في ظل التسارع التكنولوجي الذي يميز هذا العصر، لم تعد الابتكارات مقتصرة على تحسين المجالات التقنية والصناعية فقط، بل امتدت لتشمل السياسة والانتخابات. فمثلا أصبح التصويت الإلكتروني في صدارة النقاشات حول مستقبل الانتخابات، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية حيث يرى البعض أنه الحل الأمثل لتحسين العملية الانتخابية وتسهيلها، بينما يعرب آخرون عن مخاوفهم المتعلقة بالأمن والخصوصية، فهل يمكن لهذا النظام أن يكون مستقبل الانتخابات، أم أنه يحمل في طياته أخطارا تهدد نزاهة العملية الانتخابية؟
يعني التصويت الإلكتروني الاعتماد على التكنولوجيا لإجراء الانتخابات، حيث يمكن للناخبين الإدلاء بأصواتهم باستخدام أجهزة إلكترونية أو عبر الإنترنت، مما يجعل العملية أسهل وأسرع، وتتنوع طرق التصويت الإلكتروني بين التصويت عبر الإنترنت، الذي يتيح للناخبين التصويت من أي مكان باستخدام أجهزتهم المتصلة، والتصويت في مراكز الاقتراع عبر آلات إلكترونية، وأيضا هناك التصويت الهجين الذي يمزج بين الطريقتين لضمان الأمان والدقة في العملية الانتخابية.
يقدم التصويت الإلكتروني فوائد واضحة، منها السرعة في فرز الأصوات والدقة في النتائج، مما يحد من الأخطاء البشرية المرتبطة بالأنظمة التقليدية، كما يتيح للناخبين التصويت بشكل أكثر سهولة في مراكز الاقتراع باستخدام الأجهزة الإلكترونية. أما التصويت عبر الإنترنت، فهو يتيح للناخبين الإدلاء بأصواتهم من أي مكان مما يزيدمشاركة الفئات التي قد يصعب عليها الوصول إلى مراكز الاقتراع.
ورغم هذه الفوائد، يواجه التصويت الإلكتروني تحديات أمنية خطيرة تتعلق بالقرصنة والاختراقات، مما يهدد نزاهة الانتخابات. كما أن هناك مخاوف حول الخصوصية، حيث قد يتم استغلال البيانات الشخصية للناخبين إذا لم تُؤمّن الأنظمة بشكل جيد. لذلك، تبقى الثقة في هذه الأنظمة موضع تساؤل لدى كثير من الناس.
ماذا يحدث في الولايات المتحدة الأميركية؟
شهد التصويت الإلكتروني في الولايات المتحدة تطورًا كبيرًا ليشمل مجموعة متنوعة من الأنظمة التي تهدف إلى تحسين سرعة العملية الانتخابية ودقتها وسهولتها. تشمل هذه الأنظمة شاشات لمس لاختيار الناخبين لمرشحيهم، وماسحات ضوئية لقراءة بطاقات الاقتراع الورقية، وأجهزة للتحقق من التواقيع على مظاريف بطاقات الاقتراع الغيابية، بالإضافة إلى خوادم “ويب” تعرض نتائج التصويت للعامة.
أعارض بشدة استخدام أي أنظمة إلكترونية بالكامل أو معتمدة على الإنترنت للتصويت السري وتسجيل الأصوات
ريبيكا ميركوري- الخبيرة الدولية في مجال أمن الانتخابات
كما تُستخدم الأنظمة الحاسوبية لإدارة سجلات الناخبين وعرض القوائم الانتخابية لموظفي مراكز الاقتراع. ومع وجود ملايين الأصوات التي يتم الإدلاء بها في كل انتخابات، فإن هذه الأنظمة تلعب دورًا مهمًا في تسريع العملية وتقليل تكلفتها مقارنةً بالفرز اليدوي.
وطورت لجنة مساعدة الانتخابات، وهي هيئة مستقلة في حكومة الولايات المتحدة، الإرشادات التطوعية لأنظمة التصويت في عام 2005 التي تهدف إلى معالجة بعض احتياجات الأمن وسهولة الوصول في الانتخابات. تعتمد اللجنة أيضًا مختبرات لاختبار المعدات الانتخابية التي يطورها المصنعون، ومن ثم تُصدر الشهادات التي تؤكد امتثال هذه المعدات للإرشادات.
