حاجات الآمان: قراءة نفسية في شواغل الشارع الأمريكي قبل انتخابات نوفمبر

تتنوع القضايا التي تشغل الناخب الأمريكي قبل الانتخابات الرئاسية المقرر انعقادها في الخامس من نوفمبر القادم، وقد طرحت عدة استطلاعات للرأي العديد من القضايا المختلفة التي تشغل الناخب الأمريكي وتدفعه لتفضيل أحد المرشحين، والتي تعددت ما بين الاقتصاد، والتضخم والأسعار، والضرائب، والرعاية الصحية، والمناخ، والسياسة الخارجية، والسلاح، والتعليم، والهجرة والحدود، والعنصرية وحماية الديمقراطية، والإجهاض، وغيرها من القضايا الأخرى.

ومن بين هذه الملفات، استحوذت قضايا (الاقتصاد، والرعاية الصحية، والجريمة، والهجرة والحدود) على اتفاق ما بين كافة استطلاعات الرأي، باعتبارها القضايا ذات الأولوية لدي الناخب الأمريكي. ومن ثم، ستحاول هذه الورقة البحث في الدوافع السيكولوجية وراء انشغال الشارع الأمريكي بتلك القضايا على وجه التحديد.

في خضم التهيؤ للانتخابات الرئاسية الأمريكية، يبدو من المهم لفهم شواغل الشارع الأمريكي ليس فقط النظر في القضايا التي تحوز على اهتمامه، وإنما تفكيك الأبعاد النفسية أيضًا لهذه الأولويات. فوضع قضايا مثل الاقتصاد والتضخم والرعاية الصحية ضمن أولويات شواغل الشارع الأمريكي يمكن تحليله في إطار “الاحتياج للأمان”، الذي يعد جزء من الاحتياجات الإنسانية الأساسية، والتي أشار إليها “إبراهام ماسلو” في نظريته للحاجات الإنسانية، والتي تدور حول الطبيعة الهرمية للحاجات الأساسية للإنسان، بحيث تبدأ من أسفل إلى أعلى. وفقًا لـ “ماسلو”، يبدأ الإنسان بإشباع الحاجات الفسيولوجية ثم الحاجات الأمنية تليها الحاجات الاجتماعية ثم الحاجات النفسية وأخيرًا تحقيق الذات.

وبناءً عليه، يأتي “إشباع الحاجات الأمنية للإنسان” في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، وتتضمن الحاجات الأمنية كل ما يضمن ويحقق للفرد الشعور بالاستقرار والأمان المعنوي والمادي، بما في ذلك الصحة والسلامة الجسدية، والحماية من العنف والأمن الاقتصادي وتوافر الرعاية الصحية. وبالعودة إلى شواغل الشارع الأمريكي، تكشف استطلاعات الرأي عن أولوية قضايا الاقتصاد والرعاية الصحية والجريمة لدي الناخبين، وذلك لما لها من دور محوري في إشباع حاجات الأمن لديهم، الأمر الذي يمكن تفكيكه على النحو التالي:

الاقتصاد: اتفقت العديد من الاستطلاعات أن قضايا الاقتصاد والتضخم تأتي على رأس القضايا التي تشغل الناخب الأمريكي. ففي استطلاع Pew research center، سبتمبر 2024، جاء الاقتصاد على رأس القضايا التي تهم الناخب بنسبة 81%. وفي استطلاع Ipsos، أكتوبر2024، أكد ما نسبته 92% من الناخبين المسجلين على أهمية الاقتصاد أو وضعهم الاقتصادي الشخصي في تحديد كيفية تصويتهم في الانتخابات المقبلة. واتفق استطلاع Statista ، المنشور في يوليو 2024، مع الاستطلاعين السابقين حيث جاء اهتمام الناخبين بالأسعار والتضخم على رأس القضايا بنسبة 25%.

إن كون الاقتصاد في مقدمة اهتمامات الناخب الأمريكي ليس مفاجئ؛ فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة قد تعافت مما خلفته تداعيات جائحة (كوفيد-19) على الاقتصاد العالمي، إلا أن التضخم وارتفاع الأسعار، مازال مؤثرًا على الناخبين خاصة من الأجيال الجديدة. فبحسب تقرير نشره TRUST UNION يعتمد الجيل الجديد بشكل كبير على الاقتراض، ويتحمل أغلبهم الديون في سن صغير ما بين بطاقات الائتمان وقروض السيارات والرهن العقاري. وكشف استطلاع جامعة شيكاغو، الذي أُجري ما بين 22 يوليو و5 أغسطس 2024، عن آراء الشباب حول شواغلهم السياسية قبل الانتخابات، وقد احتل التضخم والاقتصاد على المرتبة الأولى بنسبة 54%، فيما أشار 19% منهم أن القدرة على تحمل تكاليف السكن هي المشكلة الأكبر، مقارنةً بأي مشكلة أخرى، بما في ذلك العنف المسلح والتعليم.

