تشكل إيران قضية سياسية مهمة في الشرق الأوسط هذه الأيام. فقد أثارت هجمات إسرائيل على “حزب الله”، بما في ذلك الغارة الجوية التي أدت إلى اغتيال زعيمه حسن نصرالله الشهر الماضي، تساؤلات كبرى حول ما قد تفعله إيران بعد ذلك.
إلا أن إيران لم تحظَ باهتمام كبير في الحملة الرئاسية الأميركية، حيث يركز الناخبون الأميركيون على قضايا أقرب إلى الوطن، مثل الاقتصاد والإجهاض والهجرة وحال الديمقراطية الأميركية. بيد أن ذلك لا يعني في حال من الأحوال أن إيران ليست مهمة عندما يتعلق الأمر بسياسة الأمن القومي الأميركية، ولكنها ليست العامل الحاسم في تقرير من سيفوز في السباق الرئاسي في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
إن التنبؤ بأفعال رئيس أميركي مستقبلي بناء على خطاب الحملة الانتخابية، غالبا ما يمثل تحديا، فالظروف غالبا هي التي تشكل السياسة الأميركية، والنظرة من المكتب البيضاوي تختلف كثيرا عن تلك التي نراها في الحملات الانتخابية الساعية إلى كسب أصوات الناخبين المتأرجحين. ومع ذلك، فإن كلا من كامالا هاريس ودونالد ترمب لديهما سجل حافل فيما يخص إيران إذا استندنا إلى فترة وجودهما في منصبيهما، فقد كان ترمب رئيسا للولايات المتحدة من 2017 إلى 2021، بينما لا تزال هاريس نائبة الرئيس منذ عام 2021.
نهج ترمب غير المتوقع مقابل قيادة هاريس العملية
عند تقييم نهج إدارتي ترمب وبايدن تجاه إيران على مدى السنوات السبع الماضية، تظهر بعض الأنماط المشتركة بين الإدارتين، فقد استخدم كلاهما العقوبات الاقتصادية والعزلة الدبلوماسية كأداة رئيسة، ولكنّ كليهما كان متقبلا لإمكانية مسار دبلوماسي مع إيران. وبحسب ما ورد فقد حاول ترمب جاهدا مقابلة نظيره حسن روحاني في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2018 وأعرب عن رغبته في القيام بذلك بالطريقة التي فعلها مع زعيم كوريا الشمالية.
لم تتصد أي من الإدارتين بقوة لنفوذ إيران في المنطقة من خلال القوة العسكرية وسمحت لإيران وشبكتها الإقليمية من الوكلاء بتشكيل المشهد دون استخدام القوة الكاملة للقوة العسكرية للرد على الدور الإقليمي المدمر لإيران. لقد اتخذ ترمب الخطوة الجريئة باغتيال قاسم سليماني عام 2020، لكن إدارته لم ترد أيضا على هجوم عام 2019 على منشآت النفط في بقيق وأرسلت الكثير من الإشارات المتضاربة حول دور أميركا في المنطقة، وخاصة في أماكن مثل سوريا والعراق.
من المحتمل أن تقدم إيران للرئيس الأميركي المقبل فرصة لإعادة تشكيل العلاقات، مما قد يؤدي إلى عملية تهدئة تشعر بها منطقة الشرق الأوسط بأكملها
وفي المقابل، كان نهج إدارة بايدن تجاه تصرفات إيران الإقليمية المزعزعة للاستقرار هو في الغالب الرد على الهجمات والتهديدات التي تشكلها إيران، مع التركيز بشكل أكبر على محاولة تعزيز خفض التصعيد بدلا من تعزيز الردع.
ومع ذلك، ثمة بين النهجين اختلافان رئيسان. أولهما أن هاريس تخدم في إدارة اعتقدت، مثل إدارة أوباما، أن حلفاء أميركا في الشرق الأوسط بحاجة إلى إيجاد طريقة للتعايش مع إيران و”تقاسم المنطقة”، وكانوا يعتقدون أن العودة إلى الاتفاق النووي الإيراني وحل الخلافات من خلال الحوار هما أفضل مسار للعمل.
