الصراع يعني القيام بعمل ثوري لم يهدف إليه العمل في أي وقت من الأوقات، ولكن عندما يتعرض النظام للخطر، نجد أن الحكومة ستقوم بالتدخل بما لها من سلطة إلزامية حتى يستتب الأمن، غير أنها ربما تعرضت هي نتيجةَ تدخلها للثورة. وطبيعي أن تدخل الدولة يقصد منه القيام بذلك باسم المجتمع…
بقلم: هارولد ج. لاسكي
وإن العامل الاقتصادي هو الصخرة التي يقوم عليها البناء الاجتماعي الأعظم، أما السبيل التي يؤدي إليها عقله فتكمن في الصراع الذي يدور رحاه بين الطبقات لامتلاك سلطة الدولة. ولقد دللت على أن المكان المختلف الذي تشغله الطبقات المختلفة في عملية الإنتاج تدفع الاحتياجات والمصالح بالخروج إلى حيز الوجود، وعندئذ تتعارض كل منها مع الأخرى.
وإن التناقض بين علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج هو الذي يحدد معالم النقطة التي أثرناها، وتصبح لهذا التناقض أهميته عندما تحول هذه العلاقات دون التوسع في القوى الإنتاجية، إذ ستشعر كل طبقة من جراء هذا بالمرارة والفشل، ومن ثم سيداخلها الشك في صحة النظام القائم. وسيتطلب هذا تغييرًا في المبادئ القانونية التي تتمسك بها الدولة، وعندئذ تنشأ ضد المبادئ التي تسند النظام القائم مبادئ أخرى جديدة تنحي عليها باللائمة، وتضمر لها العداء. وعندما يكمل هذا التناقض يسود المذهب الجديد، وتتاح الفرصة عندما يتعرض النظام القديم للمقاومة، وعندئذ يكون الاختيار بين الاستسلام له والإطاحة له.
ونحن نرى مثل هذا التطور بوضوحٍ في انهيار نظام الحكم القديم في فرنسا انهيارًا يتسم بالبطء، كما أن التشابه الموجود في مثل هذه الظاهرة يسترعي الانتباه، وأن الموقف الذي تتخذه بالنسبة للقيم الراهنة والمقررات الحالية يعتبر موقفًا عصيبًا يسيطر على المجتمع بأسره، وتحاول الدولة إخماد مثل هذا الموقف بالقوة، بيد أن هذا المجهود لا يكلل بالنجاح دائمًا. وعندئذ تضطر الدولة إلى تقديم بعض الحلول، ولكن بعد فوات الوقت، وعندئذ يقلق بال السلطة التي بيدها الحكم، وتحاول جاهدة أن تبقي على النظام القديم بإبطالها هذه الحلول إبطالًا نهائيًّا، وتعود النواحي الحاسمة للنظام القديم من جديد، ولكنها لا تدوم طويلًا، ولا يدوم أوج السلطة طويلًا، ولكننا نستطيع أن ندرك في الأزمة التالية أن أسس الدولة قد قصم ظهرها.
وتجدر بنا مناقشة طبيعة الصراع الطبقي وخصائصه في المجتمع على ضوء هذه الاتجاهات؛ إذ إننا نجد هذا الصراع في كل مجتمع وهو يتميز بناحيتين هما تقسيم العمل والملكية الشخصية لوسائل الإنتاج. وقد ذهب ماركس إلى أن تطور الصناعة التي تقوم على الرأسمالية سيقسم المجتمع إلى طبقتين كبيرتين كل منهما تصارع الأخرى، فالطبقة الأولى هي الطبقة البرجوازية التي تملك أدوات الإنتاج التي تستخدم سلطة الدولة في حماية المصالح التي تتمتع بها. أما الطبقة الثانية فهي طبقة البروليتاريا التي تبيع قواها لتقتات منها وتعيش، إلا أن ذلك الوضع يزيد مركز هذه القوى سوءًا، ويرجع هذا إلى أن الرأسمالية قد حيل دون استمرار توسعها، فأخذت تتجه نحو الاستيلاء على سلطة الدولة حتى تدخل بعض التغييرات على العلاقات بين الطبقات، ولم ينكر ماركس وجود طبقات أخرى في المجتمع، أو أن هناك بعض الجماعات الهامة التي تضم أصحاب الأراضي وأصحاب الحِرف أو رجال الأعمال والبيروقراطية الرسمية. ولقد دلل على أن الدور الذي يقوم به كل منها في العملية الإنتاجية كان له أكبر الأثر في الرأسمالية؛ إذ إنها تجعل منها عملًا تاريخيًّا يقوم بتحديد العلاقات بين الطبقات، وهذه هي المهمة الملقاة على عاتق الطبقة البروليتارية، كما أن العمل التاريخي الملقى على كاهل الطبقة البرجوازية هو إتمام للثورة السابقة التي قضَت على دولة الإقطاع. أما في الأزمة الأخيرة فنجد أن هذه الطبقات (وهي عديمة القيمة نسبيًّا) يجب عليها أن تختار بين المصالح الأقوى في هذا الصراع.
