شهدت الأسابيع القليلة الماضية عدة منعطفات ومتغيرات كبيرة في مسار الحرب في السودان، ستكون لها عواقبها المؤثرة على مواقف القوى السياسية والأطراف الخارجية المعنية.
فعلى صعيد الموقف العسكري، تقدمت القوات المسلحة السودانية واستعادت السيطرة على مناطق واسعة وحيوية في العاصمة الخرطوم، وفي ولاية سنار التي سيطرت فيها على منطقة جبل موية الاستراتيجية. كما نجح الجيش السوداني بمعية القوات المشتركة لحركات الكفاح الدارفورية في فك الحصار الذي ظلت تضربه “قوات الدعم السريع”على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور منذ مايو/أيار الماضي، ومضت القوات السودانية أكثر من ذلك بالتقدم نحو مدينة الجنينة عاصمة ولاية غرب دارفور التي ارتكبت فيها “قوات الدعم السريع”مجزرة المساليت بعد اغتيال حاكم الولاية خميس أبكر.
بطبيعة الحال كان لتقدم الجيش أثر إيجابي بالغ في فك حصار التجويع على المواطنين في المناطق التي حررها الجيش. فقد انسابت المعونات الغذائية والدوائية للمواطنين الذين كانوا محاصرين من قبل قوات الميليشيا في منطقة بحري. وهو ما انعكس في مظاهر الفرح العفوية التي وصلت إلى حد الخروج في مسيرات للتعبير عن الفرح والغبطة لتقدم الجيش على الميليشيا ميدانيا في بعض مدن المهاجر التي لجأ إليها السودانيون. كما تعددت الدعوات التي ربما تكون مبكرة وسابقة لأوانها، بين السودانيين للعودة.
التحركات المصرية تهدف بشكل حثيث إلى وقف الحرب وحماية المدنيين وتعزيز الاستجابة الدولية لخطط الإغاثة الإنسانية
وقد خرجت شهادات المواطنين في المناطق التي كانت تسيطر عليها الميليشيا عن تلك الفترة بحكايات يشيب لها الولدان. فقد حكى بعض المواطنين كيف كانوا يضطرون إلى إخفاء بناتهم ونسائهم خلال فترة سيطرة الميليشيا على مناطقهم، في غرف مهجورة ويغلقون عليهم إقفال الأبواب بشكل يوحي بأنها مجرد مخازن مهجورة خوفا عليهم من الاختطاف والاغتصاب على يد مرتزقة الميليشيا. ودخل مهندسو المياه والكهرباء إلى المدينة وأعادوا تشغيل محطات التوليد وشبكات الإمداد الذي توقف لشهور طويلة خلال سيطرة الميليشيا. وحملت الأخبار تباشير مماثلة عن المناطق التي يتقدم فيها الجيش في ولاية الجزيرة.
(أ.ف.ب)
سودانيون ينتظرون خارج مستشفى لإجراء فحص طبي في طوكر بولاية البحر الأحمر بعد الفيضانات الغزيرة الأخيرة في شرق السودان يوم 10 أكتوبر 2024
في حين نجح هذا التقدم العسكري للجيش في تحسين حياة الناس في بعض المناطق، فالمعركة لا تزال بعيدة عن نهايتها. وهذه النهاية من غير المرجح لها أن تكون عسكرية في كافة الأحوال. ولكنها كانت كافية لإثارة حفيظة الميليشيا وقائدها محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي خرج إلى الناس بخطاب مطول يوم الأربعاء 8 أكتوبر/تشرين الأول 2024، وجاء متزامنا مع قرار فرض العقوبات الذي صدر من وزارة الخارجية الأميركية ضد شقيقه الأصغر القوني حمدان دقلو، باعتباره المسؤول الأول عن مشتريات السلاح والعتاد للميليشيا.
جاء خطاب حميدتي انفعاليا إلى حد كبير وكشف عن اضطراب الرجل. وتحدث بشكل ارتجالي وباللهجة العامية السودانية على غير عادة خطاباته السابقة. وهدد السودانيين بالويل والثبور وعظائم الأمور عبر إعلانه تجنيد مليون مقاتل جديد في صفوف الميليشيا. وألقى باللائمة الكبرى في هزائم قواته الأخيرة على جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة، حيث اتهمهما بإمداد الجيش السوداني بالسلاح، وأشار إلى دولة عربية أخرى تفادى ذكر اسمها. واشتكى حميدتي من قصف الطيران المتواصل على مناطق قواته الذي استمر في إحدى المرات من الساعة الثالثة وحتى العاشرة صباحا حسب قوله بالتساؤل: “لماذا؟ ألسنا بشرا؟”وهو ما أثار عاصفة من السخرية حول محاولته استجداء العواطف الإنسانية للإشفاق على قواته التي ظلت تمارس الجرائم الموثقة ضد الإنسانية.
