هيكلة الثانوية العامة في مصر: دروس من آسيا

أعلنت وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني عن هيكلة جديدة للثانوية العامة، تبدأ من الصف الأول الثانوي وتمتد حتى الصف الثالث الثانوي، وهو قرار يحمل في طياته تغييرات جوهرية تمس مستقبل التعليم في مصر، فهذه الهيكلة الجديدة تأتي كجزء من جهود الوزارة لإصلاح التعليم وتحسين مخرجاته، وسط تطلعات إلى إعداد جيل قادر على مواجهة تحديات العصر، لكن مع كل قرار جديد يمس الثانوية العامة تتولد حالة من الجدل في الشارع المصري، وكيف لا؟ وهذه المرحلة هي القول الفصل لتحديد المستقبل الجامعي والمهني للطلاب. من هذا المنطلق، يتطلب تقييم هذه الإصلاحات نقدًا موضوعيًا يستند إلى تجارب تعليمية ناجحة كما هو الحال في بعض دول آسيا، وعلى رأسها الهند، الصين، واليابان، كمنارة تعليمية يمكن أن توفر دروسًا قيمة لإصلاح التعليم في مصر.

مع انطلاق العام الدراسي الجديد، تتوجه الأنظار إلى التغييرات الجذرية التي أجرتها وزارة التربية والتعليم في هيكلة الثانوية العامة بمصر، حيث تهدف هذه التعديلات إلى تخفيف العبء على الطلاب وأولياء الأمور بحسب تصريحات الوزارة، ولكنها تثير في الوقت نفسه العديد من التساؤلات حول تأثيرها الفعلي في جودة التعليم وتحصيل الطلاب، وتتلخص أبرز ملامح الهيكلة الجديدة في تقليل عدد المواد الدراسية في كل مرحلة من مراحل الثانوية العامة، ففي الصف الأول الثانوي، سيدرس الطلاب خلال العام الدراسي الحالي 6 مواد بدلًا من 10، وفي الصف الثاني الثانوي، سيدرسون 6 مواد بدلًا من 8، أما في الصف الثالث الثانوي، فسيدرسون 5 مواد بدلًا من 7، شكل (1).

//lh7-rt.googleusercontent.com/docsz/AD_4nXdsuwEb7cV1zRsrLyKCY1qlrHpibYSzY8VPqVrLoGJtszzVxnjaKnMgCw7YvXK6PUWcNgO6GwRD62jiZM1zAgEqXrUfsXSGv4WEv5PAUYoGSaAg4ep1ZukAg_PC4UQzb2G6s2TI_6kFX0wnYEedVCTFYmRBo2YcziBv4zs_W5gdRr-n90BaCA?key=CIm-cK2k3F8Nqh_4ZxyMUg" alt="A calendar with numbers and a towerDescription automatically generated" data-src="https://lh7-rt.googleusercontent.com/docsz/AD_4nXdsuwEb7cV1zRsrLyKCY1qlrHpibYSzY8VPqVrLoGJtszzVxnjaKnMgCw7YvXK6PUWcNgO6GwRD62jiZM1zAgEqXrUfsXSGv4WEv5PAUYoGSaAg4ep1ZukAg_PC4UQzb2G6s2TI_6kFX0wnYEedVCTFYmRBo2YcziBv4zs_W5gdRr-n90BaCA?key=CIm-cK2k3F8Nqh_4ZxyMUg" />

شكل (1)

عدد المواد الدراسية في كل مرحلة من مراحل الثانوية العامة

المصدر/ وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني

//www.facebook.com/share/p/od6X1bKS35aMZ4KE/">https://www.facebook.com/share/p/od6X1bKS35aMZ4KE/ 