وإن أول سؤال يجب أن نوجهه إلى أنفسنا هو ما إذا كان هذا العداء الطبقي أمرًا حقيقيًّا. ولقد قيل لنا كثيرًا: إنه نتيجة للخطأ الذي ترتكبه سياسة الحكومة، أو أنه يرجع إلى الفشل في إدراك وحدة الهدف التي تتغلغل في أعماق المجتمع تاركة وراءها مظهر العداء. ويتوالى حدوث الإضرابات غير أن فن التحكيم الذي يتسم بالحكمة ييسر السبل لإيجاد حل عادل لها، وأن أصحاب الأعمال والعمال يتوقون إلى تحقيق هدف مشترك، وذلك بالنهوض بمستوى إنتاج الشركة؛ لأن ذلك يرفع مستوى الأجور، كما أن الإدارة الحكيمة تستطيع معرفة الإمكانيات الموجودة في المجتمع.
ويعتبر هذا تفسيرًا يتسم بالمثالية للنمط الاجتماعي الذي يستبعد كل ما هو أولي، وأود أن أتناول في هذا المجال موضوع المجتمع الصناعي الذي نعرفه، واضعين نصب أعيننا إجراء التغييرات الضرورية وهي صورة مشابهة له، ومن الممكن تحديدها ووقفها على أنواع منظمات اقتصادية سابقة، ونجد في بعض الأحيان أن هناك بعض المجتمعات التي تهيمن فيها طبقة صغيرة على أدوات الإنتاج، وأن مصلحتها في الإنتاج الاجتماعي الإجمالي تختلف من حيث التوزيع عن مصلحة الجماهير؛ إذ طالما كان الإنتاج الاجتماعي الإجمالي محدودًا نجد أنه كلما زادت الأجور قلت مكاسب هؤلاء الذين يسيطرون على أدوات الإنتاج وأرباحهم، وطالما كان الباعث على الإنتاج هو القدرة على الكسب كما تشير فروض المجتمع القانونية، نجد أن مستوى الأجور ستحدوه علاقة هذا المستوى بالنسبة لمستوى المكسب الذي سيدفع أصحاب رءوس الأموال إلى استخدامها لتحقيق الهدف الذي يرمي إليه الإنتاج. وعندما تكون لدينا أركان النواحي الرأسمالية نجد أن الفشل في الحصول على بعض المكاسب والأرباح يعني إما البطالة أو تخفيض الأجور، ومن الواضح وجود عداء أساسي تتضمنه ملكية وسائل الإنتاج بين مصالح الرأسمالية من جانب، ومصالح العمل من جانب آخر.
ويمكن القول بأن هناك عداوات اجتماعية أخرى، ولكن ليس من الضروري أن تؤدي إلى النتائج السياسية التي ذكرتها من قبل، فهناك صراع بين مصالح أصحاب الفحم وأصحاب الزيت وبين المحال الخاصة والجمعيات التعاونية، وكلنا يعرف وجود التعارض التاريخي بين الريف والمدينة، وبين الكنائس والنقابات، وإننا لا نتوقع مطلقًا أن تقوم مشاحنات بين أصحاب الفحم والزيت لامتلاك الدولة؛ إذ نحن على يقين من أننا سنصل إلى إيجاد التعاون والتكييف بين المصلحتين، فلماذا إذن ندلل على أن الوضع يختلف اختلافًا تامًّا عندما يحمى وطيس العداء بين رأس المال والعمل؟
والإجابة على ذلك من صميم الموضوع الذي أناقشه في هذا المجال؛ لأنه يكمن في فلسفة الدولة، ففي أي مجتمع من المجتمعات حيث يمتلك بعض الأفراد أدوات الإنتاج يترتب على استخدامها، وبالتالي على توزيع الإنتاج، سوء حالة الطبقة العاملة، ويرجع ذلك إلى عدم اشتراك هذه الطبقة في أدوات الإنتاج. وعلى العموم يمكن الوصول إلى أي اتفاق بشأن تلك العداوات الاجتماعية الأخرى، فربما يتحد التنافس الذي تدور رحاه بين الرأسماليين أو اتحاد النقابات، أو يختفي هذا التنافس. كما أن المنازعات التي تقوم بين الكنائس لا تعني استغلال طبقة لطبقة أخرى.