وقد يكون للفجوة في مستويات الدخل والتي أدت إلى انخفاض نسبة الأمريكيين الذي ينتمون للطبقة المتوسطة دورًا في انشغال الناخبين بالاقتصاد، حيث أشار استطلاع Pew Research center  المنشور في مايو 2024 إلى انخفاض نسبة  الأمريكيين الذين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة مقارنة بعام 1971، حيث كان 61% من الأمريكيين يعيشون في أسر من الطبقة المتوسطة، وبحلول عام 2023، انخفضت هذه النسبة إلى 51%. وبالرغم من كون الولايات المتحدة من أغنى الدول في العالم فإن التفاوت في توزيع الثروات والفجوات الكبيرة في الدخل بين مواطنيها تشكل أزمة كبيرة لدى المواطنين.

واستنادًا إلى ذلك، تعبر النسب المُشار إليها آنفًا، من وجهة نظر نفسية، عن عدم شعور الناخبين بالأمن الاقتصادي، حيث أن المستوى العام للأسعار لايزال أعلى مما كانت عليه في 2020 و2021، ومازالت الفجوة في الدخول مرتفعة مقارنة بالعقود الماضية، بالرغم من ارتفاع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى 22% وتباطؤ معدل التضخم إلى 3% في ديسمبر 2023.

ويعد الأمن الاقتصادي، والذي يمثل قدرة الأفراد والمجتمعات على تلبية احتياجاتهم الأساسية، حاجة نفسية مهمة تقع تحت مظلة احتياجات الأمان للفرد، نظرًا لما لعامل الاقتصاد من أهمية وتداخل في مجالات الحياة كافة، فلا تقتصر حاجات الأمان على الشعور بالطمأنينة والابتعاد عن الخطر والعيش في سلام، بل تشمل كل ما يضمن للفرد الشعور بالاستقرار، وهو ما يهدده زيادة نسب اعتماد الأجيال الجديدة على الاقتراض الذي يهدد شعور الأفراد بالأمن الاقتصادي ويثير مشاعر القلق والخوف.

كما يعزز الشعور بعدم الأمن الاقتصادي، الحروب المستمرة لحلفاء الولايات المتحدة، التي تزيد من تكلفة الإنفاق العسكري، والتي تؤثر بدورها على الاقتصاد المحلي. وبالرغم من أنها ليست طرفًا مباشر في تلك الحروب، قد يكون للمساعدات العسكرية والمادية التي تقدمها واشنطن للحلفاء دورًا في زيادة انشغال الناخبين بالاقتصاد، بسبب إهدار أموال الضرائب على الدعم العسكري الخارجي بدلًا من توجيهها إلى الداخل. بحسب ما كشفه استطلاع Rasmussen Reports، المنشور في أبريل 2024، فإن ما يقرب من نصف الناخبين الأمريكيين يعتقدون أن بلادهم تهدر أموال الضرائب دون مبرر، من خلال تقديم الدعم لحلفائها في الخارج، وكشف التقرير أن نحو 57% من المشاركين في الاستطلاع يرون أن الحكومة الفيدرالية تنفق “الكثير جدًا” على برامج المساعدات الخارجية بشكل عام، وطالبو الحكومة بإعادة النظر في تلك السياسات والتركيز على الاحتياجات المحلية بدلًا عن احتياجات الشركاء الخارجيين.

وأشار استطلاع نشرته الصحيفة البريطانية Financial Times، في ديسمبر 2023، إلى أن 48% يعتقدون أن الولايات المتحدة تنفق “الكثير” على المساعدات العسكرية والمالية لأوكرانيا، فيما يرى 40% من الأمريكيين أن بلادهم تنفق “أكثر مما ينبغي” على المساعدات العسكرية والمالية لإسرائيل.

