شولتز يخيّر الأسد بين “اتفاق 17 مايو” و”احتلال إسرائيلي دائم”… ودمشق تلوّح بقصف مطار بيروت (5 من 8)

بعدما نشرنا في “المجلة”، في الحلقات السابقة تفاصيل علاقة الأسد بالخميني وتأسيس “حزب الله” وتمسك “الشيخ بشير” بخروج “أبو عمار” واستسلامه، وشروط واشنطن في لبنان بالتزامن مع المفاوضات حول اتفاق “17 مايو”، نتناول الحلقة الخامسة زيارة مبعوث ريغان السري إلى دمشق وقلق واشنطن من صواريخ “سام-5”:

1- الحلقة الأولى: “أبو نضال” يوفر “ذريعة” الاجتياح… وإيران تؤسس “حزب الله” بمظلة سورية

2- الحلقة الثانية: رسالة من بيغن إلى الأسد: لا نريد قتالكم في لبنان… ويجب إبعاد الفلسطينيين

3- الحلقة الثالثة: إسرائيل تحاصر بيروت… وعرفات “جن جنونه” قبل أن يستسلم

4- الحلقة الرابعة: أميركا تطلق “الخفاش الأزرق” في لبنان… وتطالب الأسد بطرد “مجانين إيران”

في 12 ديسمبر/كانون الأول 1982 عبّرت الولايات المتحدة عن خشيتها من الانتشار الوشيك لصواريخ “سام-5” في الدفاعات الجوية السورية، مكررة على الملأ طلبها بالانسحاب السوري من لبنان. أجابت سوريا عبر وزارة الخارجية: “تشيرون إلى القلق من تملك سوريا لوسائل الدفاع عن النفس وكنا نتمنى لو أن الحكومة الأميركية عبّرت عن هذا القلق عندما امتلكت إسرائيل هذه القوة الضخمة. ولو أن الولايات المتحدة الأميركية بالأساس امتنعت عن تزويد إسرائيل بتلك الأسلحة لما خلقت الظروف التي اضطرت سوريا للبحث عن وسائل الدفاع عن النفس”.

وخلال الأشهر المقبلة، تطورت اللقاءات الإسرائيلية-اللبنانية برعاية أميركية، ولم تتمكن سوريا من إقناع أمين الجميل بالانسحاب من المفاوضات، ولا تحسين شروطها. وفي 7 مايو 1983، أي قبل عشرة أيام من التوقيع على الاتفاقية، وصل دمشق ؤ شولتز، حاملا الرسالة التالية:

١- المفاوضات الجارية من أجل الوصول إلى اتفاق بين لبنان وإسرائيل، هي الخطوة الأساسية الأولى نحو انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، وقد أوصلها السفير حبيب إلى نقطة حيث لم يبق هناك سوى القليل من المواضيع المحددة.

٢- الرئيس ريغان مصمم على أن تحل هذه المسائل في أسرع وقت ممكن لكي يتحقق انسحاب مبكر للقوات الإسرائيلية والسورية من لبنان.

 

لبنان يقوم ببناء قوته من أجل أن يستطيع التحكم في كامل أراضيه. إننا نساعد لبنان ونقوم بتدريب قواته العسكرية ونجهزه، وكل ما سمعته يوحي بأن اللبنانيين أحرزوا نجاحا لا بأس به في هذا المضمار

 

وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز

وبعد إبداء تحفظاته على مبدأ السلام مع إسرائيل، طلب خدام قراءة الاتفاقية الإسرائيلية-اللبنانية، فأجابه شولتز بأنها ستصله من الجانب اللبناني. رد خدام: “تطلبون رأينا في شيء مجهول. حبيب يحب الغموض ليفسر الإسرائيليون كما يريدون. جرت اجتماعات بينكم وبين إسرائيل، وعلمت أن الإسرائيليين طلبوا إيضاحات. مثلاً ما هي هذه الإيضاحات وهل للاتفاقية وقت محدد؟”.  أجابه شولتز بأن في الاتفاقية بندا يقول إنه يمكن تعديل الاتفاقية أو إلغاؤها بالاتفاق المشترك. ودار هذا الحوار:

خدام: إذن الاتفاقية دائمة؟

شولتز: نعم، ولكن يمكن تغييرها إذا أراد الطرفان.

