ما بين أبريل وأكتوبر.. نتائج الضربة الجوية الإسرائيلية الثانية لإيران

ربما من الجائز عقد مقارنة بين الضربة الجوية الإسرائيلية التي تمت على مدينة أصفهان الإيرانية في أبريل الماضي، وبين الضربة الجوية التي تمت فجر يوم السبت 26 أكتوبر 2024، واستهدفت مواقع في العاصمة طهران ومحيطها. وهي مقارنة تفرضها محاولة تحليل ضربة أمس وما إذا كانت تمثل تغييرًا في قواعد الاشتباك بين الجانبين، أم أنها تعد “استنساخًا” لضربة أبريل. من حيث الشكل، توجد تطابقات عديدة بين كلا الضربتين، سواء من حيث أسلوب التنفيذ او طبيعة الأهداف التي قُصفت، لكن هناك فارقًا أساسيًا يرتبط بعدد الأهداف التي قُصفت؛ ففي ضربة أبريل تم حصرًا تأكيد إصابة مواقع في محيط مدينة أصفهان، وتحديدًا وحدة دفاع جوي بالقرب من القاعدة الجوية التكتيكية الثامنة لسلاح الجو الإيراني.

الأهداف التي تم قصفها في طهران وكرج

هذه الضربة الجوية، التي شاركت فيها نحو مئة مقاتلة اسرائيلية، كانت تحديًا لكل من يهتم بالمجال العسكري، نظرًا لأن البطل الأساسي فيها كان استخبارات المصادر المفتوحة، حيث عكف الجميع على تخمين مواقع القصف المؤكدة، اعتمادًا على التسجيلات المصورة المنشورة، وهو ما أكدت بعضها الصور الجوية التي التقطت خلال الساعات التالية للضربة. تركزت عمليات الاستهداف على المناطق الجنوبية والغربية في طهران، خاصة منطقتي إسلام شهر وشهريار، بجانب مدينة كرج شمال غرب طهران.

بشكل عام، يمكن القول إن الضربات الجوية الإسرائيلية تمت على شكل موجتين إلى ثلاث موجات من القصف، استهدفت الموجة الأولى بشكل أساسي مواقع في جنوب غرب مدينة كرج، وشرق وجنوب وجنوب غرب العاصمة طهران، منها موقع للدفاع الجوي، تشغله كتيبة صواريخ مضادة للطائرات من نوع “هوك” شمال منطقة “إسلام شهر” الواقعة جنوب غرب طهران، وموقع آخر في نفس المنطقة، يقع داخل مجمع “شمس آباد” الصناعي.

يضاف إلى هذه المواقع، موقع “كهرزاك” للدفاع الجوي، الذي توجد به كتيبة صواريخ مضادة للطائرات، ويقع هذا الموقع في منطقة تبعد مسافة قصيرة جدًا عن التخوم الجنوبية لمرقد الخميني جنوب العاصمة طهران، ومقر عسكري يقع في محيط سجن “غزل حصار” الواقع غرب مدينة كرج، ومقر آخر في منطقة “تهران بارس” شرق العاصمة طهران، ومركز لوجستي في منطقة “شهريار” جنوب غرب العاصمة طهران، ومركز قيادة في منطقة “قلعة حسن خان” المطلة على طريق “فتح” السريع غرب العاصمة طهران، ومواقع مرتبطة بالبرنامج الصاروخي في منطقة “بيدخنه” جنوب مدينة كرج.

أما الموجة الثانية فاستهدفت مواقع أبعد قليلًا في شرق وجنوب شرق العاصمة، ومناطق تقع داخلها في الشمال والشرق، وهي مناطق “بيروزي” شرق العاصمة، ومحيط سجن “فشافويه” جنوب شرق العاصمة، ومنطقة “أفسريه” شرق العاصمة، ومجمع عسكري في منطقة “خجير” شرق العاصمة، وموقع للدفاع الجوي وآخر خاص بأبحاث الصواريخ في منطقة “بارتشين” جنوب شرق العاصمة، وموقع عسكري في منطقة “دماوند” شرق العاصمة.