الرعاية الصحية: تحتل قضية الرعاية الصحية جانبًا كبيرًا من اهتمامات الناخبين، حيث تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأسوأ بين 10 دول متقدمة في مجال الرعاية الصحية، وقد أشار تقرير نشرته NBC أن الولايات المتحدة تحتل المرتبة الأخيرة في مجال الرعاية الصحية مقارنة بتسعة دول أخرى ذات دخل مرتفع، وأوضح التقرير أن نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة يأتي في المرتبة الأخيرة من حيث إمكانية  الوصول للرعاية الصحية، ، والمساواة، ونتائج الرعاية الصحية، كما جاء في المرتبة الأخيرة بشكل عام.

ويبدو أن تراجع مستوى الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الناجم عن عدم توفير برامج الرعاية الصحية وخدمات التأمين الصحي للمواطنين وتوفير الأدوية بأسعار معقولة، يؤدي لشعور الناخبين بعدم الأمن الصحي، والذي بدوره يصبح الدافع وراء مطالبهم للحملات الرئاسية للمرشحين بوضع سياسات تضمن لهم الأمن الصحي.

 ويعد الأمن الصحي قضية مرتبطة بشكل وثيق بالأمن الاقتصادي، حيث أن زيادة تكلفة العلاج والرعاية الصحية، تعيق الكثير من الحصول على أبسط حقوقهم الأساسية في العلاج، ويُظهر استطلاع للرأي أجراه “جالوب” بالتعاون مع مؤسسة West Health، في سبتمبر الماضي، أن ما نسبته 67% من الأمريكيين يرون أن الرعاية الصحية لا تحظى باهتمام كافٍ خلال الحملة الرئاسية لعام 2024، ومن ثم، فإن ذات النسبة تشعر بقلق عميق بشأن قدرتهم على تحمل تكاليف الرعاية الصحية التي يحتاجون إليها، ومن أن يؤدي حدث صحي كبير إلى تحملهم ديون طبية.

الجرائم: يأتي الدافع الأساسي وراء انشغال الشارع الأمريكي بتلك القضية، كنتيجة طبيعية للشعور بالتهديد؛ حيث يعيش نسبة كبيرة من المواطنين الأمريكيين في حالة من الخوف المستمر من التعرض للجريمة، سواء كانت سرقة أو اعتداء أو حتى قتل، وبالرغم من أن بعض التقارير الصادرة عن مكتب التحقيقات الفيدرالية تشير إلى انخفاض معدلات الجريمة في مختلف فئات الجرائم العنيفة في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، إلا أن الناخبين مازالوا في انتظار سياسات أكثر صرامة للحد من معدلات الجرائم وأسبابها، التي يأتي على رأسها انتشار حيازة السلاح، وهو الحق الذي يكفله الدستور الأمريكي للمواطنين للدفاع عن النفس، لكنه يهدد حق آخر، وهو الحق في الحياة والعيش في أمان، والذي يتعرض إلى التهديد باستمرار جراء ما يسفر عنه حق الدفاع عن النفس من جرائم العنف المسلح وإطلاق النار الجماعي العشوائي.

وعلى الرغم من سعي الرئيس “جو بايدن” لتشريع قانون لتقييد حيازة الأسلحة، ووضع ضوابط أكثر صرامة على المشترين الشباب وإعطاء الحق للولايات لسحب الأسلحة من الأشخاص الذين تعتبرهم تهديدًا، مازال العنف المسلح يشكل تهديدًا، ويؤيد ذلك بيانات أرشيف العنف المسلح (GVA) التي أشارت إلى وقوع أكثر من 415 حادث إطلاق نار جماعي في الولايات المتحدة خلال العام الحالي، مما أسفر عن مقتل أكثر من 400 شخص وإصابة 1800 آخرين. ومنذ بداية العام وحتى يوم 19 سبتمبر الماضي، وقع 50 حادث إطلاق نار في المدارس في الولايات المتحدة.

تعد سياسة الحدود والهجرة قضية انتخابية رئيسية، بسبب ارتباطها العميق بالأمن القومي والسياسة الاقتصادية والهوية الثقافية، وبالرغم من أن الهجرة ساهمت بشكل كبير في تشكيل المجتمع الأمريكي، تشير بعض الاستطلاعات، ومنها استطلاع جالوب في يونيو 2024، إلى أن نحو 55% يرغبون في خفض معدلات الهجرة.