أما الاختلاف بين الريف والمدنية فيعتبر أمرًا هامًّا، وجدير بالملاحظة أنه عندما يقوى هذا الاختلاف ويشتد -كما نجد في أوروبا الشرقية اليوم- يأخذ هذا الاختلاف طابع الصراع من أجل سلطة الدولة. ويمكن الحد من اضطراب النواحي الزراعية، كما يشير التاريخ الإنجليزي الحديث دون إجراء أي تغيير على الفروض القانونية التي يقوم عليها المجتمع الرأسمالي. وهناك فارق بين كل العداوات الاجتماعية الأخرى، إلا أن الفارق بين رأس المال والعمل يمكن إدراكه عن طريق إدخال بعض التغييرات على هذه الفروض القانونية.
ويمكن القول إن هناك بعض العداوات الأخرى، ونجد مثلًا العداء المستحكم بين الزنجي والرجل الأبيض في الولايات المتحدة وجنوب إفريقيا، أو العداء الموجود فعلًا بين العمال الكاثوليك، والعمال البروتستنت في دبلن. وليس هناك ما يدعو إلى أن ننكر أنها ستقوم بالحيلولة دون التماسك الطبقي، فلقد تعود أصحاب الأعمال على تقسيم عمالهم إلى فئات تميزهم في النواحي العنصرية والقومية.
غير أن وجود مثل هذه العداوات لا يعني القضاء على العداء الموجود بين رأس المال والعمل في المجتمع الحديث؛ إذ إن وجوده يحد من تعبيره الكامل. ولقد أوضحت الثورة الروسية أن الوعي الطبقي يثير بعض الاختلافات العنصرية أو المذهبية أو القومية التي تحاول دائمًا الحيلولة دون ظهورها، وإننا لا نستطيع أن نحدد الملابسات تحديدًا دقيقًا، ولكن ما نستطيع قوله هو أنه مهما حاول نظام الإنتاج أن يحول بين الطبقة العاملة، وما تتلقاه نتيجة المجهود الذي تبذله، والذي ننظر إليه على أنه أمر معقول، نجد أنه يبحث عن الوسائل والسبل الكافية لإجراء أي تغير على بنيان المجتمع الأساسي.
وطبيعي أن أي حق يخول للقيام بهذا المجهود سيعتمد على نواحي عدة متشابكة ومعقدة، فما من شك في أن النضوج السياسي لأي شعب ونوع الحكومة التي يعيش هذا الشعب في ظلها، وكذلك سلطة الهيئات الدينية والتأثير السيكلوجي نتيجة للنواحي العنصرية – كل ذلك مدعاة للاختلاف، وإن المجتمع الذي يأخذ في التوسع من الناحية الاقتصادية كالولايات المتحدة مثلًا قبل الكساد الأعظم سيحس بشدة الصراع الطبقي، ولكن ليس بالنسبة التي تحس بها بريطانيا منذ الحرب، فطالما يدفع نظام الملكية الخاصة في وسائل الإنتاج إلى التقدم في أحوال الطبقة العاملة، هذا التقدم الذي يحقق أماني العمال المعترف بها سيجعل هؤلاء العمال يتقبلون وضع الدولة كما هو، ولكن عندما يقف هذا التقدم، نجد أن العمال سيُثار فيهم وعي ثوري، وسيحاولون دائمًا تحقيق موجبات رضاهم، فإذا لم يتيسر لهم ذلك في ظل نظام علاقات الملكية نجدهم يحاولون استبداله بنظام آخر، ونحن نعرف أن بديل الإصلاح هو الثورة.
