شهدت العاصمة البلجيكية بروكسيل في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي انعقاد أول قمة أوروبية – خليجية على مستوى قادة الدول في الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، برئاسة مشتركة من رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، رئيس الدورة الحالية للمجلس الأعلى لمجلس التعاون. وقد وصف الجانبان هذه القمة بأنها خطوة تاريخية.
جاءت القمة في ظل أزمات جيوسياسية واقتصادية معقدة في الشرق الأوسط، إلى جانب الحرب الروسية الأوكرانية، وتصاعد حدة التوترات في بحر الصين الجنوبي، وهو ما يجعل رمزية القمة وتوقيتها أمرين بالغي الأهمية في السياق الدولي الحالي. وفي الحديث عن الرمزية، يبدو أنها هي الأكثر أهمية وسط هذه الظروف.
فصل جديد في العلاقات الخليجية الأوروبية
كانت الصورة التي جمعت القادة أو نوابهم من جميع الدول المدعوة إلى بروكسيل بأعداد كبيرة – عدد الحضور كان مدهشًا نظرًا الى الأحداث الجارية – تعبّر عن تركيز قوي على التعاون والاستقرار والازدهار في وقت يعصف الاضطراب والصراع بالعالم، وتشير إلى الأولوية التي يمنحها الجانبان لتعزيز العلاقات بينهما.
عمل كل من الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي على تنويع شراكاتهما بعيدًا من الشركاء التقليديين، في سعيهما الى تحقيق استقلال استراتيجي أكبر، كما هو الحال مع “آسيان” بالنسبة الى الاتحاد الأوروبي و”بريكس” بالنسبة الى المجلس
تمثّل القمة ثمرة سنوات عدة من العمل الذي بدأ في عام 2022 عندما قرر الاتحاد الأوروبي التركيز على الارتقاء بالعلاقات الخليجية الأوروبية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية. حينها تم تعيين أول ممثل خاص له في الخليج ليقود هذه الجهود، وكانت نتائج تلك الخطوات تأسيس غرفة التجارة الأوروبية، التي تتخذ من السعودية مقرًا لها، إلى جانب عدد من المنتديات والمبادرات الثنائية الأخرى. مع ذلك، كانت توقعات المراقبين في شأن نتائج القمة منخفضة نظرًا الى الاختلافات في آراء الجانبين حول قضايا رئيسة.
ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء السعودي الأمير محمد بن سلمان، يجتمع بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على هامش فعاليات قمة الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي، في بروكسيل، 16 أكتوبر 2024.
تأتي تلك الشكوك حول مدى أهمية القمة والنتائج المرجوة منها نظرًا الى مدى استجابة الاتحاد الأوروبي لأزمات الشرق الأوسط، مقارنةً بالنزاع الأوكراني، وبعض المماحكات السياسية الطويلة مثل مخاوف الاتحاد الأوروبي في شأن سجلات حقوق الإنسان، وروابط التعاون بين الدول الخليجية مع روسيا والصين. وقد علّق الشيخ تميم على أهمية أن تؤدي العلاقات الوثيقة إلى احترام أكبر للعدالة الدولية، بعيدًا من “سياسات المعايير المزدوجة”.
الطريق الوسط
هناك جانب آخر يمكن النظر إليه عند تقييم أهمية هذه القمة وتأثيرها. في عالم يزداد انقسامًا وغموضًا، حيث لم تعد القوى التقليدية قادرة على فرض نفوذها، أصبحت تحالفات القوى الوسطى أكثر أهمية وتسعى بقوة الى تحقيقها. وقد عمل كل من الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي على تنويع شراكاتهما بعيدًا من الشركاء التقليديين، في سعيهما الى تحقيق استقلال استراتيجي أكبر، كما هو الحال مع “آسيان” بالنسبة الى الاتحاد الأوروبي و”بريكس” بالنسبة الى مجلس التعاون الخليجي.
من جهة أخرى، يظل المستقبل السياسي للولايات المتحدة بعد الانتخابات الرئاسية غير مؤكد، مما يشكل تحديًا لكل من مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي. ويثير هذا الوضع تساؤلات حول مدى التزام واشنطن أمن المنطقة، خاصة مع تزايد قلق الاتحاد الأوروبي من نيات روسيا في أوروبا واستمرار الأزمة في أوكرانيا، مما يبرز أهمية وجود شراكة متينة بين الاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي.
