كانت الجولة الإقليمية لعباس عراقجي التي شملت ثماني دول تهدف رسميا إلى تخفيف التوترات والبحث عن حلول للصراعات في غزة ولبنان. بيد أن اختيار وزير الخارجية الإيراني للدول التي زارها يكشف الكثير عن الطموحات والمخاوف الإيرانية، ولا سيما في ظل ظهور نظام إقليمي جديد. وتنقسم هذه الدول إلى ثلاث فئات مميزة: مناطق نفوذ، وداعمين محتملين، ووسطاء محتملين.
ففي مناطق النفوذ، أي العواصم العربية الخاضعة لنفوذ إيران، حيث تستخدم طهران ميليشياتها والجهات الفاعلة غير الحكومية لبسط سيطرتها وإبراز قوتها، بهدف تحقيق مصالحها الوطنية في مواجهتها مع الغرب، جاءت جولة وزير الخارجية الإيراني لإيصال رسالة دعم وتضامن، بل وتمثيل دور “الحامي” لتلك العواصم. وفي لقاءاته مع المسؤولين الحكوميين في بيروت ودمشق وبغداد، سعى عراقجي إلى إظهار أن بلاده تبذل جهودا حثيثة لإنهاء الصراعات في لبنان وغزة.
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجيومع ذلك، فقد كان الهدف الفعلي لزيارة وزير الخارجية الإيراني تلك العواصم طمأنة القوات الحليفة والميليشيات والجهات غير الحكومية بأن إيران حاضرة وستواصل دعمهم بقوة، وأنها لن تتخلى عنهم أو تتركهم يخوضون معاركهم وحدهم.
أما زعماء ميليشيا الحوثي، الذراع الإيرانية في اليمن، فقد التقى بهم عراقجي خلال زيارته العاصمة العمانية مسقط بسبب عدم قدرته على زيارة اليمن، وهي إحدى مناطق النفوذ الإيراني الأخرى.
وتأتي تطمينات وزير الخارجية الإيراني للجماعات الموالية لطهران في وقت تواجه فيه المنطقة تغيرات جيوسياسية كبيرة قد تفضي إلى نهاية تلك الجماعات. ولعل اغتيال الزعيم السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، في قلب العاصمة الإيرانية في الحادي والثلاثين من يوليو/تموز الماضي، كان إشارة واضحة على بداية انهيار هذه القوى. ولكن الإشارة الكبرى كانت اغتيال زعيم “حزب الله” المدعوم من إيران، حسن نصرالله، في بيروت، ثم في السابع عشر من أكتوبر/تشرين الأول، عندما أعلنت إسرائيل عن الوفاة العرضية للزعيم السياسي الجديد لـ”حماس”، يحيى السنوار، والذي كان يشغل أيضا منصب القائد الميداني الرئيس للحركة في غزة.
مع كل ضربة تصيب أو تدمر أحدد رؤوس الهيدرا الإيرانية، تضعف إيران تدريجيا وتفقد جزءا من قوتها ونفوذها في المنطقة
وكانت ميليشيا الحوثي قد تعرضت في 17 أكتوبر/تشرين الأول لهجمات جوية مكثفة نفذها سلاح الجو الأميركي باستخدام قاذفات “الشبح بي-2” سبيريت، حيث استهدفت خمسة مواقع لتخزين الأسلحة في مناطق متفرقة من اليمن.
ومع كل ضربة تصيب أو تدمر أحدد رؤوس الهيدرا الإيرانية، تضعف إيران تدريجيا وتفقد جزءا من قوتها ونفوذها في المنطقة. ولعل ملالي إيران أن يدركوا قريبا أنهم باتوا وحيدين في الميدان، أو تدفعهم التطورات السريعة إلى هذا الإدراك بالفعل. فإيران، كما أشار أحد المحللين في القاهرة، تعلم يقينا أن انهيار ما يُعرف بـ”محور المقاومة”، أو بمعنى أدق شبكة الجماعات التابعة لها في المنطقة، أو حتى إضعافه، يقلل من نفوذها ويتركها معزولة لمواجهة الصراع الذي يتشكل في المنطقة. مع تصميم إسرائيل على ضرب الجمهورية الإسلامية، وجر الولايات المتحدة مرة أخرى إلى صراعات عسكرية في الشرق الأوسط، ستجد إيران نفسها مضطرة لخوض المعركة وحدها.
