973، وبعد ثلاثة أيام من بدء الحرب، ضربت صواريخ المدفعية السورية القاعدة الجوية في شمال إسرائيل، ما أسفر عن مقتل عدد من الجنود. ردت حكومة غولدا مائير بقصف مبنى الأركان العامة في حي أبو رمانة السكني في دمشق، الذي أُسقط فوقه 35 طناً من القنابل عن طريق أسراب إسرائيلية من طراز فانتوم. دمر جزء كبير من المبنى، ولحق الدمار بالأبنية المجاورة له، ومنها مقر القوات الجوية السورية ومبنى التلفزيون في ساحة الأمويين، مع عدد من المباني السكنية. سقط يومها 26 مدنياً بينهم الطبيب نزاربراق مع زوجته، وأصيب 117 آخرون. وبعد هذه الحرب وهذا العدوان، كتب شاعر الشام نزار قباني قصيدة “ترصيع بالذهب على سيف دمشقي”. وقال: مزقي يا دمشق خارطة الذل… وقولي للدهر كن فيكونُ… استردت أيامها بك بدرٌ… واستعادت شبابها حطينُ.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M