صدام أميركي – سوري في لبنان… ومبعوث ريغان يطلب لقاء رفعت الأسد بعد مرض “السيد الرئيس” (7 من 8)

بعدما نشرنا في “المجلة”، في الحلقات السابقة تفاصيل علاقة الأسد بالخميني وتأسيس “حزب الله” وتمسك “الشيخ بشير” بخروج “أبو عمار” واستسلامه، وشروط واشنطن في لبنان بالتزامن مع المفاوضات حول اتفاق “17 مايو”، وزيارة مبعوث ريغان السري إلى دمشق وقلق واشنطن من صواريخ “سام-5″، وتفجير “المارينز” عشية حوار جنيف اللبناني، تتناول الحلقة السابعة تدخل ريغان في “صراع الأسدين”:

1- الحلقة الأولى: “أبو نضال” يوفر “ذريعة” الاجتياح… وإيران تؤسس “حزب الله” بمظلة سورية

2- الحلقة الثانية: رسالة من بيغن إلى الأسد: لا نريد قتالكم في لبنان… ويجب إبعاد الفلسطينيين

3- الحلقة الثالثة: إسرائيل تحاصر بيروت… وعرفات “جن جنونه” قبل أن يستسلم

4- الحلقة الرابعة: أميركا تطلق “الخفاش الأزرق” في لبنان… وتطالب الأسد بطرد “مجانين إيران”

5- الحلقة الخامسة: شولتز يخيّر الأسد بين “اتفاق 17 مايو” و”احتلال إسرائيلي دائم”… ودمشق تلوّح بقصف مطار بيروت

6- الحلقة السادسة: تفجير “المارينز” قبل حوار جنيف اللبناني… وأميركا تتهم إيران بالعمل “خلف خطوط” سوريا

لندن- حاول الرئيس رونالد ريغان احتواء الأزمة مع الرئيس حافظ الأسد بعد تفجير “المارينز” والقصف، وأرسل مبعوثه الخاص دونالد رامسفيلد إلى دمشق في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 1983. كان رامسفيلد وزيرا سابقا للدفاع في عهد الرئيس جيرالد فورد، قبل أن يعود إلى المنصب نفسه في عهد الرئيس جورج بوش الابن ويكون أحد المخططين الرئيسين لغزو العراق والإطاحة بحكم صدام حسين سنة 2003. التقى رامسفيلد في دمشق بداية بوزير الخارجية عبدالحليم خدام، الذي افتتح الحوار بالقول: “كل يوم يوجد تصريح لمسؤول أميركي، لقد دخلنا في البرنامج اليومي الأميركي”، ثم دار هذا الحوار:

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

جنود مشاة البحرية الأميركية يقفون حراسا، في موقع عسكري بالقرب من مطار بيروت، في 23 أكتوبر 1983، بعد هجوم على مقر مشاة البحرية الأميركية في بيروت 

رامسفيلد: أنا بالتأكيد أوافق على بقاء خطوط الاتصالات مفتوحة بين دمشق وواشنطن ويمكن لعلاقاتنا أن تكون أفضل. لن أجهد نفسي لشرح الموقف الأميركي، فمن الواضح أن رئيس أميركا يريد التوصل لحل بالنسبة للبنان. نريد لبنان سيدا مستقلا وأن تنسحب جميع القوات الأجنبية من أراضيه.

خدام: الرئيس (الأسد) كان يرغب في أن يراك، ودون شك يسره أن يستقبلك في المرات القادمة. لم تسمح له الظروف الصحية أن يفعل ذلك الآن. حول وجوب انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي اللبنانية دون تحقيق أي مكسب نتيجة لغزوها لبنان، لا سيما وأن الوجود الإسرائيلي المباشر أو غير المباشر يهدد لبنان كما يهدد أمننا ومصالحنا.

