ربما هي المرة الأولى التي يحظى فيها القرار 1701 بإجماع لبناني وعربي ودولي منذ إقراره في 11 أغسطس/آب 2006. وإذ ينظر إليه اليوم على أنه السبيل الوحيد لوقف الحرب بين “حزب الله” وإسرائيل، لا يزال الاختلاف قائما بين الموقفين اللبناني والإسرائيلي حول ما يأتي أولا، وقف النار أم تطبيق القرار؟ فبينما تسعى إسرائيل إلى التأكد من أن آليات التطبيق تضع حدا لوجود “حزب الله” جنوب الليطاني، تمهيدا لعودة المستوطنين إلى بيوتهم، كشرط مسبق لوقف النار، ترى الحكومة اللبنانية أن وقف النار أولا يتيح لها العمل على تطبيق المندرجات الأساسية للقرار وما سيلحقها من تعديلات حملها معه المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين في زيارته الأخيرة للبنان.
يتطلب تطبيق القرار 1701 بصيغته الجديدة، زيادة عديد الجيش اللبناني جنوب الليطاني ليصبح 15 ألف جندي، وهو العدد الذي حدده القرار عام 2006، ولم يتم الالتزام به بسبب النقص في عديد الجيش، وبسبب الظروف الأمنية والتفجيرات التي كانت تعيشها البلاد عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، واقتصر الأمر على إرسال لواءين وفوج، أي ما عديده 4500 جندي، كانت مهمتهم تسيير دوريات مشتركة مع قوات “اليونيفيل” في إطار جهاز ارتباط أنشئ لهذه الغاية.
ظروف تطبيق القرار 1701
جاء هذا الانتشار في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية تركت آثارها على تطبيق القرار 1701 وأبرزها:
• انقسام اللبنانيين وغياب القرار السياسي حول موضوع انتشار الجيش، وتمظهر هذا الانقسام حول فرضيتين: الأولى أن ما يمتلكه الجيش من عتاد لا يمكنه من رد الاعتداءات الإسرائيلية وأن القرار يعتبر استهدافا لـ”حزب الله”، والثانية أن القرار يتيح بسط سلطة الدولة ويعزز دورها في الجنوب.
تم اختزال القرار 1701 في بند وحيد وهو وقف الأعمال العدائية بين الطرفين
• اعتماد مجلس الأمن على قوات “اليونيفيل” والجيش اللبناني لتنفيذ القرار في حين أنه لم يعط أيا منهما دورا رادعا للانتهاكات، ولم يحظ الجيش اللبناني بالدعم التسليحي واللوجستي للقيام بواجبه في تنفيذ القرار وحماية الحدود. فتحول القرار إلى نوع من الهدنة المؤقتة على جانبي الحدود، وهي هدنة سياسية وليست عسكرية بقيت خاضعة للظروف الإقليمية والصراعات الدولية.
• تم اختزال القرار 1701 في بند وحيد وهو وقف الأعمال العدائية بين الطرفين، وتم غض النظر عن تطبيق قرارين ارتكز عليهما القرار في الفقرة الثامنة (البند الثالث) وهما 1559 و1680 واللذان يقضيان بنزع سلاح الميليشيات وبسط سلطة الحكومة وممارسة هذه السلطة على جميع الأراضي اللبنانية، في ظل معادلة ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة” التي التزمت بها الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ “الطائف”، مما أوجد واقعا إشكاليا في دور الجيش اللبناني حيال تطبيق القرارين المذكورين، بالإضافة إلى واقع إشكالي إضافي تمثل بالنظرة غير المطمئنة إلى دور قوات الطوارئ الدولية واتهامها بأنها تلعب دور الشرطي لصالح إسرائيل، وترجمت هذه النظرة بأكثر من احتكاك بين الأهالي وبعض دوريات “اليونيفيل” في أكثر من قرية جنوب الليطاني منذ بدء تنفيذ القرار الأممي.
• تزامن تطبيق القرار مع أحداث أمنية استدعت تدخلا مباشرا من الجيش اللبناني ومنها التوترات الأمنية على خلفية الانقسامات السياسية بين فريقي 8 و14 مارس/آذار، والحرب ضد الجماعات الأصولية المتطرفة في جرود عرسال والتي قام الجيش في نتيجتها بنشر 4000 عنصر على الحدود اللبنانية-السورية التي تمتد على مسافة 375 كلم والتي تحتاج لضطبها إلى 75 ألف جندي وفق معادلة تقضي بأن تغطية كل كيلومتر تحتاج إلى 200 جندي، بينما العدد الكلي للجيش يبلغ 80 ألفا على كل الأراضي اللبنانية. بالإضافة إلى تأمين الحدود البريّة والبحريّة، والحفاظ على السلم الأهلي وخصوصا بعد الحرب السورية ونزوح أكثر من مليوني سوري إلى لبنان. وهذا الأمر أدى إلى تقليص وجود الجيش اللبناني في الجنوب على اعتبار أن هذه الساحة كانت تشهد استقرارا أكثر من المناطق اللبنانية الأخرى.