وإني لا أدلل على أن هذه الثورة دائمًا تكلل بالنجاح، فهي مشكلة تنطوي عليها الاستراتيجية التاريخية. ومما هو جدير بالذكر أن ما أتناوله الآن هو ما يتضمنه التطور الاقتصادي طالما اتضحت لنا طبيعة الدولة، ويجب على الناقد هنا أن يكون قادرًا على برهنة أمرين: أن يوضح أن النظام الرأسمالي الحديث -وهو يختلف اختلافًا تامًّا عن سابقه- يمكن أن يتسع نطاقه بغض النظر عن علاقات الملكية التي قام عليها. ويجب على الناقد أيضًا أن يبين أن هذا التوسع له من الخطورة ما يمكنه من تحقيق أماني العمال المعترف بها، كما يجب أن يوضح ذلك، لا من أجل الوصول إلى رأسمالية مجردة لعالم مثالي حيث ينعدم وجود تلك المشاحنات التي نعرفها، ولكن من أجل عالم تتصارع فيه قوى الاستعمار الاقتصادية. وهو عالم يسوده التضخم والكساد، يسوده الصراع لفتح سوق جديدة، وتسيطر عليه الضرائب والجزية، وهو عالم تتحكم فيه الإعانات للتحكم في هذه السوق. ويجب عليه أيضًا أن يبين أن نظام علاقات الملكية الراهنة يمكن أن يمحق الثغرة القائمة بين قوى الإنتاج وقوى الاستهلاك، كما ينبغي أن يوضح أيضًا أن الدولة ليس في إمكانها الاحتفاظ بعاطليها في ظل ظروف رغدة فحسب، ولكنها تستطيع في ظل إمكانيات الحصول على مكاسب وأرباح أن تُبقي على الخدمات الاجتماعية، بل وتطورها، هذه الخدمات التي يعتبرها العمال أمرًا جوهريًّا فيما تؤديه الدولة من أعمال.
ومما هو جدير بالملاحظة أن هذه الإمكانيات هي التي في ظلها يخرج هذا البرهان إلى حيز الوجود في الديمقراطية الرأسمالية، ولقد أقيمت دعائم مثل هذا المجتمع على حق الانتخاب العام، فهو يحاول التوفيق بين تركز السلطة الاقتصادية في أيدي حفنة من الأشخاص، وانتشار السلطة السياسية على نطاق واسع. ومما لا بد منه هو أن الجماهير التي تعيش في مثل هذا المجتمع يجب أن تستخدم ما لها من سلطة سياسية لضمان اطراد النواحي المادية وسلامتها، فإذا سلمنا بهذه الافتراضات التي تقوم عليها الديمقراطية الرأسمالية فإننا نجد أن ذلك معناه وجود حكومة تقوم لتحقيق هذه الأهداف، ومن اليسير أن ترى أن تحقيق ذلك لا يتيح المجال للصعوبات في عصر تسوده الرأسمالية التوسعية، وعندئذ لا تمس النواحي التي تقدمها الحكومة أماني هؤلاء الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج، فهم على استعداد لدفع الثمن الذي تنطوي عليه افتراضات هذا النظام، غير أن الموقف يختلف اختلافًا تامًّا عندما تكون الرأسمالية في اضمحلال؛ إذ يبدو أن الثمن الذي تتوقعه الديمقراطية من مثل هذه الامتيازات سيكون غاليًا جدًّا، وعندئذ تتعارض الافتراضات التي قامت عليها الرأسمالية مع ما تتضمنه الديمقراطية، وإذا طالت مدة التدهور ينبغي أن تتوقف العملية الديمقراطية أو تعدل من الافتراضات الاقتصادية التي يقوم عليها المجتمع.