وخلال العام الماضي، غيرت إدارة بايدن نهجها تدريجيا تجاه إيران، متجهة نحو التصدي بشكل أكبر للإجراءات المزعزعة للاستقرار التي تتخذها إيران وشركاؤها الإقليميون. وقد صرحت نائبة الرئيس هاريس مؤخرا بأن إيران تمثل “أعظم خصم” للولايات المتحدة لأنها “ملطخة بدماء الأميركيين”. فيما كانت سياسة ترمب تقوم على فرض “أقصى قدر من الضغط” على إيران، رغم أنها لم تحقق هذه النتيجة بالكامل، ولا سيما مع تزايد نفوذ إيران الإقليمي في أماكن مثل اليمن والعراق وسوريا ولبنان.
ويكمن الاختلاف الثاني في اللهجة والأسلوب واستراتيجية السياسة الخارجية. كان ترمب يفتخر بأنه لا يمكن التنبؤ بسياساته الخارجية الشاملة، ساعيا إلى إرباك الخصوم والأصدقاء على حد سواء من خلال التحركات والتصريحات التي كانت تهدف إلى اكتساب النفوذ.
لقد انتقد علانية المملكة العربية السعودية في تجمعات بالولايات المتحدة، وهدد بالاستيلاء على نفط العراق، ولكنّ هذه التصريحات لم تتحول إلى أفعال ملموسة. كما صرح ترمب خلال حملته الانتخابية لهذا العام بأنه سيتوصل إلى اتفاق مع قادة إيران، بل وسيسعى إلى إدخال إيران في اتفاقات أبراهام مع إسرائيل.
تحتاج رقصة التانغو إلى شريكين: الدور المهم لإيران
تكتسي أفعال طهران أهمية كبيرة، ومن المحتمل أن تقدم إيران للرئيس الأميركي المقبل فرصة لإعادة تشكيل العلاقات، مما قد يؤدي إلى عملية تهدئة تشعر بها منطقة الشرق الأوسط بأكملها. وقد عبر الرئيس مسعود بيزشكيان عن هذه التطلعات، ومثال ذلك التصريح الجريء الذي أطلقه في أول مؤتمر صحافي له يوم 16 سبتمبر/أيلول، حين قال: “إذا توقفت الولايات المتحدة عن فرض العقوبات والضغوط علينا، فلن تكون لدينا مشكلة معها، بل يمكننا أن نكون إخوة”.
بيد أن المراقبين في كل من الولايات المتحدة والعالم العربي سيسلطون الضوء على حقيقة أساسية لا يمكن لبيزشكيان تغييرها، وهي أن رئيس الجمهورية الإسلامية قد يتحدث بلغة المصالحة ولكنه في حقيقة الأمر لا يملك السلطة لتغيير الاستراتيجية الإقليمية التدخلية لطهران، التي تدار في واقع الأمر من قبل جهتين أكثر نفوذا: المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وجنرالات “الحرس الثوري” الذين قضوا عقودا في توسيع نفوذ إيران عبر شركاء مسلحين من لبنان إلى العراق واليمن.
على الرئيس الأميركي القادم أن يركز على أولويتين رئيستين لمواجهة التحديات التي تفرضها إيران: تعزيز التعاون مع الحلفاء الإقليميين والعمل على توحيد النهج الداخلي في الولايات المتحدة تجاه إيران
وبالفعل، يواجه بيزشكيان ردود فعل سلبية من الفصائل المحافظة التي تسخر من اعتقاده بأن الولايات المتحدة قد ترغب في يوم من الأيام أن تقيم علاقة “أخوة” مع إيران. هذا النقد يوضح الحواجز الأيديولوجية التي قد تكون صعبة التجاوز في حال قررت القيادة الإيرانية بشكل جدي استكشاف فكرة التقارب مع واشنطن.
ومع ذلك، يعتقد الكثير من الخبراء أن النظام الإسلامي في طهران يرزح تحت ضغوط عامة هائلة لتحسين مستويات المعيشة وإبعاد البلاد عن التهديد المستمر بالنزاع مع الولايات المتحدة وإسرائيل. وهذا يعني، قبل كل شيء، ضرورة تخفيف التوترات في المنطقة وضخ حياة جديدة في الاقتصاد الإيراني المتعثر، وهو أمر ممكن واقعيا فقط إذا ما رفعت الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على إيران أو قامت بتقليصها بشكل كبير. ويتردد الحديث في طهران أن النظام تحت ضغط شديد لدرجة أنه يسعى لتحريك الوضع بحيث لا تكون نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر عقبة كبيرة.