عند مقارنة الهيكلة الجديدة بنظم تعليمية أخرى لذات المرحلة في دول مثل الهند والصين واليابان، نجد أن تقليص عدد المواد يتماشى مع التوجهات العالمية التي تسعى لتعزيز قدرات الطلاب في مجالات العلوم والرياضيات، ففي هذه الدول، تحظى المواد العلمية بساعات تعليمية مكثفة على مدار العام الدراسي، حيث يعتمد نظام التعليم في المرحلة الثانوية في الصين على إتاحة ثماني مجالات دراسية، ويتعين على الطلاب إكمال حد أدنى من الساعات المعتمدة في كل مجال بإجمالي 144 ساعة معتمدة على الأقل (116 ساعة معتمدة في المواد الإلزامية، و22 ساعة معتمدة في الدورات الدراسية الاختيارية)، ويتراوح إجمالي الساعات الدراسية للرياضيات في الصين بين 160 إلى 360 ساعة حسب نوع المدرسة والمسار الأكاديمي الذي يتبعه الطالب، حيث يتطلب التخرج من مرحلة الثانوية العامة في الصين إكمال ما لا يقل عن 360 ساعة دراسية في الرياضيات، جدول (1).

//lh7-rt.googleusercontent.com/docsz/AD_4nXdTdCjKVzIZynzhX65OnAQaHH4bRPguNGkr7DT8puDfbtRBSVmxDpqa2TVO8uxBn5-K-ha5ib_LYqyWkwB4nzVi7TOt7D2LS6X_aqZ8udW02_WlGyAK3XwH46u74kmN4yNooNlMFPltA1pZWfbXt2OPvSXxQv5BW3AHEGQONQp_71Zo9XhDPF8?key=CIm-cK2k3F8Nqh_4ZxyMUg" alt="" data-src="https://lh7-rt.googleusercontent.com/docsz/AD_4nXdTdCjKVzIZynzhX65OnAQaHH4bRPguNGkr7DT8puDfbtRBSVmxDpqa2TVO8uxBn5-K-ha5ib_LYqyWkwB4nzVi7TOt7D2LS6X_aqZ8udW02_WlGyAK3XwH46u74kmN4yNooNlMFPltA1pZWfbXt2OPvSXxQv5BW3AHEGQONQp_71Zo9XhDPF8?key=CIm-cK2k3F8Nqh_4ZxyMUg" />

جدول (1)

المواد الدراسية والساعات التدريسية في مرحلة الثانوية العامة بدولة الصين

المصدر/ وزارة التربية والتعليم في جمهورية الصين الشعبية

//www.moe.edu.cn/edoas/website18/37/info737.htm">http://www.moe.edu.cn/edoas/website18/37/info737.htm 

أما في مصر، فتبلغ عدد الساعات المخصصة لتعلم الرياضيات في المرحلة الثانوية وفق الهيكلة الجديدة 387 ساعة دراسية، مقسمة بالتساوي على السنوات الدراسية الثلاثة بواقع 129 ساعة تدريسية، جدول (2)، ورغم أن الساعات الدراسية المخصصة للرياضيات في مصر تتجاوز الحد الأدنى المطلوب في المدارس الثانوية العامة في الصين، فإن هناك انخفاضًا ملحوظًا في النتائج السابقة لمصر في الاختبارات الدولية مقارنة بالمتوسط العالمي، ففي اختبار TIMSS (Trends in International Mathematics and Science Study) 2019 حصلت مصر على درجات منخفضة نسبيًا في الرياضيات والعلوم؛ حيث سجل الطلاب المصريون متوسط درجات بلغ حوالي 400 نقطة في الرياضيات، مقارنة بالمتوسط العالمي الذي بلغ حوالي 500 نقطة، ويشير هذا الفارق إلى وجود فجوة كبيرة في الأداء الأكاديمي بين الطلاب المصريين ونظرائهم في الدول المتقدمة؛ حيث إن هذا الاختبار يقيس اتجاهات تحصيل الطلبة في مادتي الرياضيات والعلوم كل 4 سنوات في الصفين الرابع الابتدائي والثاني الإعدادي.