ويشهد تطور الحركة الفاشستية بدقة هذا التحليل؛ إذ إن ناحية الرأسمالية الحرة عندما تندمج في الديمقراطية -وتصبح مثلًا أعلى- قد تتمشى مع ناحية التوسع، وطالما اتضحت سلطة الرأسمالية وهي تستمد الإمكانيات من عمليات الإنتاج، فإنه من المستطاع التنازل عن المطالب الديمقراطية. أما التناقض الموجود بين الافتراضات الاقتصادية والسياسية فيخلع عليه ثوب الرضا للنجاح الذي أحرزه بما يؤديه من أعمال. ولكن عندما تسير الرأسمالية في مياه ضحلة، نجد أن سياسة تلك الامتيازات توحي بالتشكك والريبة، أما الدافع إلى الحصول على بعض المكاسب فيتطلب تخفيض الأجور، وتنقيص التكاليف التي تفرض على رأس المال عن طريق الضرائب، ورداءة النواحي الصناعية، وبالتالي تتدهور نواحي الخدمات الاجتماعية.
إلا أن الديمقراطية قد دفعت الجماهير إلى أن تتوقع عكس هذا كله، إذ اعتقدوا في أن لهم الحق في استخدام سلطتهم السياسية حتى يتمكنوا من الحصول على المكاسب المادية، وتحقيق نواحي صناعية أفضل، والتوسع المستمر في الخدمات الاجتماعية. ولقد تعادلت هذه النواحي من الديمقراطية في الدولة، غير أنه في الأحوال العسيرة نجد أن الرأسمالية تقوم بعرقلة المطالب التي يعدون تحقيقها فترة من الزمن، ولكن إذا طال ذلك نجد أن النتيجة المنطقية هي أن الرأسمالية تتخذ طريقًا آخر طالما كان هناك استمرار في اندماج الرأسمالية والديمقراطية.
ولقد أخذت الفاشستية على عاتقها نجدة الرأسمالية من الورطة التي وقعت فيها؛ إذ عهدت بسلطة سياسية تكلفة هؤلاء الذين يمتلكون وسائل الإنتاج ويتحكمون فيها، وذلك للقضاء على الديمقراطية. أما الطرق التي اتبعتها فهي على نمط واحد، فأخمدت الأحزاب السياسية التي أنكرت وجود تلك الأهداف، وولى العهد الذي كان يسود فيه الحق في الإضراب، ومضى عهد النقابات الحرة، وقلت الأجور إما من جانب أصحاب الأعمال وإما بموافقة الدولة، وأنكر الحق في توجيه النقد سحب الحق الذي خول للمنتخبين تغيير الحكومة. ومما هو جدير بالملاحظة أن الدول الفاشستية الرئيسية قد أقامت سلطتها على الاتفاق الذي أبرمته مع القوات المسلحة، إذ إنها -كما أوضحت في الفصل السابق- مركز السلطة الإلزامية العليا، كما أنها أقامت سلطتها أيضًا على تسليح القوات الموالية لها؛ إذ إن عمل الحرية الآن هو نشر الحقائق الصادقة؛ ولذلك أخذت الحكومة تباشر الصحافة والإذاعة والسينما والمسرح بطريق مباشر، وكانت هناك جهود تبذل في ألمانيا الهتلرية لإخضاع الكنائس لأغراضها. أما هؤلاء الذين أخذوا يشنون الهجوم على تلك الامتيازات الجديدة فقد وجدوا طريقهم إما إلى السجون والمعتقلات وإما إلى المقصلة، إذ إنهم تخلوا عن حياد الخدمات المدنية التي تعتبر فكرة أساسية للديمقراطية الرأسمالية. أما في الأوقات العصيبة فهي تفسر لنا ناحية من النواحي الفكرية للنظام الجديد. ولقد استوعب النظام البيروقراطي مكافحين محنكين جديرين بالثقة من مكافحي الجبهة القومية، ونجد أيضًا أن الهيئة القضائية تخضع لخدمات المثل العليا الفاشستية، لا للمبادئ القانونية؛ ولذلك يمكن لأي محامٍ ضليع أن يدافع عن مذبحة ٣٠ يونيو عام ١٩٣٤م على أنه تجسيم للعدالة المطلقة.
