ينبغي العمل على تعزيز الترتيبات الأمنية التي نص عليها قرار مجلس الأمن رقم 1701 وغيرها من الاتفاقات السابقة. والأهم من ذلك، تطبيقها على أرض الواقع، وهو ما قد يتطلب تشكيل فريق “عمل دولي” يعمل خارج إطار مجلس الأمن.”
منذ عام مضى، أشغل “حزب الله” ما تحول إلى حرب لبنانية ثالثة مع إسرائيل، كاشفاً الفشل الدولي في تنفيذ الترتيبات الأمنية التي فُرضت بعد الحرب الثانية عام 2006. على أرض الواقع، يمكن أن يُعزى هذا الفشل إلى الحكومة اللبنانية والقوات المسلحة اللبنانية وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، غير أن مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة يتحملان مسؤولية كبيرة أيضاً. لإنهاء الحرب الحالية ومنع الحرب المقبلة، ينبغي أن تأخذ أي ترتيبات أمنية جديدة في الاعتبار أسباب هذا الفشل وتعمل على تصحيحه.
لماذا فشل القرار 1701 في منع الحرب؟
عند اعتماده في عام 2006، شخّص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701، بدقة الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرب الثانية والتي تضمنت امتلاك “حزب الله” لأسلحة عسكرية خارج سيطرة الحكومة ووجود قواته في جنوب لبنان على الحدود مع إسرائيل. ولتفادي نشوب حرب ثالثة، دعا القرار 1701 بحكمة الحكومة اللبنانية إلى بسط سيادتها عبر القوات المسلحة اللبنانية (بدعم من قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل”) وإنشاء منطقة جنوب نهر الليطاني خالية من أي قوات مسلحة غير حكومية. كما طالب القرار الحكومة اللبنانية أيضاً نزع سلاح جميع الميليشيات وفقاً لاتفاق الطائف وقراري مجلس الأمن 1559 و1680. وتم تكليف الأمين العام للأمم المتحدة بوضع مقترحات لتنفيذ هذه القرارات.
بعد مرور عقود، لم يتحقق أي من هذه المتطلبات، فلم يتم التطرق قط إلى نزع سلاح الميليشيات بشكل جدي – وبدلاً من ذلك، ماطل المسؤولون اللبنانيون من خلال الانخراط في “حوار لا نهاية له حول الدفاع الوطني”، ثم أقروا ضمنياً حق “حزب الله” في حمل السلاح من خلال الشعار الرسمي المتداول “الشعب والجيش والمقاومة”. وعلى الرغم من أن الجيش اللبناني لم يتورع عن ملاحقة معظم الحركات الجهادية السنية، إلا أنه لم ينزع سلاح الفصائل الفلسطينية المرتبطة بتنظيمات إرهابية مثل “حماس”، فضلاً عن مواجهة “حزب الله” الشيعي.
وفي حين كررت الحكومة اللبنانية والقوات المسلحة اللبنانية التزامها بالقرار 1701، إلا انهما تواطأتا بشكل فعال مع “حزب الله” في انتهاكه، حيث عرقلتا بشكل ممنهج وصول قوات “اليونيفيل” إلى مواقع عسكرية لـ “حزب الله ” مثل الأنفاق العابرة للحدود وميادين الرماية ومواقع إطلاق الصواريخ. وقد تقدمت الأمم المتحدة بشكاوى متكررة عن هذه الانتهاكات في تقارير لا حصر لها، لكنها لم تتخذ أي إجراء رادع. وفي مواجهة هذه الأجواء المتوترة، كثيراً ما أشادت قوات “اليونيفيل” بمساهمتها المزعومة في تحقيق حالة من “الهدوء” على طول الحدود. غير أن حملة العنف والترهيب التي شنها “حزب الله” ضد قوة الأمم المتحدة أدت إلى ردعها عن تنفيذ مهامها، أو حتى الإبلاغ بدقة عن الوضع على الأرض، مما ساهم في تصاعد الأعمال العدائية ضد إسرائيل بشكل مطرد على مر السنين، والتي بلغت ذروتها في الحرب الحالية. وفي الوقت نفسه، تخلت الحكومة اللبنانية عن واجبها في حماية قوات “اليونيفيل” من خلال عدم تقديم قتلة “حزب الله” وغيرهم من المعتدين إلى العدالة.