خدام: هل تؤدي هذه الاتفاقية إلى إنهاء حالة الحرب بين إسرائيل ولبنان؟

شولتز: نعم… وهناك فقرة تنص على أنه خلال فترة أقصاها ستة أشهر تكون هناك مفاوضات تحت إشراف لجنة الارتباط المشتركة، تجعل هذه الاتفاقية دائمة.

خدام: هل سيكون هناك تبادل البضائع والأشخاص بموجب الاتفاقية؟

شولتز: خلال هذه الفترة ستكون هناك ترتيبات لهذا الغرض. هناك ملحق للاتفاق، يحدد ما هي الأسلحة التقليدية (التي سيسمح لها في جنوب لبنان).

 

غيتي غيتي

وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز ووزير خارجية سوريا عبد الحليم خدام في دمشق العام 1983 (خدام أصبح نائبا للرئيس في 1984) 

خدام: ما هو مصير سعد حداد وجماعته (قائد فصيل لبناني متحالف مع إسرائيل)؟

شولتز: لن يكون قائدا للواء أو للمنطقة.

خدام: ماذا سيكون؟

شولتز: هذا الشيء يفكر به اللبنانيون.

فاروق الشرع (وزير خارجية سوريا): هل يستطيع أي لبناني التنقل بحرية إلى أقصى نقطة في الجنوب بهذا الاتفاق؟

شولتز: المواطنون اللبنانيون لا قيود عليهم، ما عدا الإجراءات الأمنية في مناطق معينة.

الشرع: أين تمتد المنطقة الأمنية؟

فيليب حبيب: من الحدود الدولية إلى نهر الأولي، حسب مجراه، وبعدها تضاريس أرضية إلى جنوب قمة الباروك، ومنحدرات الباروك وبما فيها ممر آني، نزولا إلى البقاع.

خدام: إلى أين في البقاع؟

شولتز: إلى نهاية الأراضي اللبنانية… حتى الحدود السورية.

خدام: لكن الحدود السورية ـ اللبنانية ليست محددة بعد…

حبيب: يمكن أن تحلوها بسرعة مع اللبنانيين.

خدام: ماذا ورد في الاتفاقية عن سوريا؟

شولتز: ولا كلمة… اللبنانيون لا يريدون التفاوض بالنيابة عن سوريا.

خدام: سؤال آخر… وأنا آسف لكثرة الأسئلة… لنفترض أن اللبنانيين لم يقبلوا الموافقة على الاتفاق، فماذا سيكون مصيره؟

شولتز: إني أعتقد أنه سيكون… وهذا مجرد تخمين مني… إسرائيل ستعيد انتشار قواتها في لبنان، وتحاول أن تبقي احتلالها للبنان احتلالا دائما.

الشرع: من الواضح أن هناك ترتيبات أمنية لصالح إسرائيل في الجنوب، ما هي في المقابل الترتيبات الأمنية لصالح لبنان؟

شولتز: لبنان يقوم ببناء قوته من أجل أن يستطيع التحكم في كامل أراضيه. إننا نساعد لبنان ونقوم بتدريب قواته العسكرية ونجهزه، وكل ما سمعته يوحي بأن اللبنانيين أحرزوا نجاحا لا بأس به في هذا المضمار، لذلك فإن الفرصة لكي يستعيد لبنان سيادته كاملة تلقى تأييدا بين الناس. وكجزء من التعهدات العامة الواردة في الاتفاقية، يتعهد كل طرف من الطرفين بأنه لن يقوم بأعمال عدائية ضد الطرف الآخر، وبالتالي هناك تأكيدات مثلا لبنانية تجاه ما يمكن أن تقوم به ضد إسرائيل وبالعكس. إذن هناك نوع من التعهدات الواسعة المتبادلة الواردة في هذه الاتفاقية.

خدام: هناك علاقة خاصة بين لبنان وسوريا إلى بضعة عقود. لبنان وسوريا كانا دولة واحدة، وإذا رجعنا إلى سجل السيد فيليب حبيب لوجدنا في إدارة الهجرة الأميركية اسم السيد والد فيليب حبيب، على أنه قادم من سوريا.

 

حرمت “اتفاقية 17 مايو”، لبنان من امتلاك منظومة دفاع جوي لمدة ثلاث سنوات، واعتبر خدام ذلك “معاهدة إذعان واستسلام”

 

 

حبيب: والدي لا يوافق… إنه يقول من تركيا.