ويبدو أن طهران مستعدة لتجاهل تكتيكات دونالد ترمب القاسية ضد إيران في ولايته الأولى، وهي مستعدة بالقدر نفسه لعدم تحميل كامالا هاريس المسؤولية عن إدارة بايدن التي قللت فعليا من أولوية إيران كملف سياسي طوال معظم فترة وجودها في المنصب، باستثناء الأسابيع القليلة الماضية. ولكن هل سيقابل الإيرانيون المزيد من الانفتاح من الجانب الأميركي في المستقبل؟ يمكن لمراجعة سياسات إدارة ترمب وبايدن-هاريس تجاه إيران أن تلقي الكثير من الضوء على ما يمكن توقعه من واشنطن بشأن مسألة إيران. ولكن بغض النظر عمن سيفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية، يتعين على طهران أن تبدأ في استيعاب حقيقة أن الاستقرار الإقليمي والمصالح الوطنية الإيرانية الأساسية تتطلب من طهران إعادة النظر في نهجها العام تجاه العالم الخارجي.
الخطوة الأولى: تحقيق التوافق الاستراتيجي مع الحلفاء
بغض النظر عمن سيتم انتخابه في نوفمبر المقبل، يجب على الرئيس الأميركي القادم أن يركز على أولويتين رئيستين لمواجهة التحديات التي تفرضها إيران: تعزيز التعاون مع الحلفاء الإقليميين والعمل على توحيد النهج الداخلي في الولايات المتحدة تجاه إيران.
وفي القرن التاسع عشر، كان “الغرب الأميركي المتوحش” يشبه في بعض نواحيه ديناميكيات الشرق الأوسط اليوم، مناطق من عدم الاستقرار تتعايش مع مناطق يلاحق فيها الناس الثروات والفرص، ولكن دون وجود سلطة مركزية مستقرة. يمثل الشرق الأوسط اليوم هذا المزيج من المخاطر والتهديدات مع بعض الفرص التي تظهر في الأفق. وكان مفتاح النجاح في الغرب المتوحش رهنا بمن يستطيع أن يجمع حوله فريقا من الأشخاص الذين تجمعهم مصلحة مشتركة، وعادة ما تتألف هذه المجموعة من الرجال في مقاطعة ما يستطيع مأمور المقاطعة (Sherriff) استدعاءهم لفرض القانون.
يقف الإيرانيون عند منعطف حرج مرة أخرى. وسوف يؤثر اختيارهم للمسار التالي بشكل كبير على حسابات واشنطن وشركائها الإقليميين
يسمى هذا الفريق “posse comitatus” وهي تعبير لاتيني يعني “قوة المقاطعة”. وبغض النظر عمن سيصبح الرئيس المقبل للولايات المتحدة، ستكون هذه مهمة محورية لفريقه عندما يتعلق الأمر بإيران: كيف يمكن لأميركا أن تعمل بشكل وثيق ومتماسك لمواجهة التحديات والتهديدات التي تشكلها إيران و”حزب الله” و”الحوثيين” والميليشيات المختلفة المدعومة من قبل إيران في كافة أنحاء المنطقة.
ولأن الولايات المتحدة تواجه عددا من التحديات في الداخل وحول العالم في أماكن عدة مثل أوكرانيا وتايوان، فسوف تحتاج إلى العمل “من خلال” شركاء آخرين في الشرق الأوسط و”مع” هؤلاء الشركاء وباستخدامهم كوسيلة، وهذه ليست مهمة سهلة بسبب الاختلاف في وجهات النظر التي تقدمها كل من المملكة العربية السعودية وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة وتركيا ومصر هذه الأيام حول كيفية التعامل مع إيران. ولقد كان أحد أوجه القصور الرئيسة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشأن إيران لعقود امتدت عبر إدارات متعددة، سواء كانت ديمقراطية أو جمهورية، أنها غالبا ما كانت تدار دون بذل الكثير من الجهود الجادة لخلق التوافق والتضافر مع شركاء أميركا الإقليميين.
