ان الشخصية القيادية تظهر مزاياها ومحاسنها في المواقف الحرجة، ذلك أن الظروف العادية لا يمكن أن تكون محل اختبار لمدى صلاحية الصفات القيادية كون الظروف العادية يتم التعامل معها بعقلية معتادة على تصريف الأمور، وليس هناك ما يضغط على القيادي ولا توجد ظروف غير طبيعية توجه الحاكم أو الشعب…
(من سمات القيادة الجيدة الهدوء أمام الأزمات، مع الاندفاع الداخلي الشديد لحلّها)
الإمام الشيرازي
يشترك في تكوين الشخصية القيادية عوامل عديدة، لكن أهمها تلك التي تُستمَد من جانبين هما، الجانب الوراثي، والثاني من الجانب الخبروي الحياتي المكتسَب، أو ما يطلق عليه باكتساب الخبرات القيادية عبر خوض التجارب والتعلّم، فيشترك هذان الجانبان في تشكيل الشخصية القيادية، وفي حال حدث الانسجام المطلوب بين (الخبروي) و (الوراثي)، فإن الشخصية القيادية سوف تكون في أفضل حالاتها، وتعطي أفضل النتائج.
هذه السمات العامة نجدها بشكل دائم في الشخصية القيادية، وهي في الغالب شخصية مختلفة عن غيرها، أما إذا تشابهت مع الناس العاديين، فلا يمكن أن نطلق عليها شخصية قيادية، لأن الشخص العادي يفتقد لمزايا وسمات القيادة، مثل المبادرة، والإقدام، والصبر، والحكمة، وموازنة الأمور، والحسم إذا كان مطلوبا، هذه الصفات قلّما نجدها في الشخصيات غير القيادية، وهذا بالضبط الفارق الكبير بين العادي والقيادي.
هناك مسألة في غاية الأهمية لابد من الانتباه إليها، فالشخصية القيادية تختلف في إدارة الأمور في حالتيّ الوضع المستقر والأزمات، ففي الظروف العادية يتعامل الشخص القيادي بطريقة مختلفة عن التصرف الذي يسلكه في أيام الأزمات، وفي الغالب لابد من توفر صفات وحالات سلوكية معينة يجب أن تكون موجودة في الشخصية القيادية.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يختصر لنا هذه الصفات في كتاب موجز موجّه إلى الحكام المسلمين بشكل عام، ويوجب وجود العديد من الصفات في الشخصية القيادية منها:
(الوضوح في الرأي، بأن يكون صاحب رأي في الأمور).
يجب أن يكون القيادي ذا رأي واضح، غير متذبذب، ولا غامض، يميل إلى الوضوح والثبات والدقة، على عكس ما يعتمده قادة العالم اليوم، حيث يميل معظمهم إلى الغموض وعدم وضوح الموقف، بل يرى الكثير منهم أن المكاشفة تعني وجود خلل في شخصية القائد، فينتهج حكام الغرب مثلا المنهج البراغماتي في التعامل مع الآخرين، حيث يكون القائد مستعدا لتغيير رأيه وموقفه تبعا للمصلحة التي يبحث عنها ويريد تحقيقها.
بماذا يتميز الشخص القيادي؟
لذا فإن مقاييس النجاح في القيادة باتت مختلفة اليوم، وقد يكون الغموض والتحايل والتلاعب بالآخرين من عوامل نجاح القادة في سياسات اليوم عبر العالم، وهذا يحدث بسبب غياب أو انعدام الجانب الأخلاقي في العلاقات والتعاملات السياسية، لدرجة أننا يمكن أن نقول بأن السياسة في عالم اليوم باتت خالية من الأخلاق أو أنها ضعيفة جدا.
لكن هذا لا يعني أن ساسة اليوم على حق، أو أنهم على صواب، فالسياسة لكي تحقق أهدفها الصحيحة بإنصاف وعدالة، يجب أن تخلو من التلاعب، ويجب أن تقوم على مرتكزات أخلاقية يتفق عليها الجميع، كما هو معلن بالنسبة لبنود حقوق الإنسان، والتعامل الإنساني في الحروب، من هناك نلاحظ وجود أصوات عالية تنادي بعودة السياسة إلى الأخلاق، وهذا يعني أن الشخصية القيادية يجب أن تعتمد الأخلاق في قراراتها وعلاقاتها وأهدافها.
من السمات الأخرى التي يجب أن نجدها في الشخص القيادي هي:
(المرونة مع الثبات في السير نحو الهدف). وهذا يؤكد قضية الأخلاق وعدم التلاعب والغموض، فلا يصح أن يفتقد القائد قضية الثبات، لكنه يجب أن يتحلى بشيء من المرونة والتوازن وعدم التصلب في الأمور والمواقف التي من الممكن تخفيف الثبات عليها في بعض الأحيان، خاصة إذا كان الجوهر باقيا كما هو، لا يمسه جانب المرونة بشيء.