واليوم، بينما يتم النظر في الترتيبات الأمنية الجديدة والتفاوض بشأنها، يجب العمل على تقييم إخفاقات قوات “اليونيفيل” بشكل نقدي وواضح. فقد تكيفت قوات “اليونيفيل” تدريجياً، بعد سنوات من الدعم غير الكافي من لبنان والأمم المتحدة، مع منع الوصول إلى مواقع “حزب الله” المحظورة بذريعة أنها “ممتلكات خاصة” و”مناطق ذات أهمية استراتيجية”، بالإضافة إلى مواقع (مدمرة حالياً) كانت تحت سيطرة مجموعة “أخضر بلا حدود” البيئية الوهمية. أثبتت معطيات الجيش الإسرائيلي خلال الحرب الحالية، بما لا يدع مجالاً للشك، أن “حزب الله” قد حوّل منازل وممتلكات خاصة أخرى وحتى قرى بأكملها إلى أصول عسكرية تحت غطاء الحكومة والجيش اللبناني. كما أن قوات “اليونيفيل” بدأت تعتبر أن مجرد التقاط الصور الفوتوغرافية في جنوب لبنان كان محظورًا، بعد مصادرة كاميرات الأمم المتحدة وأجهزتها الإلكترونية مرارًا وتكرارًا من قبل عناصر “حزب الله” أو دُمرت، حيث اعتبرت قوات “اليونيفيل “أن تلك المعدات استولى عليها “مدنيون. وبالفعل، فإن أي محاولات لتعزيز قدرة قوات “اليونيفيل” على رصد الأوضاع في جنوب لبنان، تم منعها فعلياً من قبل حلفاء “حزب الله” في الحكومة.
وعلى الرغم من هذه الانتهاكات الصارخة، فقد قللت التقارير الدورية التي يرفعها الأمين العام للأمم المتحدة إلى مجلس الأمن بشأن التقدم المحرز في تنفيذ القرار 1701 من خطورة الوضع الأمني المتدهور على مدى سنوات. إذ ركزت تلك التقارير على إحصاءات لا تمت بصلة بمهام البعثة، مثل أعداد الدوريات، في حين أفردت مساحات واسعة لمناقشة مهام خارجة عن نطاق تفويض قوات “اليونيفيل” مثل الأزمات السياسية والاقتصادية في لبنان. وفي المقابل، لم يتخذ مجلس الأمن إجراء فعال بشأن المشكلات المذكورة سابقا، واكتفى بتجديد تفويض قوات “اليونيفيل “مرارًا وتكرارًا دون إجراء تغييرات كبيرة.
تشكيل فريق عمل “دولي”
من أجل إنهاء الحرب اللبنانية الحالية ومنع اندلاع حرب رابعة، يجب على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات لتجنب تكرار الظروف التي أدت إلى اندلاع الحرب السابقة. ولا يستلزم ذلك ترتيبات أمنية أفضل فحسب، بل يتطلب في المقام الأول آلية تنفيذ فعالة. فبالإضافة لاتفاق “الطائف”، توفر قرارات الأمم المتحدة السابقة – 559 و1680 و1701 – أساساً قانونياً لمساعدة الحكومة اللبنانية على احتكار السلاح داخل حدودها. غير انه يجب أن يتم تطبيق هذه القرارات من خلال آلية تنفيذ قوية وإلا ستفشل مجدداً.
وبشكل أكثر تحديدًا، يجب أن تضمن الترتيبات الأمنية المستقبلية عدم استخدام الأراضي اللبنانية كقاعدة لتهديد إسرائيل – سواء من قبل “حزب الله” أو وكلاء إيران الآخرين أو التنظيمات الفلسطينية أو الجهاديين. فالهدف هو حماية أمن إسرائيل ولبنان وسيادتهما على حد سواء. وتسعى الحملة العسكرية الإسرائيلية الحالية إلى تسهيل تحقيق هذا الهدف بطريقتين: أولاً، عبر إضعاف قوات “حزب الله” وتدمير مواقعه وتعطيل تنظيمه وتقويض سيطرته على لبنان؛ وثانياً، عبر خلق ظروف ضاغطة تدعم المسار الدبلوماسي الفعال.