اعتمد بوش وأوباما بقوة على إطار عالمي مؤلف من مجموعة دول “5+1″، بينما تجاهل ترمب مفاهيم التعاون العالمي، وانتهج أيضا نهجا غير متسق حيال التعاون الإقليمي في الشرق الأوسط. وتتمثل المهمة الأساسية للسياسة الأميركية حول إيران في السنوات المقبلة في العمل بشكل أوثق بالتنسيق مع هؤلاء الشركاء الإقليميين. وكثير منهم، ومن بينهم المملكة العربية السعودية، أعادوا مؤخرا فتح علاقات مباشرة مع إيران بعد فترة من التوترات الشديدة. وهناك حاجة إلى نهج أكثر إقليمية وتعددية في الأطراف في التعامل مع إيران، وقد بدأ شركاء أميركا بالفعل بتولي زمام المبادرة في كيفية التفاعل مع إيران واحتوائها وتشكيل بيئة اليوم بينما يخططون لكيفية سير الأمور عند انتقال السلطة في طهران في المستقبل.
وفي الوقت نفسه، يقف الإيرانيون أيضا عند منعطف حرج مرة أخرى. وسوف يؤثر اختيارهم للمسار التالي بشكل كبير على حسابات واشنطن وشركائها الإقليميين. ومن المؤكد أن سياسة خفض التصعيد غير المعلنة التي تنتهجها إدارة بايدن منعت اندلاع صراع مسلح بين طهران وواشنطن على الرغم من المخاطر والمطبات العديدة القائمة بدءا من الصراع بين إسرائيل و”حماس” في غزة وصولا إلى هجمات الحوثيين على سفن الشحن في البحر الأحمر. ويمكن القول بثقة إنه على الرغم من أن فريق بايدن لم يحيي رسميا الاتفاق النووي لعام 2015، الذي تخلى عنه ترمب عام 2018، فإن النتيجة النهائية لسلسلة من قرارات الأخذ والرد من جانب كل من واشنطن وطهران قد خلقت بينهما نوعا من التفاهم الضمني.
السؤال الكبير هو ما إذا كان المضي قدما في مثل هذا التخفيف الآني من صراع أوسع يشكل خطة مستدامة. خاصة وأن هذا الوضع يبقي آمال إيران الاقتصادية مؤجلة ومجمدة. لقد غض البيت الأبيض في عهد بايدن نظره عن بيع إيران النفط للصين، لكن حجم هذا الدخل ما زال أقل بكثير مما يحتاجه النظام الإيراني ليكون قادرا على منع الجماهير الغاضبة من النزول إلى الشوارع. كما يغيب المستثمرون الأجانب الكبار عن إيران رغم الإمكانات الاقتصادية الكبيرة التي تتمتع بها البلاد. وبدلا من ذلك، يأخذ الإيرانيون أموالهم إلى الخارج، الأمر الذي يعكس انعدام الإيمان بإمكانية وجود ضوء في نهاية النفق.
بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها العرب في المنطقة، أكثر ما يهم هو إنهاء الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة، وتمهيد الطريق إلى حل الدولتين
باختصار، لن يكون كافيا أن تأمل إيران بالاستمرار في “إدارة التوترات” وحسب مع واشنطن، كما أوضح وزير الخارجية عباس عراقجي هذا الأمر للصحافة مؤخرا. ويدرك عراقجي ورئيسه بيزشكيان هذه الحقيقة بالطبع. ولكن يتحتم عليهما أن يتحدثا بلغة لا تمنح المتشددين الأيديولوجيين في طهران الذخيرة اللازمة لتصوير هذه الحكومة الإيرانية الجديدة على أنها خائنة لركائز “الجمهورية الإسلامية” الأساسية، ولا سيما التزامها المتجذر بمواجهة الأميركيين في الشرق الأوسط.
وستؤدي الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد “حزب الله” وإيران داخل لبنان هذا الخريف إلى إعادة تشكيل الديناميكيات الاستراتيجية الإقليمية بشكل كبير. ومع ذلك، فإن النظام الإيراني لا يسعى إلى الدخول في حرب مع إسرائيل، التي تُعادل في تداعياتها حربا مع الولايات المتحدة، وهو أمر قد يؤدي إلى الإطاحة به. ورغم رغبة طهران الملحة في الرد على إسرائيل، فمن المرجح أن تلتزم بخطتها الاستراتيجية طويلة الأمد، التي تهدف إلى تجنب الحرب في الوقت الراهن والتركيز على استنزاف إسرائيل تدريجيا ودفعها للخروج من المنطقة على المدى البعيد.