رامسفيلد: ماذا يمكن لسوريا أن تفعل أكثر لتحسين الوضع الأمني في لبنان؟ هناك لا زال تسلل من الجنوب، وفي بيروت استمرار للإرهاب. هناك شعور في المنطقة وفي الولايات المتحدة بأن هذا الإرهاب لا يتم دون إذن من سوريا، وتسامح منها. هل هناك المزيد من الأعمال التي يمكنكم القيام بها لمنع هذه الأعمال الإرهابية؟

 

مشكلتنا مع الأميركيين أنهم رغم اتصالاتنا المتعددة معهم حتى الآن لا يعرفون سوريا. الحكومة السورية دولة مستقلة، والسوريون أكثر الناس فخرا باستقلالهم والمحافظة عليه

 

عبد الحليم خدام

خدام: دعنا نناقش الأمر بشكل منطقي وواقعي، بعيدا عن الحملة الإعلامية التي تشن ضد سوريا. ما هي مصلحة سوريا في الإرهاب؟ سوريا أكثر بلد تعرض للإرهاب، ويعرف السفير الأميركي في دمشق (روبرت باغانيللي) أن انفجار سيارة واحدة أدت إلى مقتل 500 شخص (في إشارة إلى أعمال العنف التي كانت تقوم بها جماعة الإخوان المسلمين مطلع الثمانينات). هناك المئات من السوريين قتلوا في حوادث إرهابية في سوريا. لماذا لم تستطع سوريا اكتشاف هذه الأعمال قبل وقوعها؟ لو كان بإمكانها الاكتشاف لمنعناها. إذا كان الإرهاب قد مورس في العاصمة دمشق فكيف يمكن تحميل سوريا مسؤولية أعمال في مناطق لا وجود لسوريا فيها؟ ولماذا يفترض أن سوريا تأذن بذلك وأن هذه الأعمال لا تتم إلا بموافقتها؟ ما هو المنطق؟ إذا كان المنطق لشن حملات إعلامية ضد سوريا فهذا شيء آخر، التسلل لا يستطيع أحد أن يسيطر عليه. نحن بلد قوي ونظامنا الأمني متماسك ومع ذلك تم تسلل آلاف القطع من الأسلحة إلى سوريا وارتكبت بها أعمال تخريبية.

في مدينة حماة وضعت السلطات أيديها على عشرات الأطنان من المتفجرات، وعلى أسلحة مهربة إلى سوريا… أكثر من عشرة آلاف قطعة ومن مختلف أنواع الأسلحة تسللت عبر الحدود من لبنان، ومن العراق، ومن الأردن. تم التسلل إلى بلد ذي نظام أمني متماسك، فكيف لا نتصور إمكانية التسلل إلى مناطق فيها ما نرى من انقسام وفوضى وقتال؟ سوريا بلد يتصرف بمسؤولية، وصحيح أن العلاقات ليست حسنة بين سوريا وأميركا، ولكن لا يمكن أن نوافق على مثل ما تم ضد مشاة البحرية. نريدكم بصراحة أن تخرجوا من لبنان ونريد لسفنكم أن تذهب والطريق الوحيد لخروجكم هو إنجاح الحوار الوطني في لبنان. لسنا أطفالا حتى نتصرف بشكل غير مسؤول.

رامسفيلد: ذكرتم مرتين الحملة الإعلامية، وكنت قرأت افتتاحية في جريدة “البعث” (الناطقة باسم الحزب الحاكم) حول الهدف المزعوم لجولتي في الشرق الأوسط. أنا لست هنا لأخوض حملة إعلامية وأظن أن عددا من الأسباب التي تجعل جيرانكم والولايات المتحدة يشعرون بأن جزءا من الأعمال الإرهابية تتسامحون بها هي علاقاتكم مع إيران وليبيا والاتحاد السوفياتي. هذه الدول يعتقد أنها تتورط في هذه الأعمال. أوافق معكم تماما أنه ليس بوسع أي دولة أن تربط الإرهاب كليا، حتى في أميركا فمنذ سنتين أطلق النار على رئيس الولايات المتحدة (محاولة اغتيال الرئيس ريغان في 30 مارس/آذار 1981). لا أريد أن أوحي بأنني ساذج بالنسبة لعمليات الإرهاب… ودائما نجد مجنونا يقوم بفعل ما ضد مصالح شخص آخر. أوافق أن الشيء المرغوب فيه هو أن نواصل العمل لإيجاد جو ناجح في لبنان.