//lh7-rt.googleusercontent.com/docsz/AD_4nXeBY3UORLrbl9eT2D1aGrAnkQSoqdQGhPwvgccKcf7dmBtmN6G2uEeAC4v5x4kDRz2TmNi5P7qBrQXl9WSpxRSYtjtE5xBJwzkQwNer5UHqk4SPKc0LvQH1_UarHRCu_MhDLaXHBPDIbXbRSXY16kBkF2RrqnGhDbNNFYumjS0D-SFKlST9Ix0?key=CIm-cK2k3F8Nqh_4ZxyMUg" alt="" data-src="https://lh7-rt.googleusercontent.com/docsz/AD_4nXeBY3UORLrbl9eT2D1aGrAnkQSoqdQGhPwvgccKcf7dmBtmN6G2uEeAC4v5x4kDRz2TmNi5P7qBrQXl9WSpxRSYtjtE5xBJwzkQwNer5UHqk4SPKc0LvQH1_UarHRCu_MhDLaXHBPDIbXbRSXY16kBkF2RrqnGhDbNNFYumjS0D-SFKlST9Ix0?key=CIm-cK2k3F8Nqh_4ZxyMUg" />

جدول (2)

المواد الدراسية والساعات التدريسية في مرحلة الثانوية العامة بجمهورية مصر العربية

المصدر/ وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني

//moe.gov.eg/ar/decisions?yearFrom=2024&yearTo=2024&pageIndex=0&sortBy=0">https://moe.gov.eg/ar/decisions?yearFrom=2024&yearTo=2024&pageIndex=0&sortBy=0

بناءً على ما تقدم يمكن القول إن عدد ساعات الدراسة في هذه المواد قد لا يعكس بالضرورة وجود كفاءة أكاديمية نتيجة وجود ممكنات أخرى مثل تحسين جودة المناهج الدراسية، وتصميمها بشكل يلبي المعايير العالمية للتعلم، وإعداد وتأهيل المعلمين وتدريبهم على توظيف وسائل واستراتيجيات التدريس الحديثة التي تتماشى مع أفضل الممارسات العالمية.

على صعيد آخر، هناك جدل حول دمج مواد الفيزياء والكيمياء والأحياء في مادة واحدة تحت مسمى “العلوم المتكاملة” ضمن الهيكلة الجديدة للثانوية العامة. بينما يُعد دمج المواد العلمية تجربة متبعة في بعض الدول، إلا أن تطبيقها يتطلب إعدادًا دقيقًا للمناهج وتدريبًا مكثفًا للمعلمين. في اليابان، على سبيل المثال، تدرس العلوم بشكل متكامل، لكن النظام هناك يعتمد على تجهيز المعلمين بمهارات متعددة التخصصات، إضافة إلى توفير مصادر تعليمية غنية تتيح للطلاب فهم المواد العلمية بشكل أكثر تخصصية.

لذلك عند التفكير في تطبيق نظام “العلوم المتكاملة” في مصر يجب التغلب على عدد من التحديات منها على سبيل المثال تحدي إعداد منهج العلوم المتكاملة، إذ يتطلب ذلك إعادة صياغة الدروس بشكل يربط بين الفيزياء والكيمياء والأحياء بطريقة متسلسلة ومنطقية بحيث تُقدَّم المفاهيم العلمية لكل تخصص بتعمق كافٍ، لضمان أن الطلاب لا يتعرضون لمواد سطحية قد تضعف قدرتهم على فهم العلوم بشكل متكامل. بالإضافة إلى ذلك، سيكون على النظام التعليمي توفير أنشطة تعليمية تسهم في تعزيز الفهم التخصصي داخل الإطار المتكامل، وهذا يتطلب إعدادًا كبيرًا على مستوى المعلمين، وتدريبهم بشكل مكثف من خلال برامج تأهيلية طويلة الأمد وشاملة، وهو ما قد يضيف تحديات أخرى تحول دون نجاح هذا الدمج، ناهيك عن أن هناك أيضًا مسألة توفير البنية التحتية من المعامل المجهزة والموارد التعليمية المناسبة لا سيما في المناطق النائية أو الأقل حظًا من حيث الإمكانيات لضمان تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية.