وسارعت وزارة الخارجية المصرية إلى نفي مزاعم قائد “الدعم السريع”كما جاء في بيانها. وأشارت إلى أن التحركات المصرية تهدف بشكل حثيث إلى وقف الحرب وحماية المدنيين وتعزيز الاستجابة الدولية لخطط الإغاثة الإنسانية. ودعت المجتمع الدولي للوقوف على الأدلة التي تثبت حقيقة ما ذكره قائد الميليشيا.
(أ.ف.ب)
سودانيون في طريقهم لتلقي فحص طبي في طوكر بولاية البحر الأحمر بعد الفيضانات الغزيرة الأخيرة في شرق السودان يوم 12 أكتوبر 2024
وكان واضحا أن الاتهامات التي ألقى بها قائد الميليشيا عن دور مصر ودول أخرى استفاض في ذكرها تهدف، وبشكل مباشر، إلى صرف النظر وتوزيع اللوم عن تدخلات خارجية ودور دول إقليمية محددة ظلت تدعم ميليشيا “الدعم السريع”منذ اندلاع الحرب، وتم إثبات دورها بواسطة تقارير خبراء الأمم المتحدة، بالإضافة إلى تقارير صحافية مستقلة متعددة. وهو ما أدى إلى ضغوط دولية مكثفة على هذه الجهات لإيقاف دعمها للميليشيا، الأمر الذي سعى حميدتي في خطابه إلى رفع الحرج عنها بتوزيع الاتهامات على دول أخرى بدعم قوات الجيش وكما ذكر في خطابه قائلا: “كل هؤلاء يدعمون الجيش في حين لا توجد جهة تدعمنا”.
يبدو أن المجتمع الدولي أخطأ في قراءة الأزمة السودانية منذ البداية، واعتمد على أساليب واستراتيجيات غير فعالة
لم يقتصر رد فعل الميليشيا على خطاب زعيمها فحسب، ولكنها أطلقت أيضا تجريدة عنف وإجرام ذات طابع عنصري أيضا. ففي 16 أكتوبر 2024، أورد تقرير “مختبر الدراسات الإنسانية بجامعة ييل” الذي يتابع الوضع في السودان بشكل دوري وعن كثب بواسطة الأقمار الاصطناعية أدلة مصورة عن هجمات “الدعم السريع” على القرى المأهولة بالسكان الذين ينتمون إلى قبيلة الزغاوة في شمال دارفور. وأحرقت قوات الميليشيا ما لا يقل عن 17 قرية بشكل متعمد في الأسبوعين الأخيرين. وتتسق هذه الهجمات مع نمط ثابت من الاستهداف العرقي الممنهج لمجتمعات الزغاوة بواسطة “قوات الدعم السريع”، حيث أحرقت “قوات الدعم السريع” قرى الزغاوة في الفاشر– شمال دارفور وما حولها، فضلا عن مجازرها ضد المساليت في غرب دارفور. ونتيجة لهذه الهجمات الأخيرة فقد وصل عدد القرى التي تم إحراقها وتدميرها بشكل كامل بواسطة “قوات الدعم السريع” في دارفور إلى 84 قرية منذ بدء الحرب.
(أ.ف.ب)
وزير الخارجية السوداني حسين عوض يتحدث خلال مؤتمر صحافي في بورتسودان يوم 14 أكتوبر 2024
ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، تتصارع الأزمات العالمية، وعلى رأسها التوترات المتصاعدة في فلسطين وأوكرانيا، لتستحوذ على اهتمام العالم، تاركة الأزمة السودانية في الظل. وفي حين لم تسفر محادثات جنيف، التي قاطعتها الحكومة السودانية، عن أي نتائج ملموسة لحل الأزمة، فقد كشفت عن ضعف الخبرات السياسية والدبلوماسية التي أوكلت إليها مراكز القرار الدولية مخاطبة الأزمة السودانية، وهو الأمر الذي يعكس مجددا غياب أي تحرك دبلوماسي جاد لوقف نزيف الدماء في السودان.
(أ.ف.ب)
شارع بمدينة أم درمان تضرر من الحرب الأهلية في السودان، يوم 7 أبريل 2024
ويبدو أن المجتمع الدولي أخطأ في قراءة الأزمة السودانية منذ البداية، واعتمد على أساليب واستراتيجيات غير فعالة. ونتيجة لذلك، فقد قدرته على التأثير في الوضع ودفع الأطراف المتنازعة نحو السلام.
إن الأمل الأخير لمعالجة الأزمة السودانية التي استطال أمدها أصبح معلقا بشكل كبير على التحركات الوطنية، والتي تعاني بدورها من ضعف التأييد الشعبي والانقسام والتباين الحاد الذي تسبب فيه انحياز بعض الأطراف السياسية المدنية إلى معسكر الميليشيا في خضم انتهاكاتها وجرائمها المتزايدة.