على المستوى الميداني، تم حتى الآن تأكيد إصابة بعض المواقع السالف ذكرها، حيث نشر الإعلام الإيراني صورًا للأضرار التي لحقت بموقع داخل مجمع “شمس آباد” الصناعي، الواقع شمال منطقة “إسلام شهر” جنوب غرب طهران، بجانب تأكيد الصور الجوية حدوث أضرار متوسطة ودقيقة في آن واحد لمستودعات ومبانٍ في مجمع عسكري في منطقة “خجير” شرق العاصمة طهران، وموقع خاص بأبحاث الصواريخ في منطقة “بارتشين” جنوب شرق العاصمة.

مسارات الضربة وكيفية تنفيذها

أثارت هذه الضربة عدة تساؤلات ترتبط بمسار تحليق المقاتلات المشاركة فيها، ونوعية الذخائر التي تم استخدامها خلال هذه الضربة، ومجددًا كان العراق مصدر الإجابة على كافة هذه التساؤلات، فكما حدث في ضربة أبريل على أصفهان، حين عثرت السلطات العراقية على محركات دافعة لثلاث صواريخ إسرائيلية في منطقة العزيزية في محافظة واسط، ومنطقة اللطيفية في بغداد، عثرت السلطات العراقية أيضًا عقب الضربة على طهران على محركات دافعة لصاروخين، في محافظة صلاح الدين، إحداهما في منطقة تقع وسط المحافظة، والآخر في مدينة سامراء غربي المحافظة.

تطابق المحركات التي تم العثور عليها في كلا الضربتين أشار بشكل واضح إلى استخدام صواريخ باليستية مطلقة من الجو، وتحديدًا صواريخ “rocks” وهي جيل حديث من الصواريخ الباليستية المطلقة من الجو، مشتق في تصميمه من صاروخ “Blue sparrow”، وهو صاروخ هدفي يستخدم لتدريب وحدات الدفاع الجوي بعيدة المدى، ويمكن تذخيره.  تشير المعلومات المتوفرة، إلى أن مدى صاروخ “rocks”،ة يتراوح بين 600 و800 كيلو متر، في حين قد يصل مدى صواريخ “Blue sparrow” في حالة تذخيرها واستخدامها إلى نحو 1000 كيلو متر.

مما سبق يمكن القول إنه يرجح بشكل كبير أن المقاتلات التي شاركت في هذه الضربة، قد نفذتها من خارج الأجواء الأيرانية، على نسق مطابق لما حدث في أبريل الماضي، وبالتالي سلكت المقاتلات مسارًا من المسارين المحتملين للتوجه نحو إيران، ثم قامت بإطلاق الصواريخ على أهدافها من منطقة تقع غربي محافظة صلاح الدين.

هنا يظهر فارق أساسي بين ضربة أبريل وضربة أكتوبر، يرتبط بأن ضربة أبريل تزامنت مع إطلاق طائرات مسيرة صغيرة، من اتجاهين مختلفين على الأراضي الإيرانية، نحو المواقع المستهدفة في مدينة أصفهان، لإشغال الدفاعات الجوية الإيرانية، ومن ثم أطلقت المقاتلات الإسرائيلية صواريخها، في حين غابت الخطوة الأولى في الضربة الأخيرة، رغم ورود أنباء عن تحليق طائرات مسيرة في أجواء عدة مناطق إيرانية، وهو ما يفسر تفعيل مدفعية الدفاع الجوي الإيرانية، مع بروز علامة استفهام تتعلق بغياب دور الدفاعات الجوية الصاروخية.

جدير بالذكر أن صواريخ “Blue sparrow” قد استخدمتها إسرائيل في تجارب صاروخية متتالية في أعوام 2002 و2013 و2014 و2020، من أجل اختبار أداء منظومات الدفاع الجوي الصاروخي “مقلاع داوود” و”حيتس”، نظرًا لأن هذا النوع من الصواريخ الباليستية المطلقة جوًا يطابق في أدائه صواريخ “سكود” السوفيتية، وهنا يمكن القول إنه توجد احتمالية معقولة لأن تكون إسرائيل قد استخدمت النسخ “التدريبية وليست القتالية” من هذا النوع من الصواريخ في هجوم 26 أكتوبر، وبالتالي أحجمت -استجابة للضغوط الأمريكية- عن إلحاق أضرار بالغة في المنشآت الإيرانية، وكذلك ابتعدت عن استخدام إمكانياتها العسكرية الأساسية في تنفيذ هذه الضربة، سواء الصواريخ الباليستية من نوعي “جيركو-1″ (مداه الأقصى ما بين 1500 و3500 كيلو متر)، و”جيركو-2” (مداه الأقصى بين 4800 و6500 كيلو متر)، أو استخدام الغواصات الإسرائيلية من الفئة “دولفين” (عددها الإجمالي خمسة)، لتنفيذ ضربات صاروخية باستخدام النسخة البحرية من صواريخ “بوب أي”، (يبلغ مداها الأقصى بين 1500 و2500 كيلو متر).