من حيث المبدأ، ينبغي أن يبدأ الإطار الأمني المستقبلي للبنان باستعادة الحكومة لسيادتها الكاملة على أراضيها. لكن نظراً لما تعانيه بيروت من ضعف وخلل وفساد منذ زمن طويل، فمن الضروري وجود مستويات إضافية لدعم ومراقبة وتحفيز وإجبار وإنفاذ التقدم على هذه الجبهة. ويمكن للأمم المتحدة تشكل إحدى هذه المستويات- شريطة أن تضطلع بدور أكثر فاعلية مما كانت عليه في الماضي. كما يمكن للولايات المتحدة أن تشكل مستوى أخر بالتعاون مع الجهات الفاعلة التي تمتلك رؤية مماثلة مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا والشركاء الإقليميين المعنيين. وإذا أخفقت جميع الجهود الأخرى، يمكن لإسرائيل أن تشكل مستوى إضافي – وهو المستوى الأخير في الدفاع عن أمنها، بدعم من واشنطن.
ومن أجل توفير مصدر سلطة شرعي لهذه الترتيبات الأمنية، وبعد سنوات من الجمود السياسي، يحتاج لبنان إلى تشكيل حكومة فاعلة، تبدأ باختيار رئيس جديد للجمهورية. وينبغي ممارسة الضغط المباشر على من يعرقلون هذه الخطوة، بمن فيهم رئيس مجلس النواب نبيه بري. وفي حالة إخفاق هذا المسعى، يجب على الجهات الخارجية المضي قدماً بغض النظر عن ذلك.
ومن الناحية الواقعية، فإن احتمالات صدور قرار أقوى بكثير من مجلس الأمن ضئيلة للغاية، نظرًا للمواقف المعرقلة التي اتخذتها الصين وروسيا حتى الآن. وبالتالي، قد تكون هناك حاجة لاتخاذ مسار بديل خارج إطار الأمم المتحدة. على سبيل المثال، يمكن للولايات المتحدة وإسرائيل والدول ذات التفكير المماثل أن تنشئ آليتها الخاصة أو فريق عمل لتعزيز خارطة طريق جديدة مستقلة عن إطار الأمم المتحدة. وهذا من شأنه أن يمكّنهم من تعويض النقص في الترتيب الحالي، في قضايا تتراوح بين الرقابة والمراقبة والعقوبات القسرية. وقد توفر إسرائيل معلومات استخباراتية مركزة لدعم هذه الجهود، بما في ذلك الإنفاذ العسكري في حال فشل كل شيء آخر. ولمعالجة مخاوف بيروت بشأن السيادة، ينبغي استكشاف بدائل أجنبية للطلعات الجوية الاستطلاعية الإسرائيلية، بدعوة من الحكومة اللبنانية، على غرار طلعات “حصاد الزيتون” التي قامت بها القوات الأمريكية فوق إسرائيل ومصر وسوريا بعد حرب 1973.
ولتحقيق هذا النهج، يتعين على فريق العمل دفع بيروت إلى طلب الدعم الدولي والالتزام بتعهدات معينة. ويجب أن تخصص المساعدات المقدمة لدعم الاقتصاد اللبناني وإعادة الإعمار، بالإضافة إلى الأسلحة والأموال والدعم التدريبي للقوات المسلحة اللبنانية، مشروطة بالامتثال لمعايير واضحة في خارطة الطريق الجديدة. كما ينبغي تصنيف أي جهات لبنانية متواطئة بشكل وثيق مع “حزب الله” كعناصر إرهابية، والتعامل معها على هذا الأساس.
وسيتعين أن يتم نزع سلاح الميليشيات بشكل تدريجي وعلى مراحل بحسب الموقع والفصيل. وفى هذا السياق، يشكل الجنوب الموقع الأكثر إلحاحاً، حيث ينبغي التركيز على الأصول العسكرية المتبقية لـدى “حزب الله ” والفصائل الفلسطينية المسلحة في مخيمات اللاجئين في الجنوب. ولتحقيق ذلك، يتعين على بيروت إظهار إرادة سياسية كافية، وذلك من خلال تكليف ” القوات المسلحة اللبنانية” بتخطيط هذه المهمة وتنفيذها، مع طلب دعم قوات “اليونيفيل” لهذا الغرض.