وتستطيع الفاشستية إذن، وفي مثل هذه الملابسات، أن تقوم على صيانة الرأسمالية، والإبقاء عليها، طالما وأنها تستطيع الاعتماد على القوات المسلحة، ومن ثم فهي تستطيع أن تسحق جميع الاضطرابات الداخلية التي تواجهها، وهي تتيح للرأسمالية الفرصة لكي تدرك أن إشباع دافع الكسب يشغل المحل الأول لسياسة الدولة. أما مشاكل الديمقراطية الرأسمالية فيمكن حلها عن طريق التخلص من العنصر الديمقراطي. ولقد ذكر هتلر في كتابه «كفاحي»: «أن الدعاية يجب أن تستفيد بكل مذهب مهما كان خداعًا إذا كان ذلك المذهب يعزز الأهداف الفاشستية.» وأوضح موسوليني أن في تحقيق أهداف الفرد تتحقق أهداف الدولة، وعندما نقوم بدراسة مظهر الهدف الحقيقي في المجتمعات الفاشستية يتضح لنا أنه يتضمن تضحيات العامل البسيط لتقديمها قربانًا على مذبح المطالب الرأسمالية؛ لكي تستطيع الحصول على المكاسب.
ومن الأهمية بمكان أن ندرك أن إخماد النواحي الديمقراطية في إيطاليا وألمانيا قد تمت دون أي تغيير في العلاقات الاقتصادية للطبقات. ففي ألمانيا وإيطاليا نجد أن التناقض الموجود بين مظهر السلطة وحقيقتها لا يمكن الوصول إلى حل له عن طريق إدخال بعض التغييرات على المبادئ القانونية التي تحدد العلاقات بين الطبقات، ولكن عن طريق إخماد النواحي الاجتماعية والسياسية، فلقد سعى العمال في الحكم السابق عن طريق تلك الامتيازات إلى ضمان تلك المطالب التي وجدوا أن لهم الحق في ضمانها، وتغيرت العلاقات القانونية بين الطبقات في روسيا من أساسها؛ وذلك لإقامة الدولة بدلًا من قيام حفنة من الأفراد بامتلاك وسائل الإنتاج، وإن ما تركته الحكومات الجديدة في إيطاليا وألمانيا من أثر حقيقي هو سلب العمال حقهم القانوني في إنكار أن أهداف الدولة تعتبر أمرًا كافيًا لهم. أما توزيع الإنتاج الاجتماعي فهو يقوم على نفس المبادئ التي كانت موجودة من قبل هذا التغيير.
فإذا قيل لنا: إن الدولة – وهي تتخذ موقف الحياد – قامت بتحديد هذه المبادئ، فإن الرد القاطع إذن هو إنكار حيدة الدولة، إذ إن الدولة الفاشستية ترضخ لفروضها القانونية الأساسية، وهي تتضمن إخضاع العادات التي تتبعها لدافع المكسب الشخصي، كما أن الخطر الذي تعرض له المكسب الشخصي في السنة الأولى من حكم هتلر قد أجبره على السير في الطريق السوي، والتخلي عن تلك السياسات التي تتضمن تأكيدًا اشتراكيًّا، كما أن مثل هذا الخطر هو الذي حمل الحكومة الفاشستية في إيطاليا على أن توافق باستمرار على تخفيض الأجور، فعندما تتخذ الفروض القانونية للرأسمالية، نجد أن وقع ما تقوم به الدولة من أعمال يكون في صالح أصحاب رؤوس الأموال، فإذا التجأ الفرد إلى مبادئ أخرى فمعنى ذلك التعارض مع الطبيعة الكامنة للفاشستية.
هذا هو الدرس الذي تلقته الفاشستية، ولكن لم تلق أية خبرة تاريخية في الأزمنة الحديثة الضوء على طبيعة الدولة. أما سلطتها الإلزامية فيجب استخدامها لحماية استقرار نظام العلاقات بين الطبقات، ولكن لا يمكن استخدامها لتغيير هذا النظام. وهذا يعني أنه إذا عرضت المؤسسات الاجتماعية سلامة هذا الاستقرار للخطر، فإن الدولة ستشن عليها هجومًا باسم القانون والنظام. وفي قيامها بذلك تجدها وقد هبت للدفاع عن تلك المصالح وحمايتها، إذ إن قانون وجودها لا يحتم عليها اتخاذ موقف محايد، وهي تضطر إلى الاختيار لا لشيء إلا لكونها دولة، أما حكومتها فهي تؤدي عملها على أنها اللجنة التنفيذية لهذه الطبقة التي تسيطر من الناحية الاقتصادية على نظام الإنتاج الذي في ظله يعيش المجتمع.