جدير بالذكر أن الجيش الإسرائيلي قد نشر تسجيلًا مصورًا لعملية إعداد المقاتلات المشاركة في هذه الضربة، ويلاحظ هنا أن المقاتلات الظاهرة في التسجيل -وهي من نوعي إف-15 وإف-16- ظهرت مسلحة فقط بصواريخ جو – جو، أي أنه كان هناك تعمد لعدم إظهار نوع الذخائر التي استُخدمت في هذه الغارات. وظهرت المقاتلات في هذا التسجيل، محملة بكميات كبيرة من الوقود، بواقع ثلاث خزانات لكل طائرة. الملاحظة الثانية هي مشاركة المقاتلة المرقمة 957 من نوع إف-15 في هذه الغارة، وهي مقاتلة لها سجل تاريخي مهم، حيث أسقطت عام 1982 ما مجموعه خمس مقاتلات سورية، وسبق وحلقت بدون أحد أجنحتها بعد تضرره أثناء التحليق عام 1983، وشاركت في الضربات الجوية الإسرائيلية على اليمن مؤخرًا.

في الخلاصة، تبدو ضربتا أبريل وأكتوبر نسخة من بعضهما البعض، سواء في التمهيد المعلن لهما، أو في طريقة التنفيذ، او حتى في نوعية الأهداف، وإن كانت كثافة المواقع التي تم استهدافها تنبئ بفارق أساسي عن ضربة أبريل، لكن في المجمل يمكن القول إن الضربة الجوية الإسرائيلية قد تمت في الحدود المتوقعة دون تصعيد نوعي، بمعنى أنها استهدفت مواقع “عسكرية” بحتة. وهنا يلاحظ أن تل أبيب في بيانها “السريع” حول هذه الضربة أكدت بشكل لافت على أن الضربات “دقيقة” وعلى أن الأهداف التي تم قصفها “عسكرية”، كما أن الجانب الإيراني كان حريصًا على التأكيد على أن الانفجارات التي سمعت في طهران ناتجة عن نشاط الدفاع الجوي الإيراني، ونفى تعرض مطار الخميني أو المنشآت النفطية لغارات جوية، ثم تم تعديل الخطاب الإيراني ليعترف بشكل واضح بحدوث محاولات لاستهداف محافظات طهران وخوزستان وإيلام، وهنا يجب التنويه أن محافظتي خوزستان وإيلام ملاصقتين للحدود مع العراق، ولم تتوفر دلائل واضحة على تعرضهما لعمليات استهداف.

وبالنظر إلى رد الفعل الإيراني حتى الآن، يمكن القول إن طهران تريد “استيعاب” هذه الضربة، ولا ترغب في إظهار تعرضها لخسائر كبيرة أو لضربة نوعية، ما قد يلزمها برد فوري وسريع، خاصة أنه من الواضح عدم تمكن دفاعاتها الجوية من التصدي للضربة الجوية الإسرائيلية. أما على المستوى الأمريكي، فقد أكد بيان واشنطن على مبدأ “الدفاع عن النفس”، وهو توجه يراد منه تجنب أي رد فعل إيراني تجاه واشنطن، وفي نفس الوقت النأي بالنفس عن هذه الضربة وعن أي دور فيها، وبات كل التركيز في الوقت الحالي منصبًا على إدارة المشهد المقبل، الذي يأتي فيه الدور على طهران لتنفيذ ردها على الضربة -المُتحكم بها- التي تلقتها.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M