في ضوء ما تقدم، ثمة دلالات واستنتاجات مهمة، يمكن تناولها على النحو التالي

    الفجوة بين السياسة التعليمية والنتائج الأكاديمية

    الهيكلة الجديدة للثانوية العامة تهدف إلى تحسين مخرجات التعليم، ولكن الفجوة المستمرة بين ما تنص عليه السياسات التعليمية وما يتحقق فعليًا في الأداء الأكاديمي للطلاب، وهذا يشير إلى أن الإصلاحات الهيكلية وحدها قد لا تكون كافية، وأن تحسين النتائج يتطلب ربط التغييرات الهيكلية بممارسات تعليمية فاعلة على أرض الواقع، مثل تطوير المناهج بطرق تتناسب مع احتياجات الطلاب ومعايير التعلم العالمية.

    التطبيق العملي للهيكلة الجديدة

    هناك تحديات لوجستية وإدارية تتعلق بتطبيق الهيكلة الجديدة، خاصة في المناطق النائية أو الأقل تجهيزًا، حيث تحتاج البنية التحتية، مثل المعامل والمصادر التعليمية، إلى تطوير لتوفير تكافؤ الفرص بين الطلاب، ما يبرز ضرورة العدالة في توزيع الموارد التعليمية.

    تحديات في تحسين جودة التعليم

    رغم أن عدد ساعات تدريس الرياضيات في مصر يتجاوز بعض الدول مثل الصين، فإن النتائج الدولية في اختبارات مثل TIMSS وPISA  تكشف عن فجوة كبيرة في تحصيل الطلاب المصريين مقارنة بالمتوسطات العالمية. هذا يشير إلى أن المشكلة ليست في عدد الساعات الدراسية فحسب، بل تتعلق أيضًا بجودة المناهج وتدريب المعلمين.

    الدور الحاسم للمعلمين

    تدريب المعلمين وتأهيلهم يعد عاملًا أساسيًا لنجاح أي نظام تعليمي جديد، فإذا لم يكن المعلمون مستعدين للتعامل مع مناهج العلوم المتكاملة أو أساليب التدريس الحديثة، فإن هذا قد يعرقل عملية التعليم بشكل كبير.

    تعزيز التفكير النقدي والابتكار

    في الوقت الذي تركز فيه نظم التعليم الآسيوية على العلوم والرياضيات، تولي هذه النظم أيضًا اهتمامًا بتعزيز التفكير النقدي والابتكار. لذا، ينبغي على وزارة التربية والتعليم في مصر النظر إلى ما هو أبعد من مجرد تقليل المواد الدراسية، والتركيز على كيفية تطوير مهارات التفكير التحليلي والإبداعي لدى الطلاب، خصوصًا في ضوء التحديات المستقبلية التي تتطلب الابتكار والتكيف السريع.

    مجمل القول، تظل هيكلة الثانوية العامة الجديدة خطوة جريئة من الوزارة، تهدف إلى تخفيف الضغط على الطلاب وتحديث نظام التعليم. لكن يبقى السؤال

    هل ستؤدي هذه التغييرات إلى تحسين جودة التعليم وزيادة قدرة الطلاب على المنافسة عالميًا؟ الأجوبة تعتمد على كيفية تنفيذ هذه التعديلات وتقييم تأثيرها في المدى البعيد، لذا فإن نظام التعليم المصري بشكل عام ولا سيما الثانوية العامة يحتاج إلى مراجعة مستمرة للمناهج التعليمية، وتقديم التدريب المناسب للمعلمين، لضمان تحقيق الأهداف التعليمية المرجوة دون التضحية بجودة التعليم.

     

    //ecss.com.eg/48742/">المصدر

    حول الكاتب

    مقالات ذات صله

    الرد

    لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

    W P L O C K E R .C O M