قوات حفظ السلام الإسبانية التابعة لقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) تنسّق دوريتها مع الجيش اللبناني في مرجعيون بجنوب لبنان في 8 أكتوبر
فرص تعديل القرار 1701
لا يبدو أن هناك حاجة للتعديل، لأن القرار نفسه يتضمن إطارا تنفيذيا لإنهاء الحرب وبسط سلطة الدولة اللبنانية وتطبيق القرارين 1559 و1680 بعد وضع مقترحات لتنفيذ أحكامهما، لكن العبرة كانت في تطبيق مندرجاته خصوصا أنه لم يستتبع بآلية ملزمة لجميع الأطراف. فلا المنطقة الفاصلة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، والتي تمتد على مسافة 30 كلم، خلت من مقاتلي “حزب الله”، ولا القوات الإسرائيلية أوقفت خروقاتها الجوية والبرية والبحرية للبنان، كما لم تعالج مسألة مزارع شبعا التي أوكل القرار إلى الأمين العام للأمم المتحدة وضع مقترحات لحلها ورفعها إلى المجلس في غضون 30 يوما من صدور القرار. جل ما حصل هو استقرار مقبول على طرفي الحدود.
لم تشهد القدرة القتالية للجيش أي تطور نوعي يؤهله القيام بمهام خارج نطاق حفظ الأمن
تعديل القرار يضعنا أمام قرار جديد، وأي قرار أممي جديد يندرج في إطار المعاهدات الدولية التي تتطلب وجود رئيس للجمهورية للتوقيع عليه ليصبح ساري المفعول، وهي من الصلاحيات القليلة المتبقية في يد رئيس الجمهورية بعد “الطائف”. من هنا نفهم الحراك الخارجي والداخلي باتجاه أولوية انتخاب رئيس للجمهورية بعدما كان هذا الأمر شأنا داخليا متعثرا بسبب الخلافات السياسية بين الفرقاء وعدم توافقهم على مرشح توافقي.
إن أي تعديل للقرار يجب أن تؤمن له التغطية اللازمة في مجلس الأمن للحؤول دون تعرضه للنقض، وهذه التغطية تبدو غير متوافرة حتى الآن إن لم نقل مستحيلة، أقله بسبب انعدام الاتصالات المعلنة بهذا الشأن بين أعضاء المجلس، وبسبب العلاقات الدولية المتوترة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، والتوتر الذي تشهده أيضا العلاقات الأميركية-الصينية.
وبالتالي، فإن جزءا من الحل الذي يمكن لمجلس الأمن تقديمه، هو تعزيز صلاحيات قوات الطوارئ الدولية وتوسيع نطاق نشاطها، لكي لا تبقى هذه الأخيرة، وبنظر شريحة من المجتمع اللبناني، شرطيا منحازا لحدود إسرائيل الشمالية وحفظ أمنها.
محاولات انتشار الجيش في السابق
عندما انتشر الجيش اللبناني في الجنوب عام 2006 بموجب القرار 1701 كان ينهي فترة غياب عن تلك المنطقة امتدت نحو 30 عاما. وكانت الدولة اللبنانية في عام 2000، أي بعد التحرير وانسحاب القوات الإسرائيلية، أمام فرصة تاريخية لبسط سيطرتها على الجنوب وتقليص فترة غيابها عنه، لكن التوازنات الإقليمية والوجود السوري في لبنان حالا دون اتخاذ الحكومة مثل هذا القرار.
في تلك الفترة لم تشهد القدرة القتالية للجيش أي تطور نوعي يؤهله القيام بمهام خارج نطاق حفظ الأمن، ومُنع عنه التسليح، وكأن هذا الدور كان مرسوما وفق تسوية إقليمية كانت سوريا هي اللاعب الرئيس فيها. وكان من الطبيعي أن لا يكون جاهزا للانتشار في الجنوب عام 2000 في ظل غياب القرار الرسمي بذلك.