ومن جانبها، يجب العمل على تغيير قوات “اليونيفيل” أو حتى حلها نظراً لإخفاقاتها المتكررة. وفي حال تم الإبقاء عليها، ينبغي على قوات “اليونيفيل” إظهار استعدادها للوفاء بمهام ولايتها من خلال العمل على منع جميع الهجمات التي تنطلق من الأراضي اللبنانية، وضمان حرية الحركة والوصول إلى جميع المواقع في منطقة مهمتها، بما في ذلك “الممتلكات الخاصة” و”المناطق الاستراتيجية” وغيرها من المواقع التي كانت محظورة في السابق بذرائع مختلفة. كما يتعين على قوات “اليونيفيل” تعزيز قدرتها في تقييم الحالة العسكرية على الأرض من خلال إنشاء قدرات استخباراتية وظيفية في جميع أنحاء منطقة مهمتها. كما ينبغي أيضاً توسيع منطقة عملياتها شمالاً، في البداية إلى نهر “العوالي”، وربما إلى مناطق أبعد من ذلك.
وفى حال طلبت بيروت رسميًا دعم الأمم المتحدة في نزع سلاح الميليشيات وتجريد الجنوب من السلاح وتأمين حدودها، فسيكون ذلك الاختبار النهائي لمدى جدوى قوات “اليونيفيل”. في هذه الحالة، يجب على الحكومة والقوات المسلحة اللبنانية أن تتجاوب بالمثل من خلال دعم أفراد قوات “اليونيفيل” وحمايتهم. علاوة على ذلك، يجب تعديل حجم قوات “اليونيفيل” بما يتناسب مع مهامها الفعلية عند كل فترة تجديد لتفويضها. ويُقترح أن يتم هذا التجديد كل ستة أشهر بدلاً من كل عام، مما يضمن مرونة أكبر واستجابة أفضل لمتطلبات المهمة المتغيرة.”
قد تعارض الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، مثل الصين وروسيا وربما فرنسا (باعتبارهم الدول المسؤولة عن هذا الملف)، أي تغييرات مقترحة بخصوص قوات “اليونيفيل”. وإذا كان الأمر كذلك، سيكون من الأفضل حل البعثة بالكامل، وهو إجراء يمكن أن تفعله الولايات المتحدة باستخدام حق النقض (الفيتو) ضد تجديد التفويض لقوات “اليونيفيل” في آب/أغسطس المقبل، وحجب التمويل عن ميزانيتها البالغة 500 مليون دولار سنويًا. وفي هذا السيناريو، يمكن تصوّر أن تقوم بعثة مراقبة وقف إطلاق النار التابعة للأمم المتحدة ببعض مهام الرصد والاتصال، حيث إن مراقبيها العسكريين موجودين بالفعل في قوات “اليونيفيل”، وكان قادتها على اتصال بإسرائيل ولبنان وسوريا منذ عام 1948.
وبصرف النظر عن خارطة الطريق التي يختارونها، يجب على المسؤولين استغلال الضغوط التي فرضتها الحرب الحالية على لبنان و”حزب الله” لتحسين الترتيبات الأمنية بعد الحرب، عوضاً عن اختيار وقف فوري لإطلاق النار فتح مجالاً واسعاً لـ “الدبلوماسية”. ومن شأن هذه المقاربة الأكثر صبراً أن تُفضي إلى إنهاء الحرب بعد الحصول على ميزة كبيرة تتمثل في الحد من قدرة “حزب الله” على إعادة بناء قواته بسرعة، والعودة إلى الظهور كتهديد لإسرائيل، وإعاقة السيادة اللبنانية، وإشعال حرب رابعة في لبنان.
أساف أوريون هو “زميل ليز وموني ريؤفين الدولي” في معهد واشنطن. أوريون هو عميد إسرائيلي متقاعد واستراتيجي للشؤون الدفاعية، ويتراوح نطاق أبحاثه الواسع من العلاقات مع الصين إلى الاستراتيجيات والسياسات السياسية والعسكرية الإقليمية لإسرائيل.