تختلف المتطلبات الخاصة باعتماد أنظمة التصويت بين الولايات. فعلى سبيل المثل؛ تطلب 17 ولاية أخرى إجراء اختبارات من مختبرات معتمدة فقط دون الحاجة لشهادة من لجنة مساعدة الانتخابات، وتكتفي تسع ولايات ومقاطعة كولومبيا بالاختبار وفقًا للمعايير الفيديرالية من أي مختبر. بعض الولايات تعتمد معايير فيديرالية لكنها تتخذ قراراتها الخاصة، فيما لا تلتزم ثماني ولايات بالمعايير الفيديرالية على الإطلاق.
نظام الفرز بالمسح الضوئي
في نظام التصويت بالمسح الضوئي، يتم تعليم خيارات الناخب على ورقة أو أكثر، ويتم إدخالها لاحقًا في جهاز ماسح ضوئي. يقوم الماسح بإنشاء صورة إلكترونية لكل بطاقة اقتراع، ويفرز الأصوات ويخزن الصورة للمراجعة لاحقًا.
يمكن للناخب أن يضع علامته على الورقة بشكل مباشر ثم يودعها صندوق الاقتراع، أو قد يختار من خلال شاشة إلكترونية تطبع الأسماء المختارة على الورقة مع رمز شريطي (QR) يلخص جميع الخيارات. هذا النوع من الأجهزة يُسمى جهاز تعليم بطاقة الاقتراع ويستخدم لتسهيل التصويت للأشخاص ذوي الإعاقة من خلال أدوات مثل السماعات أو الأزرار الكبيرة أو تقنيات أخرى.
من الممكن أن تحدث أخطاء في الأجهزة التي تعرض الاقتراع على الشاشة للناخبين، حيث تطبع هذه الأجهزة الاختيارات على ورقة لتُوضع في صندوق الاقتراع. على سبيل المثل، في انتخابات عام 2023 في مقاطعة نورثهامبتون بولاية بنسلفانيا، أدت برمجة خاطئة إلى تبديل أسماء القضاة بين اثنين من المرشحين، مما تسبب بارتباك في الأصوات المخصصة لكل مرشح. وفي عام 2022، تم تقديم قوائم اقتراع خاطئة لعدد من الناخبين بسبب تغييرات حديثة في حدود الدوائر الانتخابية.
هناك ثلاث مسائل رئيسة لضمان التصويت الآمن، والتشفير يعد الوسيلة الأكثر فعالية لمعالجتها، وهي: تسجيل الأصوات كما تم الإدلاء بها، حساب الأصوات كما تم الإدلاء بها، ومنع شراء الأصوات
ديفيد شوم- عالم تشفير
الأخطاء ليست مقتصرة على أجهزة تعليم بطاقات الاقتراع فحسب، بل تحدث أيضًا في أنظمة المسح الضوئي. يمكن أن تؤدي العيوب الميكانيكية أو التلوث إلى تشويه الصور التي تقرأها أجهزة المسح، مما قد يؤدي إلى حساب غير دقيق للأصوات. في بعض الأحيان، يتم تنظيف الأجهزة باستخدام الهواء المضغوط بعد مرور عدد محدد من بطاقات الاقتراع لتقليل هذه الأخطاء.
تجارب دولية
في البرازيل، يعتمد نظام التصويت الإلكتروني بشكل رئيس على أجهزة التصويت الإلكترونية المتاحة في مراكز الاقتراع، وهو نظام تم تبنيه منذ التسعينات وأثبت كفاءته في تسريع عملية التصويت وتقليل الأخطاء. ومع ذلك، لا يشمل هذا النظام التصويت عبر الإنترنت، ورغم فعاليته، لا يزال يواجه تحديات أمنية محتملة تتعلق بحماية البيانات وضمان نزاهة العملية الانتخابية.
أما في إستونيا فقد تم اعتماد التصويت الإلكتروني عبر الإنترنت منذ عام 2005 وتعتبر من الدول الرائدة في هذا المجال، حيث يتميز نظامها بمستوى عالٍ من الأمان بفضل الاعتماد على بطاقات الهوية الإلكترونية وتقنيات التشفير الحديثة لضمان نزاهة العملية الانتخابية وسريتها.
تختلف المتطلبات الخاصة باعتماد أنظمة التصويت بين الولايات في أميركا.
في المقابل، وبالرغم اعتماد بعض الولايات في أميركا على أنظمة بها أنواع عديدة من التصويت الإلكتروني مثل الشاشات التي تعمل باللمس لتحديد اختيارات الناخبين، والماسحات الضوئية التي تقرأ بطاقات الاقتراع الورقية، والماسحات الضوئية التي تتحقق من التوقيعات على مظاريف بطاقات الاقتراع الغيابي، وخوادم الويب التي تعرض النتائج للجمهور.