خدام: الحكومة اللبنانية لم تكن حرة في التفاوض… هذا ما قاله لنا وزير الخارجية اللبنانية. تحدث مطولا عن الضغوط الإسرائيلية، والصلف الإسرائيلي والتهديدات الإسرائيلية. في إحدى المرات كما قال لنا: طلب تامير عضو الوفد الإسرائيلي موضوعا معينا ورفضه الجانب اللبناني، قال تامير للبنانيين إذا لم تقبلوا في هذا الليل، يمكن أن يقتل 300 درزي، وغدا يقتل 10 آلاف مسيحي. هذا الكلام قاله وزير خارجية لبنان والعميد عباس حمدان عضو الوفد المفاوض. هذا الكلام لم نخترعه نحن… سمعناه من الدكتور إيلي سالم وبإمكانكم سؤاله. حتى الرئيس أمين الجميل هُدد. شارون زار الشيخ بيير الجميل، والد رئيس الجمهورية، وماذا قال له؟ قال له: كان لك ولدان، وأصبح لك ولد واحد… إما أن تقبلوا وإما أن ابنك لن يبقى رئيسا للجمهورية. هذا الكلام أيضا نقل إلينا من أعضاء المكتب السياسي لحزب “الكتائب”. الرئيس أمين الجميل… ماذا كان يستطيع أن يفعل، وهل كان يجرؤ أن يفعل شيئا؟ أبدا. هل يعتبر سعد حداد مكسبا للبنانيين؟

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الجيش الإسرائيلي في بيروت خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982 

شولتز: كان أحد مطالب الإسرائيليين أن يكون سعد حداد إما قائدا لجنوب لبنان أو المنطقة الأمنية وإما قائد اللواء.

خدام: نحن موافقون أن يحدث انسحاب ثلاثي سوري- فلسطيني- إسرائيلي من لبنان دون قيد أو شرط، وأن تطرح هذه الاتفاقية على استفتاء شعبي في لبنان. عندئذٍ نحن نوافق على ما يقره الشعب اللبناني، أما الآن فالوضع في لبنان مختلف الآن هناك إرهاب يمارس من قبل “قوات الكتائب”. كل يوم تقع عمليات قتل وتدمير…

تحدث خدام عما قاله شولتز حول ضرورة أن تقوم القيادة السورية بإبلاغ القيادة العسكرية الأميركية في حال رغبتها في تحليق طائراتها في الأجواء اللبنانية أو السورية المحاذية للمنطقة الحدودية. قال الوزير السوري: “بالقانون الدولي، أنا في بلدي وفوق أرضي لا أستطيع أن أطير إلا بعد إعلام دولة أخرى؟”. رد فيليب بأن هذا الإجراء لا يتعدى كونه إجراء عمليا تجنبا للحوادث، لا أكثر. أنهى خدام النقاش بالقول: “نحن قلنا إنه عندما تنسحب إسرائيل سننسحب من لبنان، ولكن في رأينا، إسرائيل بموجب هذا الاتفاق لن تنسحب”.

بعد الإعلان رسميا عن “اتفاقية 17 مايو”، عاد شولتز إلى دمشق في 6 يوليو/تموز 1983 والتقى مجدداً بخدام. صب الأخير غضبه على الاتفاقية، قائلاً إنها مرفوضة من قبل شريحة واسعة من المسيحيين اللبنانيين مثل عميد “الكتلة الوطنية” ريمون إده، والرئيس الأسبق سليمان فرنجية، إضافة طبعا للرفض القاطع من وليد جنبلاط ونبيه بري. “إذا وضعنا الميليشيات الكتائبية جانبا، لوجدنا أن هذين الزعيمين (جنبلاط وبري) أكبر وأقوى (من الكتائب). جميع الأحزاب في لبنان ماعدا الكتائب ضد الاتفاقية، وعلى الولايات المتحدة إذا أرادت أن تحمي الاتفاقية، عليها أن ترسل 200 ألف من المارينز بدلا من 200. الشعب بأكمله ضد الاتفاقية”.