مستلزمات تعزيز انتشار الجيش جنوبا
يستطيع الجيش اللبناني حاليا إرسال 8 آلاف جندي إضافي لتطبيق القرار 1701؟ الجواب مرهون بعدة شروط:
الأول: اتخاذ الحكومة اللبنانية قرارا بفتح باب التطوع في المؤسسات العسكرية والأمنية (جيش وقوى أمن وأمن عام) التي تعاني من نقص في العديد يحول دون تكليفها بمهام أمنية في الداخل فيما لو قررت قيادة الجيش تركيز الجهد على الحدود وفق ما يتطلبه تطبيق القرار 1701. وقد سبق لقائد الجيش العماد جوزف عون أن أعد خطة لتعزيز قدرات الجيش وعرضها خلال زياراته لقادة الجيوش في الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا، تتضمن هذه الخطة تعزيز انتشار الجيش في الجنوب وتزويده بالعتاد اللازم. وعرض عون الخطة أيضا على الحكومة اللبنانية فأقرتها في مرحلتها الأولى التي تنص على تطويع 1500 جندي من أصل 6000 تضمنتهم الخطة الشاملة لقائد الجيش، على أن تليها مراحل أخرى. لكن المرحلة الأولى لم تنفذ بسبب عدم توافر التمويل اللازم.
أدت الحرب الدائرة حاليا إلى نزوح نحو مليون ومئتي ألف مواطن من قرى الجنوب والبقاع والضاحية بحسب إحصاءات لجنة الطوارئ اللبنانية، بالإضافة إلى ما لا يقل عن مليون نازح سوري
ومن المعروف أن الجيش، بسبب توقف سياسة التطويع، والإحالة على التقاعد، والوفاة، وبعض حالات الفرار نتيجة الأزمة الاقتصادية، قد خسر جزءا من جهوزيته البشرية، مما يجعل من فتح باب التطوع أولوية تتقدم على ما عداها، ويمنحها تطبيق القرار 1701 أولوية إضافية.
الشرط الثاني هو تأمين الدعم المالي واللوجستي والتسليحي للجيش، وهو ما لا تستطيعه الحكومة اللبنانية بسبب الأزمة الاقتصادية الراهنة، ويعول في ذلك على الدعم الخارجي الذي يجب أن يرافق ترتيبات تطبيق القرا 1701 لأن موازنة الجيش السنوية الحالية تبلغ المليار دولار فقط، وهي تقتصر على الرواتب والطبابة والتغذية وبعض أعمال الصيانة في حدها الأدنى، وهذه الموازنة تكفي فقط لتطويع 6000 جندي.
الشرط الثالث: تمكين قوات الأمم المتحدة لتصبح لديها القدرة على القيام بمهامها المنصوص عليها بموجب القرار 1701، حيث طلب من الأمين العام أن ينفذ بشكل عاجل تدابير تكفل لـ”اليونيفل” هذه القدرة، كما طلب منه حث الدول الأعضاء على الاستجابة الإيجابية لما تطلبه القوات الدولية من مساعدة، وذلك لكي تتمكن من تنفيذ البند المتعلق بمساعدة القوات المسلحة اللبنانية على اتخاذ خطوات ترمي إلى إنشاء المنطقة الخالية من المسلحين والأسلحة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، فالجيش اللبناني وحده لن يستطيع القيام بهذه المهمة بمفرده من دون تغطية دولية.
الشرط الرابع: تأمين الضمانات الدولية لقوات “اليونيفيل” والجيش اللبناني أثناء قيامهما بدورهما، فقد أثبتت التطورات الأخيرة في جنوب لبنان أن الطرفين كانا عرضة للاستهداف الإسرائيلي، في ظل عدم امتلاكهما أسلحة متطورة قادرة على حماية مواقعهما وضبط الأمن في المنطقة.
جنود من الجيش اللبناني يتفقدون سيارة متضررة مكتوب عليها “صحافة” في موقع غارة إسرائيلية أسفرت عن مقتل عدد من الصحفيين، في حاصبيا في جنوب لبنان، 25 أكتوبر
الشرط الخامس: تعزيز الاستقرار السياسي الداخلي الذي ازداد شرخا بعد دخول “حزب الله” في الحرب دعما لغزة. فالخلافات السياسية بين اللبنانيين كانت قائمة أساسا قبل ذلك حول الخيارات الاستراتيجية للبنان وعلاقاته مع الدول الأخرى، وحول الاستحقاقات الداخلية، وفي مقدمتها استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وأدت الحرب الدائرة حاليا إلى نزوح نحو مليون ومئتي ألف مواطن من قرى الجنوب والبقاع والضاحية بحسب إحصاءات لجنة الطوارئ اللبنانية، بالإضافة إلى ما لا يقل عن مليون نازح سوري. وفي ظل التشنج السياسي الحاصل تصبح مناطق الإيواء بحاجة إلى تغطية أمنية لمنع حصول إشكالات وتوترات، مما يحول دون تخفيف الحضور العسكري لوحدات الجيش في الداخل في ظل التجاذبات السياسية الحاصلة، ووجود أكثر من مليوني نازح سوري.