عدو عدوي
يبدو أن هذا الإدراك ذاته هو ما حفّز عراقجي للقيام بزيارات إلى مجموعة أخرى من الدول التي قد تكون داعمة، وهي الدول التي تشهد علاقاتها مع إسرائيل في الوقت الحالي توترا، سواء بسبب النزاعات العالقة أو نتيجة الحملات الوحشية التي تشنها إسرائيل في غزة ولبنان.
وفي تلك الدول، التي تشمل مصر وتركيا، ربما حاول وزير الخارجية الإيراني الاستفادة من هذه التوترات عبر السعي للحصول على دعم للموقف الإيراني أو التحركات القادمة، في وقت تستعد فيه إسرائيل للرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية التي استهدفت مناطق مختلفة من الدولة اليهودية المعلنة ذاتيا في أوائل أكتوبر/تشرين الأول.
التوترات الحالية بين القاهرة وتل أبيب، لا تصل إلى حد تقويض السلام القائم بين العاصمتين، ولا تؤثر على التنسيق الأمني الوثيق بينهما، سواء في جوارهما المباشر أو في المنطقة بشكل عام
وكان أحد أسباب زيارة عراقجي لتركيا حضور اجتماع منصة التعاون الإقليمي 3+3 لجنوب القوقاز الذي انعقد في إسطنبول. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد وجّه انتقادات متواصلة للهجمات الإسرائيلية في لبنان وغزة خلال الأسابيع والأشهر التي أعقبت انطلاق الحملة الإسرائيلية على غزة، ودعا أيضا إلى استخدام القوة لوقف تلك الهجمات.
وزير الخارجية التركي هاكان فيدان يصافح نظيره الإيراني عباس عراقجي خلال مؤتمر صحفي مشترك في إسطنبول، تركيا، 19 أكتوبر 2024وفي الوقت ذاته، تشهد العلاقات بين مصر وإسرائيل خلافا بسبب احتلال الأخيرة لممر فيلادلفي، وهو شريط أرضي على الحدود بين غزة وسيناء، يشمل أراضي مصرية في أقصى شمال شرقي البلاد، فضلا عن الجانب الفلسطيني من معبر رفح بين غزة وسيناء. كما تخشى مصر أيضا من أن يؤدي التدمير الشامل لقطاع غزة وتجويع سكانه، والضربات الإسرائيلية المتواصلة على القطاع، إلى دفع السكان إلى النزوح من الأراضي الفلسطينية الساحلية نحو سيناء، وهو ما تعتبره القاهرة “خطا أحمر”، كما أكد الرئيس المصري في عدة مناسبات خلال العام الماضي.
إلا أن التوترات الحالية بين القاهرة وتل أبيب، لا تصل إلى حد تقويض السلام القائم بين العاصمتين، ولا تؤثر على التنسيق الأمني الوثيق بينهما، سواء في جوارهما المباشر أو في المنطقة بشكل عام. حيث تعمل مصر، بالتعاون مع الولايات المتحدة وقطر، على التوسط لوقف إطلاق النار وإتمام صفقة لتبادل الأسرى بين “حماس” وإسرائيل، وهي جهود قد تكتسب زخما إضافيا في الفترة المقبلة، خاصة بعد وفاة يحيى السنوار.
وعندما حطت طائرة وزير الخارجية الإيراني عراقجي في مطار القاهرة الدولي في وقت متأخر من يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول، لم يجد نظيره المصري في استقباله. وفي اليوم التالي، نقل عبد العاطي بوجه متجهم رسالة خطيرة إلى وزير الخارجية الإيراني، مؤكدا على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لمنع انجرار المنطقة إلى “مواجهة كارثية”.