خدام: إن مشكلتنا مع الأميركيين أنهم رغم اتصالاتنا المتعددة معهم حتى الآن لا يعرفون سوريا. الحكومة السورية دولة مستقلة، والسوريون أكثر الناس فخرا باستقلالهم والمحافظة عليه. لنا علاقات جيدة مع الاتحاد السوفياتي ومن أسباب ذلك الوضع العسكري الإسرائيلي وحجم المساعدات المعطاة من قبلكم لإسرائيل. عندما يقول (إسحاق) شامير إن حدود إسرائيل محددة في التوراة ويتوسع على الأرض، أليس من واجبي البحث عن كافة الوسائل للدفاع عن وطني وتأمين السلاح لذلك؟

 

الولايات المتحدة تساند “اتفاق 17 مايو” ونحن نرفضه، لأنه يتعارض مع التزامات الولايات المتحدة للبنان، ويتعارض مع مصالحنا

 

عبد الحليم خدام

رامسفيلد: لكي لا يكون هناك سوء تفاهم، فإنه من الواضح أن الولايات المتحدة تقر سيادة واستقلال سوريا وحقها في اتخاذ قرارها. إشارتي إلى الاتحاد السوفياتي وليبيا وإيران لا تمس هذا الموضوع، وأتت فقط في الإطار الضيق للإرهاب وليس في إطار علاقات سوريا بشكل أوسع. التقيت منذ أسبوعين الرئيس ريغان والوزير شولتز،وفيالولايات المتحدة يدعمون “اتفاق 17 مايو”. الحكومة اللبنانية تريد من القوات الأجنبية أن تغادر وأنتم قلتم ذلك. لديكم معلومات جيدة عما يجري هناك وهل بإمكانكم إعطائي فكرة عما تحددونه بمصالحكم الأمنية في الشمال أو الشرق أو الجنوب؟

خدام: الولايات المتحدة تساند “اتفاق 17 مايو” ونحن نرفضه لأنه يتعارض مع التزامات الولايات المتحدة للبنان، ويتعارض مع مصالحنا. قلت للسيدين شولتز وماكفرلين إنه يمكن أن نحدد التزاماتنا نحو لبنان، نحن وأنتم، فهل نحن متفقون على وحدة وسيادة واستقلال لبنان؟ إذا كنا متفقين نضع الاتفاقية أمامنا ونشطب منها كل ما يتعارض مع ذلك. المشكلة الأمنية التي تقلقنا هي الوجود الإسرائيلي في لبنان.

رامسفيلد: الافتراض هو أن يخرج الإسرائيليون؟

خدام: نعم، وكليا.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الرئيس اللبناني المنتخب الراحل بشير الجميل، في أواخر السبعينيات 

رامسفيلد: ما يهمني هو معرفة ما إذا كانت سوريا ستسمح للحكومة اللبنانية أن تختار من تشاء وتفعل ما تشاء؟ يبدو لي أن أحد الأمور غير المرغوب فيها هو بقاء القوات الأجنبية لمدة أطول، وإذا كانت هناك ذراع مكسورة ولم تجبر فكل العضلات والعروق تنمو بشكل غير صحيح، وهذه العاهة تبقى دائما ويبدو أن الطريق المضمون كي يبقى لبنان مع ذراعيه المكسورتين هو تأخير خروج القوات الأجنبية.

خدام: هل يتصور أحد أن ننسحب نحن ونترك إسرائيل على مسافة 23 كيلومترا من عاصمتنا؟ إننا موافقون على القول إن الأفضلية الأولى هي لمصالح لبنان الأمنية وما تقرره الدولة اللبنانية. أما أن يصادر لبنان ويعطى لإسرائيل، فلا.

رامسفيلد: لا أحد يقول ذلك.

خدام: “اتفاقية 17 مايو” تقول ذلك… أرجو أن تقرأ الاتفاقية بإمعان فتدرك مخاوف سوريا وكثير من اللبنانيين.

رامسفيلد: أنا عائد إلى الرئيس ريغان وتقييمي أن دولتين تحتلان أقساما من لبنان. كلتاهما تقول بوجوب الخروج وإحداهما توافق على الخروج. الحكومة اللبنانية تريد خروجهما معا وكلما طال وجودهما فالأرجح أن لا يخرجا.

خدام: أنا لا أوافق على تسمية وجودنا في لبنان احتلالا.

رامسفيلد: إنه وجود…

خدام: لكنه ليس احتلالا.

جاءت زيارة رامسفيلد بعد إصابة الرئيس حافظ الأسد بعارض صحي في القلب، مما أوجب دخوله المستشفى وامتناعه عن ممارسة مهامه.

