بصوت هادئ بان عليه التعب وبكلمات غابت عنها الندية والمرارة العاليتين اللتين طبعتا خطاباته على مدى نحو أربعة أعوام، قال دونالد ترمب أمام جمهور صغير في فلوريدا في آخر ليل الثلثاء-الإربعاء، معلنا فوزه في الانتخابات الأميركية: “لقد تغلبنا على مصاعب لم يتصور أحدٌ أنه كان ممكنا التغلب عليها. أصبح واضحا أننا أنجزنا الشيء السياسي الأعظم، انظروا لما حدث، أليس هذا شيئا مذهلا؟”.
يبدو أن الرجل فعلا صنع شيئا مذهلا. من رئيس سابق تلاحقه دعاوى قضائية كثيرة كانت ستقوده إلى السجن، ومحاولتي اغتيال، وخصم انتخابي “ديمقراطي” قوي وعالي التنظيم، بيده السلطة، ولديه أموال انتخابية أكثر مما لدى ترمب، واستطلاعات رأي كانت أغلبيتها تمنحه المرتبة الثانية في التنافس، من هذا كله، حيث ظهر ترمب في الموقع الأضعف على نحو مزمن تقريبا، انتقل الرجل في غضون يوم واحد، الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني، إلى الموقع الأقوى في العالم ليصبح رئيس أميركا المقبل.
كان الفوز الذي حققه نظيفا وكاسحا وجديدا. بفارق في الأصوات يصل إلى ستة ملايين عن منافسته كامالا هاريس، إذ حصل، حسب المعطيات الأولية، على 72 مليون صوت مقابل 67 مليونا لمنافسته “الديمقراطية”. وبذلك فقد حقق ترمب أول فوز له في التصويت الشعبي في تاريخه السياسي، إذ خسر في التصويت الشعبي في انتخابات 2016، بفارق ثلاثة ملايين صوت تقريبا لصالح منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، رغم فوزه بأصوات “المجمع الانتخابي” الضرورية للفوز بالبيت الأبيض، لتتضاعف خسارته في التصويت الشعبي أمام جو بايدن بعد ذلك بأربع سنوات، في انتخابات 2020، لتصل بحدود ثمانية ملايين صوت، فضلا عن خسارته أصوات المجمع الانتخابي، ومعها البيت الأبيض.
هذه المرة جمع ترمب بين الفوز في التصويتين “الشعبي” و”الانتخابي” ما يمنح رئاسته المقبلة المزيد من الشرعية الشعبية.
تزداد أهمية فوز ترمب الرئاسي بفوز حزبه “الجمهوري” بمجلس الشيوخ، واحتمال الاحتفاط بسيطرته على مجلس النواب أيضا. وإذا استطاع “الحزب الجمهوري” الاحتفاظ بمجلس النواب، فسيعني هذا سيطرة كاملة لـ “الجمهوريين” على السلطتين التنفيذية والتشريعية، تساعدهم على تمرير سياساتهم وتنفيذها خصوصا الداخلية منها كمنح إعفاءات ضريبية لتنشيط الاقتصاد وفرض رسوم عالية على الاستيراد الأجنبي، خصوصا الصيني منه، ومواصلة بناء الجدار العازل في الحدود الجنوبية مع المكسيك لوقف الهجرة غير الشرعية.
وقد مثلت هاتان القضيتان، الاقتصاد والهجرة، عماد الحملة الانتخابية الجمهورية الرئاسية والنيابية، وتمحور معظم خطاب ترمب حول الربط بينهما، بوصفهما سببا في فشل خصومه “الديمقراطيين” في إدارة البلد وابتعاد الناخبين عنهم لصالح “الجمهوريين”.
