إسرائيل تأسست بقرار أممي… فلماذا “تحارب” المنظمة الدولية؟

تنفرد إسرائيل بعلاقة استثنائية مع الأمم المتحدة، فقد أُسِّست بقرار من المنظمة الدولية، وفي الوقت نفسه فإنها أكثر الدول الأعضاء انتهاكا لقراراتها. وعلى الرغم من هذا السجل وتعرضها للتنديد مرات لا تعد ولا تحصى، فإن الأمم المتحدة أبدت تسامحا نادرا لم تحظَ به أي دولة عضو أخرى.

الجمعية العامة للأمم المتحدة أنشأت إسرائيل بقرارها181لعام 1947، عندما قررت تقسيم فلسطين تحت الانتداب إلى دولة عربية وأخرى يهودية. ومن دون هذا القرار لما قبل المجتمع الدولي دولة إسرائيل. ومع ذلك، نرى تجاهل إسرائيل هذه الحقيقة التي يقرها الجميع دوليا، إلى درجة أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اعترض مؤخرا بشكل سافر على هذه الحقيقة.

وأقر الكنيست بالأغلبية مشروع قانون يحظر أنشطة المنظمة الأممية لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا“، على أن يدخل القرار حيز التنفيذ بعد تسعين يوما، في تحد واضح للمجتمع الدولي.

إسرائيل سجلت الرقم القياسي في تحدي قرارات الأمم المتحدة، سواء كانت صادرة عن مجلس الأمن، أو الجمعية العامة وهيئاتها الفرعية، أو محكمة العدل الدولية، أو وكالات الأمم المتحدة المتخصصة. ولعل من الأمثلة الجلية الأولى على ذلك تجاهل إسرائيل لقرار الجمعية العامة رقم 194 لعام 1949 الذي تقرر فيه “وجوب السماح بالعودة في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم، والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب وفقاً لمبادئ القانون أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة”. وعلى الرغم من مرور خمسة وسبعين عاما على صدور القرار، لم تتخذ إسرائيل أي خطوة للامتثال لهذا القرار.

كما أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي استهدفت عمدا قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ففي عام 1996، هاجمت قواتها مواقع لقوات حفظ السلام “اليونيفيل” في قرية قانا جنوبي لبنان، والآن أثناء غزوها لجنوب لبنان تهاجمها بشكل مباشر ومتكرر في مواقع مختلفة.

 

إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي استهدفت عمدا قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة

 

 

إضافة إلى ذلك فإن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي اتخذت خطوات لتصنيف هيئة تابعة للأمم المتحدة كمنظمة إرهابية. ففي يوليو/تموز الماضي، وافق البرلمان الإسرائيلي بشكل مبدئي على مشروع قانون،الذي أقره الاثنين بهدف تصنيف أونروا كمنظمة إرهابية. وقد أُنشئت “الأونروا” عام 1949 من قبل الجمعية العامة لتنفيذ برامج الإغاثة المباشرة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، ولها الفضل في ارتفاع مستوى التعليم بين الفلسطينيين بحيث أصبح الأعلى في العالم العربي.

انتهكت إسرائيل أيضا، أكثر من أي دولة أخرى، عشرات المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وخاصة المتعلقة بالقانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان. وتشهد على ذلك القرارات التي لا تُحصى الصادرة عن الهيئات الدولية، بالإضافة إلى تقارير المقررين الخاصين للأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية والدولية التي تتعامل مع الوضع في الأراضي المحتلة.

 

د.ب.أ د.ب.أ

شاحنة مساعدات تابعة لـ”الأونروا” تنتظر الدخول إلى قطاع غزة من معبر رفح في 19 نوفمبر، 2023 

وأخيرا، فإن إسرائيل هي الدولة الأولى والوحيدة التي تحاكَم أمام محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، حيث اتهمتها جنوب أفريقيا، ومعها عدة دول أخرى، بارتكاب جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة. وقد وجدت المحكمة أدلة معقولة تستدعي النظر في هذه الاتهامات، وأصدرت مرتين “إجراءات احتياطية”، بموجبهما “طالبت إسرائيل باتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع الأفعال التي تنتهك اتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948، وفرضت عليها ضمان توفير الإمدادات الغذائية الأساسية على الفور”، حيث يواجه سكان غزة “المجاعة وسوء التغذية”.