زيارات أميركية سرية إلى سوريا

حرمت “اتفاقية 17 مايو”، لبنان من امتلاك منظومة دفاع جوي لمدة ثلاث سنوات، واعتبر خدام ذلك “معاهدة إذعان واستسلام”. اجتمع شولتز بالأسد الذي أكد على موقف وزيره: “نؤكد رفض سوريا للاتفاق ولأي بحث أو مناقشة تنطلق من هذه الاتفاقية، أو من اعتبارها اتفاقية شرعية”.

 

كثيرا ما كان الأميركيون يعدون بمؤتمر سلام شامل للمنطقة، وقد رتّبوا واحدا بالفعل غابت عنه سوريا في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون

 

 

وبناءً على وساطة من قائد عربي مع الرئيس الأسد، قام روبرت ماكفرلين نائب رئيس مكتب الأمن القومي في الولايات المتحدة الأميركية بزيارة سرية إلى دمشق في 17 يوليو 1983. اجتمع مع الأسد، داعياً الرئيس السوري إلى تجاوز الاتفاقية لأجل إقامة “علاقات وطيدة” مع أميركا، على الصعيدين السياسي والاقتصادي. وقال إن الرئيس ريغان يعتقد أنه قبل أن يحقق مثل هذا التحسن في العلاقات، عليه معالجة الصراع العربي-الإسرائيلي من جذوره، داعياً إلى التعاون في هذا الشأن.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد 

كثيرا ما كان الأميركيون يعدون بمؤتمر سلام شامل للمنطقة، وقد رتّبوا واحدا بالفعل غابت عنه سوريا في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. لم يبدِ الأسد أي اهتمام إلى الطرح الأميركي المستجد وعدّه بمثابة رشوة سياسية لضمان سكوت سوريا عن “اتفاقية 17 مايو”، تمهيدا لانسحابها الكامل من لبنان.

وفي 6 أغسطس/آب 1983، وصل ماكفرلين إلى دمشق في زيارة علنية هذه المرة، بعد أن تم تعيينه مبعوثا خاصا للرئيس ريغان في الشرق الأوسط وفي لبنان بصورة خاصة. سأله خدام: “ماذا سيكون موقف الولايات المتحدة وإسرائيل في حال إعلان الحكومة اللبنانية إسقاط هذه الاتفاقية؟”. ودار هذا الحوار:

ماكفرلين: لا أتوقع أن الحكومة اللبنانية سـتفعل ذلك.

خدام: نحن نقبل بما يقرره الشعب اللبناني، وعندئذٍ سترى أن الرئيس اللبناني لن يتمكن من أن يحوز 5 في المئة من أصوات الشعب اللبناني، وسترى أيضا أن هذه المعاهدة لن تحوز 5 في المئة من أصوات الشعب اللبناني.

وفي اليوم التالي استقبل الرئيس السوري ماكفرلين، وقال له إن القوات السورية موجودة في العمق اللبناني، على مسافة تقل عن 45 كلم عن الحدود، وأنها على استعداد للتقدم في حال فرض اتفاقية سلام مع إسرائيل. وأجاب المبعوث الأميركي: “أمس الإسرائيليون كرروا استعدادهم للخروج من لبنان خلال ثمانية إلى اثني عشر أسبوعا شريطة أن تغادر كل القوات الأجنبية لبنان”. قال له خدام: “نحن موافقون، شريطة إلغاء الاتفاقية”.

فُسّر الموقف السوري بالتهديد المزدوج للأميركيين والإسرائيليين معا، وفي 23 أغسطس احتج السفير الأميركي روبرت باغانيللي بدمشق على ما نُقل عن وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس، بأنه سيقصف بيروت والمطار في حال استمرار الاتفاقية. نفى خدام صدور هذا الكلام عن وزير الدفاع السوري، وفي 28 من الشهر نفسه، استقبل المبعوث الأميركي فيربانكس الذي جاء معاتبا لتعرض القوات الأميركية في لبنان لإطلاق نار كثيف من قبل ميليشيات محسوبة على الجيش السوري في الجنوب، وإصابة المنطقة القريبة من منزل السفير الأميركي بصليات مدفعية.وقال: “نود أن تعلم سوريا أن الولايات المتحدة تنوي الدفاع عن عناصرها ضد الهجمات من أي جهة كانت وأنها بالتأكيد لن تقف متفرجة أو مكتوفة الأيدي عندما تتعرض عناصرنا أو مرافقنا لإطلاق النار”.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M