على الأغلب سيدفع ترمب بقوة لصفقة تفاوضية تنهي الحرب بين أوكرانيا وروسيا تشمل ضمانات باحترام استقلال أوكرانيا وبعض التنازلات بخصوص أراض أوكرانية تسيطر عليها روسيا
وبخلاف السياسة الداخلية التي دارت حولها الحملة الانتخابية “الجمهورية” وتضمنت عموما الكثير من التفاصيل والمعلومات، هناك شحة كبيرة بخصوص القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية، إذ جرى تناولها على نحو عابر وخطابي دائما، كما في قول ترمب أكثر من مرة إنه سينهي الحرب الروسية-الأوكرانية في خلال 24 ساعة، ووعده الذي أطلقه قبل أيام لناخبين عرب أميركيين في ولاية ميشيغان من “أنكم ستحصلون على السلام هناك في الشرق الأوسط” لكن من دون أن يوضح كيفية تحقيق هذا الوعد..
حتى مع شحة المعلومات والخطط هذه، يمكن توقع بعض سياسات ترمب الخارجية على أساس سجله السابق كرئيس بين عامي 2016 و2020، وبعض التوجهات “الجمهورية” العامة التي تنسجم مع إعلاناته القليلة بخصوص كيفية إدارة ملفات السياسة الخارجية.
أنصار ترمب يحتفلون بإعلان قناة “فوكس نيوز” فوزه بالانتخابات في مركز مؤتمرات ويست بالم بيتش بولاية فلوريدا، في 6 نوفمبر
وسيكون الموقف من “حلف شمال الأطلسي” (ناتو) وكيفية التعاطي مع الحرب الروسية-الأوكرانية في مقدمة التحديات التي ستواجهها إدارة ترمب. وحتى مع الميل الشخصي الذي يشعر به ترمب نحو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سيكون صعبا عليه أن يقف إلى جانب روسيا ضد أوكرانيا في حرب البلدين المستعرة منذ عام 2022.
أوكرانيا… بين الانتقاد والتخلي
انتقد ترمب في حملته الانتخابية إنفاق الأموال الأميركية على الدعم العسكري لأوكرانيا، في سياق إظهاره فشل إدارة بايدن في سياستها الخارجية، لكن قد تكون هذه مادة مناسبة في صراع انتخابي، وليس لسياسة خارجية.
على الأغلب سيسعى ترمب لتقليل الدعم العسكري الأميركي لأوكرانيا وسيضغط على حلفائه الأوروبيين في “ناتو” لتولي هذا الدعم عن أميركا. لكن لن تستطيع الإدارة “الترمبية” المقبلة التخلي عن أوكرانيا تماما لصالح روسيا، فالكثير من “الجمهوريين” يدعمون الوقوف بوجه التمدد الروسي بوصف هذا التمدد تهديدا لأمن أوروبا الذي لا تستطيع أميركا انعزالية في عهد ترمب التخلي عنه ببساطة. مثل هذا التخلي سيعني تفكيك “ناتو”، عبر انسحاب أميركا منه، وهو ما أراد ترمب القيام به في رئاسته الأولى لكنه ووجه بمعارضة داخلية قوية منعته من ذلك، باعتبار “ناتو” جزءا أساسيا من استراتيجية الأمن القومي الأميركي الناجحة على امتداد نحو 80 عاما.
ثم إن هناك التكلفة السياسية الهائلة التي سيدفعها ترمب داخليا في أميركا إذا ظهر أنه يراعي المصالح الروسية ويقوي موقف بوتين إزاء موقف الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي وزعماء الدول الأوروبية الغربية من حلفاء أميركا التقليديين. وعلى الأغلب سيدفع ترمب بقوة لصفقة تفاوضية تنهي الحرب بين أوكرانيا وروسيا تتضمن ضمانات باحترام استقلال أوكرانيا وبعض التنازلات بخصوص أراض أوكرانية تسيطر عليها روسيا. وتدعم بعض الأطراف الأوروبية مثل هذا الحل، لكن هناك رفضا أوكرانيا شديدا لصفقة كهذه، ما يعني تأزما في العلاقات الأميركية-الأوكرانية وتعرض زيلينسكي للمزيد من الضغط الأميركي.