يقول خدام إن السفير الأميركي روبرت باغانيللي جاء للقائه. وقال: “أبلغني بأن الرئيس ريغان يريد إرسال مندوب عنه إلى سوريا ولبنان وهو السيد دونالد رامسفيلد، ونظرا لمرض الرئيس حافظ فإنه سيجتمع بي وبالعقيد رفعت” شقيق الرئيس السوري.

أجابه خدام على الفور وبانفعال: “في سوريا دولة ومؤسسات. وزير الخارجية هو الذي يمثل سوريا، وفي حال إصراركم على لقاء العقيد رفعت فإننا نرفض استقبال السيد رامسفيلد ولن نعطيه تأشيرة دخول إلى الأراضي السورية وإذا حصلتم على اللقاء معي ثم بعد وصول السيد رامسفيلد إلى سوريا اجتمعتم بالعقيد رفعت الأسد فإننا سنضعك أنت والسيد رامسفيلد بسيارة ونلقي بكما في لبنان”.

 

على وقع الخلافات بين دمشق وواشنطن، وقع تطور كبير للأحداث، إذ قام الطيران الأميركي بقصف مواقع سورية في جبل لبنان صباح الرابع من ديسمبر/كانون الأول 1983، ردا على عملية “المارينز”

 

 

يعلق خدام: “اصفرّ وجه السفير (روبرت باغانيللي) وامتعض وقال سأبلغ حكومتي”. وفي اليوم الثاني طلب مقابلة خدام وأبلغه أن قرار واشنطن أن “يجتمع بك فقط، فرحبت عندئذ بزيارة رامسفيلد”.

على وقع هذه الخلافات بين دمشق وواشنطن، وقع تطور كبير للأحداث، إذ قام الطيران الأميركي بقصف مواقع سورية في جبل لبنان صباح الرابع من ديسمبر/كانون الأول 1983، ردا على عملية “المارينز”.

بعد القصف، يقول خدام إنه اجتمع مع العماد حكمت (الشهابي رئيس الأركان) والعميد علي دوبا (مدير المخابرات العسكرية) وناقشنا الموضوع ووصلنا إلى استنتاج بأن عدم الرد سيوسع رقعة العدوان وسيضعف معنويات قواتنا، فقررنا الرد وأعطى العماد حكمت تعليماته لقواتنا باستخدام ما لديهم من أسلحة دفاع جوي ضد الطائرات التي تحلق فوق قواتنا”.

تصدت له المقاومات الأرضية السورية. وتم إسقاط طائرة أميركية وأسر الطيار الأميركي واعتبرت الولايات المتحدة أن تصدي القوات السورية للطيران الأميركي “عملا عدوانيا”. أما تحليق طيرانها فوق القوات السورية وقصفها فاعتبرته “دفاعا عن النفس”.

لقد كانت العملية الأميركية اختبارا لوضع سوريا وردود فعلها خلال مرحلة مرض الرئيس السوري. ويقول خدام: “كان الرد المباشر حاسما وحازما.ولا بد من الإشارة إلى أن الأميركيين راهنوا كثيرا على مرض الرئيس وعلى إمكانية إجراء تغييرات جذرية في سياسة سوريا في حال غيابه عن قيادة البلاد”.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد مع شقيقه الأصغر رفعت الأسد في حفل عسكري في دمشق، عام 1984 

كان رفعت قد تصرف لدى مرض شقيقه حافظ، في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، كأنه ينتظر هذه اللحظة وبدأ العمل بصفته “وريثا شرعيا”، فرأى أنه الخليفة الوحيد، وبدأ في حشد تأييد جنرالاته، ما أثار استياء شديدا لدى الرئيس. وهذا التداخل بين ما يحصل في لبنان والصراع على السلطة في دمشق، كان أمرا مثيرا.

حسم الشقيق الأكبر، حافظ، الصراع وقرر نفي شقيقه الأصغر. وفي 28 مايو/أيار 1984، توجهت طائرة إلى موسكو مليئة بضباط بمن فيهم رفعت. وعاد مؤقتا في حالتين: الأولى عام 1992، بناء على رغبة والدته التي توفيت في ذلك العام. وفي عام 1994، حين عزى شقيقه حافظ عندما توفي نجله باسل. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021 عاد بشكل كامل، بقرار من الرئيس بشار الأسد.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M