وهذا يعني اعتماد القائد لمبدأ (التوسُّط بين الإفراط والتفريط). فلا زيادة مفرطة، ولا تهرّب أو رفض لمطلب مناسب وصحيح، الوسطية هي الحل في هذا المجال، ولكن ليس على حساب المبدأ، المهم في هذا المجال هو الاعتدال والتوازن وحفظ حقوق الأطراف المتشاركة في حل قضية أو معضلة معينة محل خلاف فيما بينهم.
وهذا الأمر لا يمكن تحقيقه ما لم تتوفر القيادة ذات: (الأفُق الواسع، والنظرة الشاملة). كما يصفها الإمام الشيرازي، ويطلق عليها وصف (ثبات الشخصيّة وعدم الترجرج). التي تتحلى بـ (الصبر والنّفَس الطويل).
النظرة الشاملة عند القيادي تعني في نفس الوقت أنه يتحلى بالأفق الواسع وبعد النظر، والتحلي بالحس الاستراتيجي، ولا يقصر تفكيره بالنظرة القصيرة والرؤية الآنية قصيرة المدى.
كل هذه السمات القيادية يجب أن تكون مدعومة بشكل تام بمجموعة من العوامل والصفات في المقدمة منها كما يقول الإمام الشيرازي:
(ضبط النّفْس والتحكُّم في الأعصاب في المواقف الحرجة، خصوصًا المثيرة منها).
الحقيقة أن الشخصية القيادية تظهر مزاياها ومحاسنها في المواقف الحرجة، ذلك أن الظروف العادية لا يمكن أن تكون محل اختبار لمدى صلاحية الصفات القيادية كون الظروف العادية يتم التعامل معها بعقلية معتادة على تصريف الأمور، وليس هناك ما يضغط على القيادي ولا توجد ظروف غير طبيعية توجه الحاكم أو الشعب، ولهذا تبقى الأمور تدور في مجال المعتاد والمعروف والمتعارَف عليه.
النظرة القيادية الشاملة
لذا فإن الأزمات هي التي تكشف لنا المعدن الحقيقي للقادة، وهل هم صالحون أم فاشلون، ولهذا فإن الصفة الأهم التي يجب أن تكون متأصلة في شخصية القائد هي: (الهدوء أمام الأزمات) كما يقول الإمام الشيرازي (مع الاندفاع الداخلي الشديد لحلّها).
إذن هنالك شأن أو صفة مزدوجة يجب أن تتوفر في شخصية القائد كما يرى الإمام الشيرازي، وهي أن يكون ثابتا أمام الأزمات وأن يبادر لمعالجة الأزمة بشكل فوري لكن دقيق وعلمي ومتقن في نفس الوقت. فالقائد يبدو هادئا في الظاهر، أو كما يبدو للناظرين، لكنه في الحقيقة يحتدم في الداخل وتعمل فيه جميع الأعضاء والأحاسيس لمعالجة الموقف.
حيث يصفه الإمام الشيرازي بقوله:
(أن يكون مندفعًا لحلّ المشكلة. وكما قال بعضهم في المثل: يجب أن يكون كالبَطّ ظاهره هادئ، لكنه يضرب رجله في الماء بسرعة).
هكذا هم القادة الناجحون، هادئون في الظاهر، ومحتدمون في الباطن، تنظر إليه فتجد الهدوء باديا على قساماته، لكنه في الحقيقة يكون ثائرا في داخله، باحثا عن الحلول اللازمة، ولا يهدأ له بال إلا عندما يصل إلى الحل الصحيح والمناسب، من دون ابتعاد عن الواقع وما يفرزه من شواهد وأدلة وعلامات تساعد القائد على اتخاذ القرارات الصائبة.
وهذا ما يسميه الإمام الشيرازي بـ (الواقعيّة والنظرة الشموليّة) التي يتحلى يجب أن يتحلى بها القيادي الناجح، فهو غير متعجّل ولا متسرّع ولا متهوّر في اتخاذ القرار، ولكنه في نفس الوقت ليس بطيئا ولا متباطئا في مواجهة الأزمات عن حدوثها، وعليه التعامل معها في بداياتها وليس بعد أن تصل إلى درجة عالية من التعقيد حيث يصعب عليه اتخاذ الخطوات المناسبة.
هكذا يصف لنا الإمام الشيرازي طبيعة التعامل القيادي مع الأزمات، ومع المواقف الحرجة، وهي المواقف التي تضع القيادي على المحك بشكل فعلي، فأما يتقن التعامل في إدارة الأزمة ويتفوق في معالجتها، ويصل إلى الحلول الصحيحة، أو العكس، ولكن القائد الذي يمتلك الصفات التي ذكرها الإمام الشيرازي لابد أن تكون أقدامه على الجادة التي تقوده نحو النجاح.