لا يريد ترمب أن تتسع وتشتد حرب إسرائيل ضد خصومها، وتحديدا إيران، لأن هذا سيعتبر فشلا سياسيا له خلال شهوره الأولى في البيت الأبيض
وسيكون الشرق الأوسط ساحة الاختبار الأولى لسياسة ترمب الخارجية، إذ سيكون على الرجل التعاطي مع حرب متعددة الجبهات هناك، تمر الآن بفترة تراجع مؤقت في حدتها، بانتظار نتائج الانتخابات الأميركية.
نتنياهو… الرابح
وتأتي نتيجة هذه الانتخابات لصالح حكومة اليمين الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو الذي له علاقة شخصية بترمب أفضل من علاقته بالرئيس الحالي بايدن، خصوصا أن ترمب يتخذ قرارات سياسية سريعة على أساس انطباعات شخصية، كما في إصراره على سحب القوات الأميركية من سوريا في 2019 بعد محادثة هاتفية له مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يتمتع أيضا بعلاقة جيدة مع ترمب يمكن أن تؤثر سلبا بدورها على الدعم الأميركي لـ”قوات سوريا الديمقراطية”(قسد)، خصم تركيا في شمال شرقي سوريا. وقد أدت عاصفة شديدة من اعتراضات عسكريين وسياسيين أميركيين إلى تراجع ترمب عن قراره وقتها.
أنصار ترمب يحتفلون في مركز مؤتمرات بالم بيتش في 6 نوفمبر
وكما في الشأن الروسي- الأوكراني، هناك حدود لما هو شخصي في تحديد سياسات الدولة الأقوى في العالم. وسيتحرر نتنياهو من ضغط بايدن المباشر والمستمر عليه، وسيحصل على حيز أكثر للحركة في ظل رئاسة ترمب، لكنه لن يكون مطلق اليد خصوصا إذا عنى هذا الأمر اشتعال الجبهات في الشرق الأوسط مرة أخرى. ولا يريد ترمب- المعروف بمقته للحروب والذي يفاخر دائما بأن عهده لم يشهد دخول أميركا فيها- أن تتسع وتشتد حرب إسرائيل ضد خصومها، وتحديدا إيران، لأن هذا سيعتبر فشلا سياسيا له خلال شهوره الأولى في البيت الأبيض.
غزة ولبنان… تركة بايدن
يبدو منطقيا هنا أن تستفيد إدارة ترمب من تركة إدارة بايدن بهذا الخصوص، إذ أنجزت هذه الأخيرة خارطة طريق بخصوص إنهاء حرب غزة، حددها قرار لمجلس الأمن الدولي في يوليو/تموز الماضي وتتضمن وقفا لإطلاق النار وتبادل رهائن وأسرى وحملة إعمار كبرى في غزة. وسيكون على إدارة ترمب المجيء بأفق سياسي يتجاوز- لكن يبني على- حملة الإعمار هذه، من خلال العمل بجدية وسرعة على حل الدولتين، وهو المطلب الذي تصر عليه دول عربية كثيرة، بينها المملكة العربية السعودية التي يحرص ترمب على علاقة جيدة معها، شرطا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل.
الأمر ذاته ستتبعه إدارة ترمب بخصوص لبنان بالاعتماد على ما صاغته إدارة بايدن، بقبول إسرائيلي وعربي وأوروبي: تطبيق القرار الدولي 1701، بما يعنيه من انسحاب لـ”حزب الله” من منطقة شمالي نهر الليطاني، فضلا عن الموضوع الآخر المرتبط به، والأكثر أهمية إسرائيليا وأميركيا، المتعلق بتفكيك سلاح “الحزب” واحتكار الدولة اللبنانية للسلاح وقرار الحرب والسلم، وذلك مقابل مساعدة هذه الأخيرة في حملة إعمار اقتصادي.