ومع ذلك، كانت رسالة الحملة الانتخابية الواضحة لبيزشكيان هي إصلاح السياسة الخارجية الإيرانية، ورغم ذلك سمحت له الدولة العميقة في طهران بدخول الانتخابات والفوز بها. وربما يكون خامنئي و”الحرس الثوري” قد توصلا بشكل خفي أيضا إلى قبول الحاجة إلى تقديم تنازلات جوهرية كي يتمكن النظام من الاستمرار في إحكام قبضته على السلطة. لا بد أن نفكر في الأمر بهذه الطريقة. وإذا كان الأمر كذلك، فالأمر لا يتعلق بما إذا كانت الأقلية الصغيرة من المتطرفين في طهران قادرة على وقف مثل هذا التحول، وهو ما لا يمكنها فعله. بل يتعلق بأنواع الملفات التي قد يكون خامنئي و”الحرس الثوري” مستعدين للمساومة عليها والتنازل عنها، وكيف يمكن أن يبدو التسلسل واقعيا دون أن يتسبب في إحراج طهران.
بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها العرب في المنطقة، فإن أكثر ما يهم هو إنهاء الحرب بين إسرائيل و”حماس” في غزة، وتمهيد الطريق إلى حل الدولتين، واستعادة الشعور بالاستقرار بعد أكثر من عام من الصراعات المحتدمة التي يمكن أن تنفجر بسهولة وتمتد إلى منطقة أوسع.
الخطوة الثانية: مزيد من الوحدة في الداخل
بغض النظر عمن سيفوز بالرئاسة في انتخابات نوفمبر المقبل، فقد حان الوقت لصناع السياسات في واشنطن لبناء سياسة تجاه إيران على أساس أكثر استقرارا بين الحزبين. لسنوات عديدة، كانت الولايات المتحدة منقسمة على أسس حزبية وأيديولوجية عندما يتعلق الأمر بقضايا السياسة الخارجية الرئيسة، وخاصة تجاه إيران، وقد عمل خصوم أميركا على استغلال هذه الانقسامات. واستخدمت أصوات كثيرة قضايا أمنية مهمة في الشرق الأوسط كأدوات في المناقشات السياسية والاجتماعية في أميركا نفسها، وهو شكل من أشكال الاستشراق الجديد الذي عادة ما يتجاهل حقائق الشرق الأوسط المعقدة اليوم.
من أجل التصدي للتحديات التي تواجهها أميركا مع إيران، لا يمكنها أن تتولى المهمة بمفردها ولا أن تكون منقسمة على ذاتها كما هو حالها اليوم
اليوم، يرفع منتقدو سياسة بايدن تجاه إيران أصواتهم ممتعضين. لكن لم يتوصل أي من هؤلاء المنتقدين حتى الآن إلى برنامج عمل بديل موثوق يرقى إلى أكثر من مجرد فرض المزيد من العقوبات على إيران (على غرار سياسة ترمب) من دون المخاطرة بجر الولايات المتحدة إلى حرب جديدة. تتأطر الخيارات الاستراتيجية للسياسة الأميركية حاليا حول خيار زائف بين “مهادنة سلبية” أو “تغيير للنظام”.
إن خطر اندلاع حرب جديدة في الشرق الأوسط، في الوقت الذي تكافح فيه الولايات المتحدة لمواجهة التحديات التي تفرضها عليها كل من روسيا والصين، هو بالتحديد السبب الذي جعل بايدن يشعر بأن الهدنة غير المعلنة مع طهران كانت مواتية. لكن الهدنة قصيرة الأجل لا يمكن أن تحل محل استراتيجية مديدة. ويبرز التوقيت كعامل مهم أيضا. فقد تواجه إيران انتقالا في القيادة في أي لحظة. ذلك أن ما يسمى “المرشد الأعلى” علي خامنئي، الذي تولى السلطة منذ عام 1989، يبلغ من العمر الآن 85 عاما.
ولكن من أجل التصدي للتحديات التي تواجهها مع إيران، لا يمكن لأميركا أن تتولى المهمة بمفردها ولا أن تكون منقسمة على ذاتها كما هو حالها اليوم. ففي السنوات الأخيرة، عندما ظهر قدر معين من الإجماع بين الحزبين حول قضايا هامة مثل الصين، تمكنت الإدارات الأميركية من التقدم بنهج أكثر تماسكا لمعالجة تلك التحديات.
ومهما كان المسار الذي ستتخذه هاريس أو ترمب تجاه إيران، فإن أفضل طريقة للمضي في هذا المسار تتجلى في العمل بانسجام أوثق مع شركائها في الشرق الأوسط وبناء إجماع أقوى في الداخل.