والمثال الأمريكي خير مثال يوضح لنا هذا الموقف، فالمبادئ التي قامت عليها النقابات في الولايات المتحدة، والسلطة القديمة التي يمارسها أصحاب الأعمال في الصناعات حيث تتميز بالتنظيم السيء، أدى كل هذا إلى تنفيذ بند من بنود قانون الانتعاش الاقتصادي القومي الذي صدر عام ١٩٣٣م. ومن المعروف أن معارضة أصحاب الأعمال أدت إلى قيام صعوبات كثيرة في تطبيق هذا البند.
فعلى شواطئ المحيط الهادي نجد أن رفض شركات الملاحة وبناء السفن بالاعتراف باتحاد عمال النقل أدى إلى قيام عمال سان فرنسيسكو بالإضراب في يوليو عام ١٩٣٤م.
ولقد فض هذا الإضراب بعد أربعة أيام؛ لأن قوى الحكومة تكاتفت للتغلب على أهدافه باسم القانون والنظام، ومن جهة أخرى نجد أن أصحاب الأعمال في سان فرنسيسكو أخذوا عن وعي يراوغون في تنفيذ الالتزام الذي فرضه القانون عليهم، ولم يكن بالشيء الهام أن روح القانون الأمريكي هي أنه يطبق بالمساواة وبغير تمييز على جميع الأشخاص سواء أكانوا من أصحاب الأعمال أم العمال؛ وذلك لأن محاكم الدولة كانت طبقًا لأهداف الدولة المحددة تلتزم الحياد بين الجانبين.
وعندما يقف دولاب العمل في مجتمع سان فرنسيسكو، نجد أن ذلك يعرض استمرار هذا المجتمع للخطر، ويعتبر هذا بمثابة جوهر للإضراب العام، فهو محاولة عن طريق الضغط على أصحاب الأعمال حتى يرضخوا، وهو محاولة أيضًا عن طريق حمل الحكومة على استخدام نفوذها لتحقيق الهدف الذي قام الإضراب من أجله، والإضراب العام بطبيعته معناه تعريض النظام العام للخطر، إذ يترتب عليه حرمان المجتمع من الخدمات الهامة، والحكومة تقوم بحماية هذا النظام، ويتسنى لها ذلك عن طريق تأدية هذه الخدمات. ولقد ذكر مستر هيو جونسن وهو المتعهد بتطبيق قانون الانتعاش الاقتصادي القومي «أن الإضراب العام يعرض سلامة المجتمع للخطر، ويهدد الحكومة، كما أنه يعتبر حربًا أهلية ربما أدت إلى ثورة دموية»، وحث العناصر المسئولة في الحركة التي قامت في سان فرنسيسكو على أن تطهر نفسها من القوى الهدامة التي تهدف إلى القيام بإضراب عام.
ولكن ماذا ترتب على مثل هذا الموقف؟ فأصحاب الأعمال استمروا في رفضهم الاعتراف باتحاد عمال النقل حتى لا يقعوا تحت طائل الالتزام القانوني، وهم في نفس الوقت يؤكدون بأن الحكومة ستتدخل لكي تحد من هذا الإضراب، وعلى العمال إذن الاختيار بين الاستسلام للحكومة أو الصراع معها. وطبيعي أن الصراع يعني القيام بعمل ثوري لم يهدف إليه العمل في أي وقت من الأوقات، ولكن عندما يتعرض النظام للخطر، نجد أن الحكومة ستقوم بالتدخل بما لها من سلطة إلزامية حتى يستتب الأمن، غير أنها ربما تعرضت هي نتيجةَ تدخلها للثورة. وطبيعي أن تدخل الدولة يقصد منه القيام بذلك باسم المجتمع، غير أن الأثر الذي تتركه هو وضع سلطتها تحت تصرف الملكية الشخصية، إذ هي تتمسك بنظام العلاقات الطبقية؛ إذ إنه يبطل ذلك الحق الذي قامت بمنحه للعمال قانونًا. وإن صحته التي قامت على الحياد تعتبر أمرًا يتوقعه كل فرد، وجدير بالذكر أنه في حالة إضراب سان فرانسيسكو لم تتخذ الحكومة أية خطوة كانت نحو صحة هذا الحق، ولكن إذا تغاضينا عن النواحي البلاغية، نجد أنه بمجرد ما يتعرض أصحاب الأعمال للخطر، نجدها تقوم بالعمل كعميلة لهم.