إلا أنه تظل المخاوف الأمنية قائمة، خصوصًا بعد انتخابات 2016 و2020، والتي كانت يدور حولها بعض المخاوف الأمنية والتي تم تضخيمها إما لخطورتها في بعض الأحيان فعلياً وإما بسبب الانقسام السياسي الحالي الذي يدفع المرشحين أحياناً للتشكيك في نتائج الانتخابات.
وفي تقرير صادر في يناير 2017 عن مجتمع الاستخبارات الأمريكية، تم تقييم بعض الأنشطة والتدخلات الروسية في الانتخابات الأمريكية حيث خلص التقرير إلى أن الرئيس الروسي بوتين أمر بحملة تأثير واسعة النطاق بهدف الإضرار بفرص هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وتعزيز فرص دونالد ترمب، وتضمنت هذه الحملة عمليات سيبرانية ضد أهداف مرتبطة بالحزبين الرئيسيين، وتسريب بيانات عبر كيانات مثل ويكيليكس، ودعاية من وسائل الإعلام الحكومية الروسية.
طرق التشفير غير مناسبة لمعظم أنظمة التصويت لأنها صعبة الفهم بالنسبة الى الناخب أو المرشح العادي، وتضيف تعقيدًا إلى التصميم العام، وقد يكون تدقيقها صعبًا، كما أنها تعاني من أخطار البرمجيات الخبيثة
رونالد لين ريفيست- خبير تشفير وأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا
وفي تقرير صادر في مارس/آذار 2021 أيضاً عن مجتمع الاستخبارات الأميركية تم تقييم التهديدات الأجنبية التي استهدفت الانتخابات الفيديرالية الأميركية لعام 2020 حيث خلص التقرير إلى أن روسيا وإيران نفذتا عمليات تأثير، في حين أن الصين لم تتدخل في العملية الانتخابية، حيث أشار التقرير إلى أن روسيا سعت إلى تشويه سمعة بايدن ودعم ترمب، بينما حاولت إيران تقويض فرص إعادة انتخاب ترمب، ولكن في النهاية أكد التقرير أنه لم تكن هناك محاولات ناجحة من أي جهة أجنبية للتلاعب بالعملية الفنية للتصويت.
أيضاً تعرضت آلات التصويت لمحاولات اختراق مما دفع ولايات مثل فلوريدا وبنسلفانيا إلى اتخاذ تدابير تضمن توليد الأنظمة الجديدة سجلات ورقية لتعزيز الأمان واستعادة الثقة في العملية الانتخابية.
وتؤكد ريبيكا ميركوري، الخبيرة الدولية في مجال أمن الانتخابات الإلكترونية التي قدمت شهادتها في قضية “بوش ضد آل غور” بعد انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2000 وساهمت في صياغة معايير وإجراءات أمنية تهدف إلى تعزيز نزاهة الانتخابات، أنها تعارض بشدة استخدام أي أنظمة إلكترونية بالكامل أو معتمدة على الإنترنت للتصويت السري وتسجيل الأصوات، موضحة في تصريح خاص لـ”المجلة” “موقفي الراسخ منذ فترة طويلة هو أن الأخطار المرتبطة بالتصويت الإلكتروني لا يمكن تقليلها إلا بعدم استخدام أنظمة التصويت الإلكتروني مطلقًا، لأن جميع هذه الأجهزة غير آمنة بطبيعتها”.
تحسين الأمان في التصويت الإلكتروني
في سبيل مواجهة التحديات الأمنية، يجري العمل على تطوير حلول تكنولوجية متقدمة، من بينها تقنية البلوكشين، وهي بحسب الخبراء المؤيدين لها تتيح تسجيل الأصوات بشكل مشفر وغير قابل للتلاعب، مما يعزز الشفافية ويقلل أخطار الاختراقات.