ومؤخرا، وصل ازدراء إسرائيل للأمم المتحدة إلى مستوى غير مسبوق حين أعلنت، دون أي مبرر، أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، شخص غير مرغوب فيه. وكان ذلك فقط لأنه قام بأبسط واجباته كرئيس للمنظمة الدولية التي أُنشئت لتعبر عن الضمير العالمي.

 

تحدي إسرائيل للأمم المتحدة قديم جدا. وكانت أول مواجهة لي مع تجاهل إسرائيل الصريح لإرادة المجتمع الدولي في عام 1978

 

 

إن إمعان إسرائيل في تحدي الأمم المتحدة بدأ منذ زمن بعيد . فكان لي الفرصة أن ألمس ذلك بشكل شخصي ومباشر عام 1978، عندما كنت دبلوماسيا شابا في البعثة المصرية لدى الأمم المتحدة في نيويورك. شهدت ذلك بنفسي من خلال تصرفات المندوب الدائم لإسرائيل في ذلك الوقت، حاييم هرتسوغ (الرئيس الإسرائيلي السابق ووالد الرئيس الحالي)، الذي، على الرغم من مظهره الدبلوماسي المهذب، كان يدخل قاعة الجمعية العامة حاملاً مجموعة من الصحف، ويتعمد قراءتها بشكل سافر أمام المندوبين ليظهر عدم اكتراث لما يقولونه عن بلاده. في ذلك الوقت، كانت قلة قليلة من الدول الغربية تدافع عن إسرائيل.

ثم جاء خليفة هرتسوغ، يهودا بلوم- أستاذ القانون الدولي المرموق- لينقل تحدي إسرائيل للأمم المتحدة إلى مستوى أعلى، فعندما كانت إسرائيل تتعرض لانتقادات واسعة ومستمرة في مجلس الأمن بسبب خرقها للقانون الدولي وانتهاكها لكثير من قرارات الأمم المتحدة، لم يجد بلوم وسيلة للدفاع سوى مهاجمة الدول المنتقدة في قضايا لا صلة لها بالموضوع المعروض أمام المجلس. ولم يسلم من تدخلاته اللاذعة سوى الولايات المتحدة وقلة قليلة من الأعضاء الآخرين.

ومنذ ذلك الحين، تصاعد تحدي إسرائيل للأمم المتحدة بشكل ملحوظ، إلى أن وصل في السنة المنصرمة إلى مستويات غير مسبوقة، بدءا من ممارساتها في غزة والضفة الغربية، ووصولا إلى لبنان، حيث انتهكت إسرائيل مبادئ وقواعد القانون الدولي، بما في ذلك القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان، إلى درجة أن حتى أقربَ حلفائها لم يكن أمامه سوى الاعتراف بسجلها المخزي. ففي سبتمبر/أيلول الماضي، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة، في دورتها الاستثنائية الطارئة العاشرة، قرارا بأغلبية ساحقة بشأن الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية في يوليو/تموز، الذي نص على أن استمرار وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية “غير قانوني”، وأن “على جميع الدول عدم الاعتراف” بالاحتلال الذي استمر لعقود. كما دعا القرار إسرائيل إلى الامتثال للقانون الدولي وسحب قواتها العسكرية فورا ووقف جميع أنشطة الاستيطان الجديدة وإجلاء المستوطنين من الأراضي المحتلة وتفكيك أجزاء من الجدار العازل الذي شيدته داخل الضفة الغربية المحتلة.

وعلاوة على ذلك، طالب القرار إسرائيل بإعادة الأراضي والممتلكات غير المنقولة، فضلا عن جميع الأصول التي استولت عليها منذ بداية الاحتلال عام 1967، بما في ذلك الممتلكات الثقافية والأصول التي جرى الاستيلاء عليها من الفلسطينيين والمؤسسات الفلسطينية. كما نص القرار على ضرورة السماح لجميع الفلسطينيين الذين نزحوا بسبب الاحتلال بالعودة إلى ديارهم الأصلية، وتعويضهم عن الأضرار التي نجمت عن الاحتلال الإسرائيلي.