يبدو أن الفرصة سانحة للإدارة الترمبية لتوظيف النجاح العسكري الإسرائيلي، وربما تعميقه عبر المزيد من الدعم العسكري
يثير هذا بدوره الموضوع الآخر الذي لا يقل تعقيدا أو إثارة للخلاف: إيران وكيفية التعاطي معها. في ظل “الانتشاء” الإسرائيلي الحالي، بعد النجاحات العسكرية في لبنان وغزة، ثمة رغبة قوية لدى اليمين الإسرائيلي بفتح جبهة عسكرية ضد إيران “لتصفية الحسابات” معها، من ضمنها تدمير برنامجها النووي وترسانتها الصاروخية ومصانع أسلحتها، على نحو يؤدي إلى إضعاف النظام بشدة وجعله ينكفئ داخليا أو يمهد للإطاحة به من معارضيه الداخليين والخارجيين. لا تحظى رغبة تصفيات الحسابات هذه بتعاطف أميركي، وعلى الأغلب سيرفض ترمب الاستثمار في مغامرة عسكرية-سياسية مفتوحة وخطيرة كهذه.
إيران… الضغط وليس الحرب
ما تريده إدارة ترمب هو أقل من هذا، ودون استخدام واسع لأدوات عسكرية حتى مع التهديد باستخدامها كأداة ضغط على نحو محدود في حال اتخاذ قرار الاستخدام. الرغبة الأميركية، في ظل إدارة ترمب، هي التعامل مع الملفات الإيرانية الثلاثة كحزمة واحدة تحتاج حلا واسعا واحدا أو صفقة كبرى، بعكس الإدارات الديمقراطية السابقة التي كانت تجزئ هذه الملفات وتتعاطى مع كل واحد على حدة: الملف النووي، ملف الصواريخ الباليستية، وملف “محور المقاومة” أي الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران والتي تنشط في دول عربية مختلفة كالعراق ولبنان وسوريا واليمن ضد المصالح الأميركية والغربية وتواجه إسرائيل، فضلا عن تقويضها سلطة الدول الوطنية العربية نفسها.
ترمب وزوجته ميلانيا وابنه بارون في مركز مؤتمرات ويست بالم بيتش، في 6 نوفمبر
يبدو هذا الوقت فرصة سانحة للإدارة “الترمبية” المقبلة لتوظيف النجاح العسكري الإسرائيلي، وربما تعميقه عبر المزيد من الدعم العسكري، كما توظيف السخط الرسمي والشعبي العربي لحل هذه الملفات في إطار صفقة ما كبرى تتسق مع أسلوب ترمب الشخصي كرجل أعمال في التعاطي مع التحديات والأزمات: التفاوض في ظل ممارسة ضغوط وتهديدات مختلفة لدفع الطرف الآخر لإبرام الصفقة المطلوبة.
في هذا السياق ستعود إدارة ترمب إلى أسلوبها المفضل بخصوص إيران المتمثل في ممارسة الضغوط الاقتصادية والسياسية القصوى عبر تمتين نظام العقوبات ضد طهران، الذي تراخت إدارة بايدن في تطبيقه، وذلك بالتزامن مع التلويح بضربات عسكرية محدودة إذا تطلب الأمر، أو السماح لإسرائيل بضربات مؤثرة لا تتحول حربا.
سيكون لبنان على الأغلب موضع الاختبار الأول لهذه الاستراتيجية، فلا نزع لسلاح “حزب الله”، كما تصر أميركا وإسرائيل، من دون موافقة إيرانية على هذا النزع، لأن هذا ملف يديره مكتب “المرشد” علي خامنئي، السلطة الأعلى في إيران، والقرار بشأنه، إذا اتُّخذ، لن يكون أمرا منفصلا عن ملفات أخرى تؤزم العلاقة بين أميركا وإيران منذ أكثر من أربعين عاما.