وقد يرجع بروز تلك القضية في الانتخابات الحالية، لما شهدته الولايات المتحدة من زيادة في أعداد المهاجرين مؤخرًا، حيث أشار استطلاع   Pew Research Centerالمنشور في سبتمبر 2024 إلى أن المهاجرين يشكلون 14.3% من سكان الولايات المتحدة. ونتيجة لسياسات الهجرة والحدود، دخل إلى الولايات المتحدة في عهد الرئيس “بايدن” نحو ستة ملايين و500 ألف مهاجر بشكل غير شرعي وفقًا لبيانات أجهزة مراقبة الحدود، وهو الأمر الذي زاد من غضب بعض الناخبين، وجعل تلك القضية من ضمن شواغل الشارع الأمريكي، خاصة مع تأثير زيادة أعداد المهاجرين على الاقتصاد بسبب الضغوط التي يفرضها المهاجرون على الخدمات الاجتماعية والموارد الحكومية.

صورة ذهنية مغلوطة: يبدو أن إحدى الدوافع الرئيسية لاهتمام الأمريكيين بالهجرة تتعلق بالصورة الذهنية المغلوطة لدى الناخبين عن المهاجرين التي تكمن في كون المهاجرين مجرمين، وقد تكون تلك المزاعم حول المهاجرين وكونهم سبب في ارتفاع معدلات الجريمة، هو الدافع الأكبر لرغبة المواطنين في خفض معدلات الهجرة. فوفقًا لاستطلاعPew research center ، المنشور في فبراير 2024، يرى 57% من المستطلع رأيهم أن العدد الكبير من المهاجرين هو ما يؤدي إلى زيادة الجريمة. لكن على عكس ما يشاع أن المهاجرين سببًا في زيادة معدلات الجريمة، أثبتت عدة دراسات خلاف ذلك، وأفادت بأنه غالبًا ما تكون معدلات الجريمة في أدنى مستوياتها في الأماكن التي تكون فيها مستويات الهجرة أعلى، وقد يرجع هذا إلى وجود خوف لدى المهاجرين من الوقوع في المشاكل والترحيل ما يجعلهم لا يرغبون في إثارة المشاكل ويحثهم على الابتعاد عن الانخراط في الأنشطة الاجرامية. يتفق ذلك مع ما جاء بالتقرير الذي نشره موقعNPR  في مارس 2024، والذي سلط الضوء على نتائج الأبحاث التي أشارت إلى أن المهاجرين أقل عرضة لارتكاب الجرائم مقارنة بالأمريكيين المولودين في الولايات المتحدة.

الاستبدال العظيم: وبخلاف الأسباب الاقتصادية والأمنية لبروز قضية الهجرة والحدود كقضية أساسية في الانتخابات، يمكن تفسير انشغال الشارع الأمريكي بتلك القضية من خلال نظرية “الاستبدال العظيم” التي قد يستغلها السياسيون من أجل الاستقطاب السياسي وتحقيق مكاسب انتخابية، عبر إثارة المخاوف لدى الناخبين، وهي نظرية مؤامرة يروج لها المتطرفون البيض، والتي تدعي أن غير البيض يهاجرون إلى الولايات المتحدة من أجل دفع الناخبين البيض والمواطنين إلى أن يصبحوا أقلية في بلدهم، وتُفقِد المواطنين المولودين في البلاد نفوذهم الاقتصادي والسياسي والثقافي.

ومن ناحية أخرى، يمكن أن نفسر هذا الانشغال من خلال إطار تحيز “نحن” و “هم” وهو تحيز معرفي يشير إلى ما يدركه الناس بشأن كون مجموعتهم المنتمون إليها “نحن” في منافسة مباشرة مع مجموعة أخرى “هم”، ويؤدي هذا التحيز للشعور بالعداء بين المجموعات. وبالتطبيق على المجتمع الأمريكي، إذا كان الناخبون الأمريكيون يعانون من ضغوطات اقتصادية ويصدقون في المزاعم التي تؤكد أن المهاجرين يساهمون في تلك الضغوط فمن الطبيعي أن يشعروا بالعداء تجاه هؤلاء المهاجرين، بما يجعل قضية الهجرة والحدود ضمن أولويات اهتماماتهم للتخلص من التهديد الذي يشكله “هم”.

وفي الختام، تكشف القراءة في شواغل الشارع الأمريكي من الناحية النفسية عن مجموعة من العوامل التي تؤثر على الأفراد وتحدد أولوياتهم. ويسهم فهم هذه العوامل النفسية في إلقاء الضوء على الدوافع الخفية وراء اهتمام الناخبين بالقضايا المختلفة، مما يوفر لصانعي القرار فرصة قيمة للتواصل بشكل أعمق مع احتياجات وتطلعات المواطنين، وتدفعهم نحو تبني خطاب متقارب مع هذه التطلعات.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M