ولعل النجاح الوحيد الذي حققته إسرائيل في الأمم المتحدة كان عام 1991، حين تمكنت من إقناع الجمعية العامة بإلغاء قرارها الصادر في عام 1975، الذي اعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز العنصري. والحقيقة أن ذلك النجاح لاسرائيل تحقق في ظل ظروف مختلفة تماما، وكان الهدف منه تشجيع إسرائيل على التعاون بشكل أفضل مع الأمم المتحدة، وهو ما لم يتحقق، بل على العكس تماماً شهدنا تصاعدا في تحدي إسرائيل للمجتمع الدولي.

 

إذا كانت الجمعية العامة قد علقت عضوية جنوب أفريقيا في عام 1974 بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان وزعزعتها للاستقرار في منطقتها، فكيف يمكنها الصمت تجاه إسرائيل التي ترتكب الانتهاكات نفسها

 

 

لقد أظهر المجتمع الدولي، ممثلا في الأمم المتحدة، قدرا كبيرا من الصبر والتساهل تجاه إسرائيل، على الرغم عن انتهاكاتها المستمرة والصارخة لقراراتها… ولم يعد بإمكان الأمم المتحدة أن تقف مكتوفة الأيدي، خاصة بعد أن أثبتت إسرائيل، مرة تلو مرة وبشكل سافر، تصميمها على الاستمرار في انتهاك القانون الدولي، ولا سيما القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان. فلم يعد إصدار قرارات دون تأثير فعلي مقبولا، وحان الوقت لإتخاذ موقف حازم لردع إسرائيل وحملها على احترام الشرعية الدولية، لأن الفشل في اتخاذ إجراءات ملموسة سيؤدي إلى تقويض مصداقية الأمم المتحدة وتهديد المبادئ التي تأسست عليها، وفي مقدمتها احترام حقوق الإنسان الأساسية.

للأسف، السياسات والمواقف الإسرائيلية الأخيرة، وتصريحات ممثليها في الأمم المتحدة، تظهر بجلاء أن إسرائيل تتمادى في عدم الاحترام لهذه المنظمة الدولية المعنية بالأمن والسلم الدوليين واحترام حقوق الإنسان، الأمر الذي يطرح مسألة مدى استحقاق إسرائيل بالاستمرار في شغل مقعدها بالجمعية العامة الجهاز الأوسع تمثيلا في الأمم المتحدة.

ولن تكون المرة الأولى التي تُحرم فيها دولة عضو من المشاركة في أعمال الجمعية العامة بسبب انتهاكاتها الصارخة لقرارات الأمم المتحدة. ففي عام 1974، أصدرت الجمعية العامة القرار 3181 الذي علّقت بموجبه مشاركة جنوب أفريقيا في أعمال الجمعية العامة- الذي أدى فعليا إلى حرمانها من ممارسة عضويتها- بسبب ليس فقط سياسات الفصل العنصري التي اعتبرتها الجمعية العامة انتهاكا جوهريا لحقوق الإنسان، وإنما أيضا لسياساتها في ناميبيا وروديسيا التي اعتبرت أن لها تداعيات سلبية على الاستقرار الإقليمي. ولم تستعد جنوب أفريقيا مقعدها ومن ثم المشاركة في أنشطة الأمم المتحدة إلا بعد انتهاء نظام الفصل العنصري عام 1994.

وإذا كانت الجمعية العامة قد علقت عضوية جنوب أفريقيا في عام 1974 بسبب انتهاكاتها لحقوق الإنسان وزعزعتها للاستقرار في منطقتها، فكيف يمكنها الصمت تجاه إسرائيل التي ترتكب الانتهاكات نفسها، ولكن على نطاق أوسع؟

إن استخدام القوة المفرطة، والاستهتار بالمعايير الدولية بالنسبة لممارسة حق الدفاع عن النفس مثل الضرورة والتناسب والفورية؛ والتجاهل الكامل لأرواح المدنيين، وتدمير غزة، ومصادرة الأراضي، وتفجير المنازل، واستخدام القوة الغاشمة وتمكين المستوطنين من ترهيب سكان الضفة الغربية، وتدمير قرى بأكملها في لبنان كما حدث في محيبيب، وحرمان سكان غزة من الغذاء الكافي، وقصف المستشفيات والمدارس، وتشريد الفلسطينيين واللبنانيين مرارا، واستخدام الفلسطينيين كدروع بشرية، كما وثقت مؤخرا صحيفة “نيويورك تايمز”، والقائمة تطول… وجميعها أمثلة على الفظائع والجرائم ضد الإنسانية التي تمعن إسرائيل في ارتكابها.