خلال زياراته إلى المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والأردن وقطر، سعى وزير الخارجية الإيراني إلى التأكد من عدم استخدام المجال الجوي لهذه الدول من قبل إسرائيل في حال شنت هجوما على أهداف إيرانية
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد قال لكبير الدبلوماسيين الإيرانيين إن اندلاع حرب إقليمية شاملة ستكون له تداعيات خطيرة على جميع دول وشعوب المنطقة. وقبل ذلك بيوم، قال عبد العاطي إن إحدى الطرق لإنهاء الأزمة في لبنان هي تمكين الجيش اللبناني من نشر قواته في جنوب لبنان.
بطبيعة الحال، كان وزير الخارجية المصري يدرك أن الدعم الإيراني لـ”حزب الله” والتدخل في الشؤون اللبنانية- وكذلك في شؤون دول إقليمية أخرى- يجعل من المستحيل على الجيش اللبناني أن يبسط سيطرته على الجزء الجنوبي من لبنان، وفقا لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701.
كما يرجع الاستقبال البارد الذي لقيه عراقجي في القاهرة أيضا إلى الخسائر الفادحة التي تسببها الحرب الحالية في غزة ولبنان لمصر، خاصة مع قيام الحوثيين بمهاجمة السفن التجارية في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر ومضيق باب المندب، وإبعاد الخطوط البحرية عن طريق قناة السويس. وحتى الآن، عانت القناة، وهي مصدر رئيس للعملة الأجنبية لمصر، من انخفاض بنسبة 60 في المئة في الإيرادات الشهرية، مما يؤدي إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية في مصر.
النضال من أجل البقاء
تجلى الفارق الشاسع بين ما ترغب إيران في إظهاره وما تسعى لإخفائه بشكل جلي في بعض التصريحات التي أدلى بها وزير خارجيتها خلال جولته التي شملت ثماني دول. وصرح عراقجي، أثناء وجوده في بغداد يوم 13 أكتوبر، بأن بلاده مستعدة تماما لمواجهة حالة حرب، لكنه عاد وأكد لاحقا أن إيران لا تريد حربا، بل تسعى لتحقيق السلام. ولم يكن عراقجي، بتأكيده على استعداد بلاده للحرب، يتحدث عبثا؛ فإذا ما وُضعت إيران في الزاوية، ستقاتل بكل قوة، وستعض وتخدش من أجل بقائها.
العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة يستقبل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي في المنامة، البحرين، 21 أكتوبر 2024زيارته للمجموعة الثالثة من الدول الإقليمية، أي الوسطاء المحتملين، أبرزت الفجوة الكبيرة بين ما ترغب إيران في إظهاره وما تسعى لإخفائه.فخلال زياراته إلى المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان والأردن وقطر، سعى وزير الخارجية الإيراني إلى التأكد من عدم استخدام المجال الجوي لهذه الدول من قبل إسرائيل في حال شنت هجوما على أهداف إيرانية.
لكن وزير الخارجية الإيراني كانت لديه مهمة ذات أهمية أكبر في هذه الدول: وهي السعي للحصول على وساطة محتملة لمنع الضربات الإسرائيلية المتوقعة في أفضل الأحوال، أو لضمان خروج إيران سالمة من هذه الضربات في أسوأ الأحوال.
وأثناء الشروع في هذه المهمة، كان الوزير الإيراني واعيا للثقل الذي تحظى به هذه الدول ولعلاقاتها الوثيقة مع بعض اللاعبين الإقليميين والدوليين، بما في ذلك الولايات المتحدة.إلا أن هذه المهمة تطرح تساؤلات حول ما يمكن أن تقدمه إيران للدول الإقليمية التي شملتها جولة عراقجي في المقابل.
لا شك أن هذه الدول لديها مصالح راسخة في تحقيق الهدوء ومنع المنطقة من الانزلاق إلى حرب شاملة، لكن يبقى السؤال: من سيهتم بإنقاذ الجمهورية الإسلامية من الوقوع في الهاوية المظلمة، وأين تكمن هذه الجهود، خصوصا في ظل سجلها في السياسات الإقليمية؟