في ظل استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، سيكون من المفيد للاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي أن يكون لهما أصدقاء جيدون قريبون
وفي ظل احتمال تراجع الحضور أو الاهتمام الأميركي في أوروبا، واستمرار الدعم الأميركي لأنشطة إسرائيل المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، سيكون من المفيد للاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي أن يكون لهما أصدقاء جيدون قريبون.
يسعى كلا الطرفين إلى تعزيز الاعتماد الاستراتيجي المتبادل، لكن التحديات التي أعاقت أو منعت التعاون الوثيق سابقًا لا تزال قائمة. وبالتالي، فإن تحقيق الاتفاق سيتطلب مرونة، وابتكارًا في النهج، وتقديرًا لمواقف كل طرف ونقاط قوته والأصول القابلة للاستثمار لتحقيق الأهداف المشتركة.
ما التوقعات للمستقبل؟
البيان المشترك الصادر في ختام القمة يشير إلى الاعتراف الواضح بما هو مطلوب، حيث أكد التزام الجانبين التوصل إلى حل الدولتين في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. كما رحب بإطلاق “التحالف العالمي لتحقيق دولة فلسطينية وحل الدولتين” في 27 سبتمبر/أيلول، على هامش أعمال الأسبوع الرفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة، بقيادة مشتركة بين السعودية والاتحاد الأوروبي والنروج.
حاليًا، تعترف تسع دول من أصل 27 دولة عضوا في الاتحاد الأوروبي بدولة فلسطين، وعلى الرغم من أن البيان الختامي للقمة لم يصل إلى مستوى الاعتراف الأوروبي الكامل بدولة فلسطينية، لا شك أن هذا هدف ستسعى دول مجلس التعاون الخليجي الى تحقيقه في المحافل المقبلة.
يعتبر الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، وحقق تبادلًا تجاريًا قدره 170 مليار يورو في 2023
كذلك، لفت البيان إلى أهمية التواصل الديبلوماسي مع إيران، في إشارة واضحة إلى النهج الذي يتبعه مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك الاهتمام بالحوار بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي لضمان أن يظل البرنامج النووي الإيراني سلميًا.
فرصة للتقدم الحقيقي في العلاقات المشتركة
وبالنظر إلى فشل إشراك دول مجلس التعاون الخليجي في مفاوضات الاتفاق النووي لعام 2015 (JCPOA)، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، واحتمال العودة إلى سياسة الضغط الأقصى إذا عاد إلى البيت الأبيض في نوفمبر/تشرين الثاني، فقد يكون لهذا الحوار أهمية كبيرة في تحقيق نتائج ملموسة، خصوصا إذا استطاع الاستفادة من العلاقات المستجدة التي أقامها مجلس التعاون الخليجي مع إيران.
وعلى نحو منفصل، اتفق الجانبان على استئناف المفاوضات حول اتفاقية التجارة الحرة التي بدأت منذ نحو خمسة وعشرين عامًا وتوقفت في عام 2008، حيث يعتبر الاتحاد الأوروبي ثاني أكبر شريك تجاري لدول مجلس التعاون الخليجي، وحقق تبادلًا تجاريًا قدره 170 مليار يورو في 2023. ولكن الاختلافات حول المعايير البيئية وحقوق الإنسان وقوانين المشتريات العامة، وغيرها من القضايا كانت دائمًا سببًا في تعثر التقدم.
إلا أن اختيار البيان عبارة “استكشاف اتفاقات تجارية واستثمارية مخصصة”، يعكس استعدادًا طال انتظاره للتفكير خارج الأطر التقليدية.
وضعت هذه القمة أسسا قوية لشراكة صلبة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، وخطوة أولى نحو تنفيذ إجراءات ومواقف
وضعت هذه القمة أسسا قوية لشراكة صلبة بين الاتحاد الأوروبي ومجلس التعاون الخليجي، ومن الواضح من السياق الجيوسياسي الحالي أن الأفعال أبلغ من الأقوال، وهذه القمة هي خطوة أولى نحو تنفيذ إجراءات ومواقف مشتركة يمكن أن تحدث فارقًا ملموسًا.
ومن المقرر أن تستضيف الرياض القمة المقبلة في عام 2026، مما يوفر فرصة للعمل على تحقيق شراكة استراتيجية والسعي نحو نتائج مفيدة للطرفين.