ومن المؤكد أن كثيرا من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة فكرت بجدية في هذا الخيار، لكن ما يمنعها هو الخشية من أن تحجب الولايات المتحدة، تحت ضغط الكونغرس، مساهماتها المالية في ميزانية الأمم المتحدة. بيد أن إسرائيل لا تضرب بعرض الحائط فقط قرارات الأمم المتحدة وتخرق أحكام القانون الدولي، بل يبدو أنها تنتهك أيضا القانون الأميركي، وذلك وفقا لما ورد في رسالة وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين المؤرخة في 13 أكتوبر/تشرين الأول التي لوّحت بأن الولايات المتحدة ستضطر إلى تطبيق القوانين الذي أقرها الكونغرس وستتوقف عن تزويد إسرائيل بالأسلحة إذا لم تلتزم الأخيرة بالسماح بدخول مساعدات إنسانية كافية إلى غزة خلال 30 يوما.

ومع ذلك فإن تعليق نشاط إسرائيل في أنشطة الجمعية العامة لن يكون كافيا بمفردة لإجبار إسرائيل على تعديل سياساتها التي تتحدى الشرعية الدولية، ومن ثم على المجتمع الدولي اتخاذ خطوات إضافية لتحقيق هذا الهدف.

 

إ.ب.أ إ.ب.أ

نتنياهو يحضر جلسة تصويت على مشروع قانون الإصلاح القضائي في الكنيست، في القدس. 22 مارس 2023 

ومن أهم تلك الإجراءات، يجب وقف تزويد إسرائيل بالأسلحة بشكل كامل، وهو ما اتخذته بالفعل بعض الدول الأوروبية وأعلنت أخرى عن نيتها القيام بذلك.

وما لم تُتَّخذ مثل هذه الإجراءات، فلن يتراجع نتنياهو عن خطته في إعادة تشكيل الشرق الأوسط، بهدف السيطرة الكاملة على المنطقة. وهذا لا يعني سوى إحياء الاستعمار الذي كان سائدا في القرن العشرين، حيث كانت القوى الاستعمارية تفرض إرادتها من خلال الجمع بين القوة العسكرية والتفوق التكنولوجي، ولكن هذه المرة في القرن الحادي والعشرين.

غير أن هذه الخطة محكوم عليها بالفشل، كما فشل الاستعمار في نهاية المطاف، لكنها ستؤدي إلى إطالة أمد العنف وعدم الاستقرار الذي طالما عانت منه المنطقة لعقود.

 

مصداقية الأمم المتحدة، بصفتها حارسة للقانون الدولي،والمنظومة الدولية التي هي جزء منها تعتمد بشكل أساسي على التزام الدول الأعضاء بقراراتها

 

 

السبيل الوحيد لتتمكن إسرائيل من العيش بسلام في الشرق الأوسط، هو أن تصل إلى قناعة بأنها جزء من منطقة ذات تاريخ وتقاليد عميقة، وأن تتخلى عن حلمها غير الواقعي والخطير بإعادة تشكيل المنطقة وفق رؤيتها الخاصة.

وعلي إسرائيل أيضا أن تدرك أن السلام لا يمكن تحقيقه بقوة السلاح، وأن تعترف بأن السلام الدائم لا يقوم إلا على العدل، وأن العدل لا يمكن أن يتحقق طالما استمر الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.

لقد حان الوقت لأن تلتزم الأمم المتحدة بشكل عملي وملموس بالأسس التي أنشئت عليها، ولا سيما المبدأ الذي تنص عليه ديباجة ميثاقها… “وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي”.

ختاما، تعتمد مصداقية الأمم المتحدة، باعتبارها حارسة للقانون الدولي والنظام العالمي، على التزام الدول الأعضاء بتنفيذ قراراتها، فإذا ما سُمِح لإسرائيل بالاستمرار في انتهاك هذه القرارات، فإن ذلك سيلحق ضررا بليغا ليس فقط بالمنظمة، وإنما بالنظام الدولي بأكمله.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M