وفي المقابل، هناك من يعتقد أن استخدام البلوكشين في التصويت مجرد مسألة تسويق، لكنه لا يحل المشكلات الأساسية، حيث يؤكد بن آديدا، المؤسس والمدير التنفيذي لــ”فوتينج وركس”، وهي المنظمة غير الربحية الوحيدة التي تصنع معدات التصويت في الولايات المتحدة، والحاصل على درجة الدكتوراه من مجموعة التشفير وأمن المعلومات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في تصريحات خاصة لـ”المجلة” بأنه متمسك بكل كلمة كتبها منذ سنوات عدة في شأن ذلك، لافتا إلى مقال كتبه في عام 2017 أكد فيه أن “استخدام البلوكشين للتصويت يحل جزءًا صغيرًا من المشكلة باستخدام أداة كبيرة بشكل غير ضروري، وأنه لا يحل مشاكل التصويت الرئيسة مثل سرية التصويت أو التحقق من أهلية الناخبين، وفي أحسن الأحوال يمكن للبلوكشين أن تكون سجلاً لبيانات التصويت، وهي مهمة يمكن إنجازها بتقنيات أقدم وأبسط مثل أشجار ميركل وسلاسل التجزئة التي تم ابتكارها منذ عقود.”.
من جانب آخر، ومن أجل تحسين الأمان في التصويت، يمكن إجراء مراجعات أمنية دورية لاكتشاف أي ثغر قد تؤثر على أمان التصويت، كما يمكن الاعتماد على نظام التصويت الهجين الذي يجمع بين الإلكتروني والورقي حيث أنه يمثل خياراً قد يضمن نزاهة النتائج في حالة حدوث أي خلل في الأنظمة الإلكترونية.
في هذا السياق، يؤكد ديفيد شوم، عالِم التشفير وأحد أبرز المساهمين في تطوير أنظمة التصويت الإلكتروني الآمنة في تصريحات خاصة لـ”المجلة” أن “هناك ثلاث مسائل رئيسة لضمان التصويت الآمن، والتشفير يعد الوسيلة الأكثر فعالية لمعالجتها، وهي: تسجيل الأصوات كما تم الإدلاء بها، حساب الأصوات كما تم الإدلاء بها، ومنع شراء الأصوات.
وعلى الرغم من أن هذه المسائل يمكن حلها من خلال مراكز الاقتراع الشخصية الدقيقة والعد اليدوي بواسطة عدد كبير من العاملين، إلا أن العلامات الفريدة التي يضعها الناخبون على بطاقات الاقتراع تجعل من الصعب حل مشكلة شراء الأصوات بهذه الطريقة؛ على حد ما يقول شوم.
ناخب يقترع في اليوم الأول من التصويت المبكر الشخصي في ولاية فرجينيا.
عن انتخابات مدينة تاكوما بارك بولاية ماريلاند عامي 2009 و2011 يقول شوم إن الولاية تمكنت من حل أول مشكلتين بشكل أفضل من أي وقت مضى بواسطة نظام يسمى “سكان تيجرتي”، وكان ذلك أقل تكلفة من الطرق التقليدية، حيث يعتمد ذلك النظام على بطاقات اقتراع ورقية تستخدم حبرًا خفيًا لعرض رموز تأكيد سرية، مما يسمح للناخبين بالتحقق من أن أصواتهم قد تم تسجيلها بشكل صحيح مع الحفاظ على سرية التصويت. أما المسألة الثالثة فقد تم حلها من خلال نظام أخر يسمى “فوتكس” يقدم حلا لمشكلة شراء الأصوات من خلال استخدام تقنيات تشفير متقدمة تتيح للناخبين تغيير أصواتهم بعد الإدلاء بها، مما يمنع المشترين من التحقق من التصويت الفعلي.
على الجانب الآخر، يقول رونالد لين ريفيست، عالِم التشفير، والأستاذ بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في تصريح خاص لـ”المجلة” إن “طرق التشفير غير مناسبة لمعظم أنظمة التصويت لأنها صعبة الفهم بالنسبة للناخب أو المرشح العادي، وتضيف تعقيدًا إلى التصميم العام، وقد يكون تدقيقها صعبًا، كما أنها تعاني من أخطار البرمجيات الخبيثة.”.
يبقى مستقبل التصويت الإلكتروني جزءًا مهمًا من النقاش حول مستقبل الانتخابات، ومع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا في حياتنا اليومية، يبدو من المرجح أن يستمر استخدام التصويت الإلكتروني في النمو. ولضمان نجاحه، يجب معالجة التحديات الأمنية والخصوصية بحكمة، مع التركيز على بناء ثقة الجمهور في النظام، حيث أنه إذا تم تجاوز هذه التحديات، يمكن أن يصبح التصويت الإلكتروني النظام الأساس الذي يساهم في انتخابات أكثر كفاءة ومشاركة أوسع مع الحفاظ على نزاهة العملية الديمقراطية.